إنّ التاريخ حمّال روايات مختلفة يتجاذبها المتن والهامش، وعادة ما يسود المتن بالرواية الرسمية، لكنّ الهامش يكتنز دوماً بالمفاجآت. ومن خلال قراءة كتب التراث العربي، نجد أنّ مفهوم الجمال، بصيغتيه المعنوية والمادية، قد نال قصب السبق بالاهتمام، فهل عرف العرب الجراحات التجميلية؟
أنف من ذهب، رجل من خشب، أصابع من جلد... قصص عن الجسد وتجميله من التراث العربي
ربما نبالغ إنْ قلنا أنّ الأطباء العرب والمسلمين كانوا رواداً في جراحة التجميل؛ ولكن هذا ما يزعمه الدكتور محمود الحاج قاسم محمد في كتابه "الطب عند العرب والمسلمين، تاريخ ومساهمات"، مضيفاً أن الآلات الجراحية التي اخترعها الزهراوي وعرض لها في الجزء الثلاثين من كتابه موضّحة بالرسوم، مازال الطب يستخدم معظمها إلى الآن. ويستكمل القول بأنّه ليس في التراث العربي الطبي ما يُدعى الجراحة التجميلية (التقويمية) بشكل مخصوص، لكنّها تدخل في عموم الجراحة.
لا ريب أنّ مصطلح طب التجميل -كما نعهده الآن- سيكون فضفاضاً على تلك الممارسات التي سنرصدها في كتاب ابن سينا "القانون في الطب"، الذي خصص أربعة فصول للحديث عن الزينة وأدواتها والوصفات الطبية لها، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" للزهراوي.
جراحات تجميلية في الطب العربي القديم
إنّ ترجيح الظنّ بوجود جراحات تجميلية في الطب العربي الإسلامي، سيكون قائماً على الغايات والفوائد المرجوة من هذه العمليات الجراحية وهذا ما سنورده أدناه:
عرض الرازي في كتابه "الحاوي" عن شقاق الشفة/ شفة الأرنب، الناتج عن الولادة أو الجروح في الحرب وغيرها، وشرح كيفية إعادة الهيئة السليمة لهذه الشفة، ويأتي تعليقه على المخطئين في تطبيبهم للشفة المشرومة مبرزاً الجانب الجمالي، فيقول: "الساهون يقطعون ذلك خلفاً، وفعلهم في ذلك خطأ، وذلك أنّهم يقطعون قطعة من الجلد واللحم معاً، ثم يجمعون طرفي الجلد ويخيطونه، فتجيء الشفة أصغر ممّا كانت".
ويصف الزهراوي الشفة التي تصاب بالثآليل والبثور الدائمة، فيوصي الطبيب أن يقلب الشفة، وبالتالي تتم معالجتها من الداخل، وذلك كيلا تظهر الجروح على سطح جلد الشفة الخارجي. أما ثآليل الأنف والتي يرى فيها الزهراوي ما يسيء إلى جمال الأنف، فيعرض كيفية استئصالها عبر التجريف والكي.
وفي حالات الأصابع الملتصقة ووجود إصبع زائدة في الكفّ، فيقدّم صاحب كتاب "التصريف" حلولاً لبتر الإصبع الزائدة وفصل الأصابع الملتصقة عند الولادة، أو نتيجة لعارض ما. ويختم حديثه بضرورة أن تكون الجراحة بطريقة تصلح فيها شكل العضو.
لم تتوقف المجتمعات العربية عند الاهتمام بالزينة والتجميل وصلاح الأعضاء، بل سعت إلى تجميل الأعضاء التالفة، سواء كان الأمر بالجراحة أو بالمعالجة الطبية.
ونرى الجراحة ذات الغاية التجميلية بوضوح في إصلاح ثدي الرجل الذي يشبه ثدي النساء. ويعلّق الدكتور محمود الحاج أنّنا نرى في هذه المعالجة الطبية، عند الطبيب العربي علي بن العباس والزهراوي، الغايات التجميلية بوضوح. يقول الطبيب علي بن العباس: "من الرجال من يعظم ثدياه حتى يصيرا قريبين من أثداء النساء، فيستقبح منهم ذلك"، ومن ثم يصف كيف يشق الثدي، وينزع الشحم، ويخاط الجلد مع مراعاة ألا يتهدّل الثدي.
لم تتوقف المجتمعات العربية عند الاهتمام بالزينة والتجميل وصلاح الأعضاء، بل سعت إلى تجميل الأعضاء التالفة، سواء كان الأمر بالجراحة أو بالمعالجة الطبية
يؤدي فقدان الأعضاء في الجسد إلى خسارة حركية وجمالية، وبالتالي ضرورة تعويض العضو المفقود. ومن الأمثلة التي يذكرها التراث، أن الزمخشري قطعت رجله لعارض أصابه، فاستعاض عنها برجل من خشب.
وقد ذكر ابن قتيبة في ترجمة الشاعر خلف بن خليفة أنّه كان أقطع اليد، وله أصابع صنعت من جلد. وهناك من وضع أنفاً من ذهب، وهو عرفجة بن سعد الذي أصيب في واقعة يوم كلاب وقطع أنفه، فاستبدله بأنف من فضة، فصدئ وتعفّن، فأمره الرسول أن يتخذ أنفاً من ذهب، لأنّ الذهب لا يصدأ. ونصح الزهرواي من تسقط أسنانهم بإعادة تثبيتها بأسلاك من ذهب، أو ينحت على مثالها من عظام البقر وتثبّت في الفم.
