لربما لم يتغنّ المصريون، في ماضيهم البعيد وحاضرهم الراهن، بمدينة على نحو صريح، مثلما تغنّوا بالأقصر أو "طيبة"، أيقونة الصعيد (670 كليومتراً جنوب القاهرة)، التي يعود إنشاؤها إلى قرابة أربعة آلاف وستمائة عام.
ففي مصر الفرعونية، حظيت عاصمة مصر القديمة بما حظيته من ألقاب، ونالت ما نالته من احتفاليات وتوصيفات ومدائح وشعائر وممارسات مقدسة، ملكية وشعبية. فهي مدينة المئة باب، ومدينة النور، ومدينة الشمس، ومدينة الصولجان، وهي دار الحياة وملتقى الخيرات للمصريين جميعاً، على اختلاف طوائفهم، بنيلها الفيّاض وشاطئها الشرقي وتربتها الخصيبة ومزروعاتها الوفيرة، وكذلك بمعابدها الاستثنائية، وطقوسها التعبدية والروحانية، التي تصل البشر بالآلهة، والأرض بالسماء.
في مصر الجديدة، الأقصر درة الجنوب، وقِبلة السياحة، ومملكة الشتاء، ومهد الحضارة، ووجه المستقبل، وهي المدينة المتميزة "على الخارطة"
وفي مصر الجديدة، فإنها درة الجنوب، وقِبلة السياحة، ومملكة الشتاء، ومهد الحضارة، ووجه المستقبل، وهي المدينة المتميزة "على الخارطة"، التي "يتحطّ من تحتها شَرْطَة"، هكذا بالعامية الدارجة (كدليل على الأهمية)، مثلما تقول الأغنية الشهيرة، التي استوحاها المؤلف فتحي قورة والملحّن علي إسماعيل من الفلكلور، وأدّاها المطرب محمد العزبي بمصاحبة فرقة رضا للفنون الشعبية، على أنغام المزامير البلدية.
وقد جاء افتتاح طريق الكباش الجديد، الرابط بين معبدَي الكرنك والأقصر، في احتفالية عالمية ضخمة في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 بهدف تحويل المدينة إلى متحف دولي مفتوح وتدشين أحد أكبر المشروعات الأثرية والتاريخية والثقافية والسياحية في القرن الحادي والعشرين، ليكثّف الضوء بقوة على المدينة البارزة قديماً وحديثاً، والتي لم تغب عنها الأضواء يوماً في حقيقة الأمر.
لكنّ هذا الحدث النادر، بل الاستثنائي، الذي يستعيد ذكريات أعياد الحصاد الفرعونية ويُفترض أن يكون حصاداً آنيّاً واسعاً للمكاسب الصافية التي ستعود على جميع طوائف الشعب من جرّائه، لا ينفكّ يلقي بمسؤولياته ومستجدّاته وتفاصيله وكافة متعلقاته على المدينة إلى حد بعيد، وكذلك تنسحب آثاره على مصر والمصريين بشكل عام، ليس فقط في ما يتعلق بقطاع السياحة والعاملين في هذا الحقل، وإنما في مجالات أخرى متشعبة ومتنوعة.
ليس من شك في أن جهوداً شاقة ورفيعة قد بُذلت على الصعيدين، الرسمي والأهلي، لتحقيق هذا الإنجاز، واستثماره اقتصاديّاً وسياحيّاً ودعائيّاً على هذا النحو اللافت؛ فلكأن طريق الكباش الجديد، هو همزة وصل بين زمانين بينهما آلاف الأعوام. فمدينة طيبة العتيقة العريقة، الموضوعة على قائمة التراث العالمي وفق توصيات منظمة اليونسكو، لم تعد ملامحها بعيدة عن الأذهان والتصور.
وطريق الكباش القديم، الذي يتجاوز ألفي متر ويضم تماثيل "أبي الهول" وأكثر من ألف تمثال وطالما شهد المواكب الكبرى لملوك الفراعنة والأعياد والاحتفاليات المتعددة، ومنها عيد "الأوبت" الذي ينتقل فيه الإله آمون من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر عبر طريق الآلهة، قد عاد إلى الحياة مرة أخرى بلمسات جمالية وإبداعية معاصرة، وافتتح أمام الجمهور من كل حدب وصوب بعد أكثر من سبعين عاماً على اكتشافه، وقرابة خمسة عشر عاماً على بدء مساعي تطويره وفق مشروع تخطيطي.