تطبيب وتجميل
نستطيع أن نجادل بكون الجراحات التي رأينا فيها مقدمات لطب التجميل بأنّها من باب الداء والدواء، وأمّا الغاية التجميلية، فإن كانت عارضاً مقصوداً أو غير مقصود، فلا يجب أن نشطّ بالتفسير ونحمل الألفاظ أكثر مما تحتمل من معانٍ. لكن، لكي نستوضح أكثر ميلنا نحو وجود غاية تجميلية في تلك الجراحات، لا بدّ أن نعرض لبعض أدوية الزينة التي جاءت في قانون ابن سينا.
في الفصل المتعلّق بالشعر، يقدم لنا ابن سينا وصفات عديدة للمحافظة عليه وإنباته ونزعه. فمنها ما يتعلّق بمكافحة الصلع وتكثيف شعر اللحية وتثبيت شعر الحواجب، ويقدم وصفة لذلك: "يؤخذ القصب المحروق ويمزج مع رماد الضفادع المحروقة ويخلط مع بزر الجرجير المسحوق بدهن الغار". أمّا في إزالة الشعر، فيشير إلى استخدام النورة والزرنيخ مع قليل من الصبّار، ولهذا المزيج تأثير مزيل للشعر.
للحفاظ على جلدة الوجه من الشمس والريح والبرد، ولمن أراد التخلّص من الوشم/ التاتو/ ترك لنا ابن سينا هذه الوصفات
ويضيف فصلاً لمنع إنبات الشعر، فبعد نتف الشعر يطلى الموضع بالبنج والأفيون والخل والشوكران. ويتابع ابن سينا في وصفاته المتعلّقة بكيفية تجعيد الشعر، ومنع الشيب، وما يشقّر الشعر(أي تحويله إلى اللون الفاتح)، وما يزيد من سواده. حتى أنّه ذهب إلى تفتيح الجلد بالمبيضات.
للحفاظ على جلدة الوجه من الشمس والريح والبرد، ولمن أراد التخلّص من الوشم ترك لنا ابن سينا هذه الوصفات:
أمّا من أراد التخلّص من الوشم فصيدلية ابن سينا تقدّم له وصفة مجرّبة، وذلك بأن يغسل موضع الوشم بملح النطرون، ثم يوضع عليه نبات البطم أسبوعاً. وبعدها يفرك جيداً بملح النطرون، وإن لم ينفع يجب معالجة كل نقطة من نقاط الوشم عبر تتبع مغارز إبر الوشم.
وماذا عن السمنة؟ هي الأخرى تصدى لها ابن سينا بوصفات منحّفة، ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى كيفية تنحيف أعضاء معينة. وفي المقلب المضاد للسمنة، هناك الهزال؛ ويرى ابن سينا أنّ تطبيب الهزال يكون على العكس من تطبيب السمنة، ومن ثم يقدم وصفات عن كيفية تسمين المصاب بالهزال، حتى أنّه ذهب إلى تسمين أعضاء مخصوصة، كالشفة النحيفة حتى تصبح مكتنزة، ويتم ذلك عبر جذب الغذاء إلى ذلك العضو وحبسه عليه وتحويله إلى طبعه، وذلك عبر تدليكه حتى يحمرّ، ومن ثم يُطلى بالزفت.
وفي الحفاظ على جلدة الوجه من الشمس والريح والبرد، ترك لنا ابن سينا هذه الوصفة: "يطلى الوجه أو اليد ببياض البيض أو بماء الصمغ، أو يؤخذ السميد المنقوع في الماء المصفى ويخلط بمثله ببياض البيض، ويمسح به الوجه".
المحبب والمباح والمحرّم
جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله بأنّه: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله تعالى". جاء ذكرنا لهذا الحديث ليكون متمّماً للسؤال الذي ابتدأنا به المقال: هل عرف العرب والمسلمون طب التجميل والزينة؟
ذهب الفقهاء في تفسير الحديث بأنّ اللعن جاء لأنّه يدخل في باب الغشّ وتغيير خلقة الله، ولكن لو تأملّنا الجراحات والوصفات الطبية عند الرازي وابن سينا وعلي ابن العباس والزهراوي، ألا تدخل في تغيير خلقة الله كالشفة الشقاق وتصغير الثدي؟ أو بماذا يختلف الأنف الذي من ذهب عن من تصل شعرها بشعر مستعار؟ فلماذا لم يثر عليها الفقهاء؟
تأتي الإجابة من خلال الوصفات التي أوردها ابن سينا، فهي ذات غاية تجميلية واضحة، أكانت على مستوى الشعر أم التنحيف أم تسمين الشفة وغير ذلك، والغاية التجميلية من المآرب التي يسعى إليها الدين الإسلامي. اهتمت المجتمعات العربية والإسلامية بالزينة والتجميل وصلاح الأعضاء الجسدية، فالسواك والرائحة الطيبة والكحل دعمت بأحاديث نبوية للحض عليها. ولم تتوقف المجتمعات العربية عند الممارسات اليومية التجميلية فقط، بل سعت إلى تجميل الأعضاء التالفة، سواء كان الأمر بالجراحة أو بالمعالجة الطبية. إنّ الأمثلة التي أوردناها تشير بأنّ الحديث المذكور أعلاه لو كان ذا صدى كبيراً في عقلية المجتمعات الإسلامية والعربية في ذلك الزمان، لم نكن لنجد الجراحات التي عرض لها الزهراوي ولا الوصفات الدوائية لابن سينا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...