وعلى الرغم من التكلفة العالية التي أنفقت على هذا المشروع، وغيره من المشروعات الموازية والفرعية المراد بها تطوير الأقصر التاريخية وابتعاث "طيبة القديمة"، وهي النفقات التي انتقدها البعض نظراً للأوضاع الاقتصادية الحرجة التي تمرّ بها البلاد، فإن التكريس للدعاية للحدث وإبرازه إعلاميّاً وفنيّاً بمثل هذا المستوى، وفي حضور شخصيات عالمية مرموقة ومسؤولين من اليونسكو، من شأنه إحداث حالة حراك منعشة لقطاع السياحة في مصر، الذي هو بحاجة إلى طفرات لكي يتعافى من الركود والكساد بعد فترات غير مستقرة خاضتها البلاد، وأعقبتها جائحة كورونا منذ قرابة عامين، الأمر الذي أضر كثيراً بقطاع حيوي يمثّل أحد أهم مصادر الدخل التي يعتمد عليها المصريون بشكل كبير.
ولعل البيانات الرسمية الصادرة في أعقاب افتتاح طريق الكباش الجديد، وعلى مدار شهر كانون الأول/ديسمبر 2021، تعكس إلى أي مدى قد بدأت تتبلور إيجابيات ملموسة للحدث، ومن شواهد ذلك على سبيل المثال، كما تؤكد أرقام وزارة السياحة والآثار وغرفة شركات السياحة بالأقصر، أن الإشغال الفندقي منذ الإعلان عن افتتاح طريق الكباش وحتى هذه اللحظة يتراوح بين 70% إلى 100%، ولم تشهد المدينة هذه المعدلات منذ أكثر من عشر سنوات.
ويشكل الأجانب النسبة الأكبر من الوافدين حديثاً إلى الأقصر؛ فالسياحة الخارجية، وليست الداخلية، هي التي تتنامى وتشهد زيادة واضحة، خصوصاً القادمين من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة، إلى جانب إيطاليا وألمانيا وروسيا ودول أوروبا الشرقية والدول الإسكندنافية.
تحت هذه المظلة العريضة، والعناوين المتفق عليها، ومن بين ثنايا السطور، تثار تساؤلات أخرى على ألسنة أهل محافظة الأقصر، والشعب المصري ككل، من قبيل: هل الأقصر، بعد هذه التغييرات والتطورات والنقلات، هي بلدنا نحن أم أنها بلد السوّاح
ويبرهن ذلك أن ما جرى إنفاقه ببذخ على طريق الكباش وافتتاحه لم يذهب سدى، وأن مسيرات الزي الفرعوني والأوركسترا السيمفوني الضخم والمؤثرات الصوتية والضوئية والمغنّين والراقصين المحترفين وعربات الخيول والمراكب المقدّسة والقوارب التي شقّت النيل في الاحتفالية الكبرى هي كلها محفزّات قد تبدو منطقية من أجل إعادة الإعمار السياحي للمدينة.
لكن تحت هذه المظلة العريضة، والعناوين المتفق عليها، ومن بين ثنايا السطور، تثار تساؤلات أخرى على ألسنة أهل محافظة الأقصر، والشعب المصري ككل، من قبيل: هل الأقصر، بعد هذه التغييرات والتطورات والنقلات، هي بلدنا نحن أم أنها بلد السيّاح "فيها الأجانب تتفسّح"، مثلما تقول كلمات الأغنية الشعبية المتغزلة في المدينة المضيافة؟ وهل الفنادق الفارهة (أربع وخمس نجوم)، التي صارت تتباهى أحياناً بأنها "كاملة العدد"، من الممكن أن تناسب أسعارها الجديدة المصريين الراغبين في السياحة الداخلية، أم أن أفق التخطيط الاستثماري كاد يغفل حقوق المصريين في التمتع ببلادهم؟
إذا كان رفع القيمة السعرية للإشغال الفندقي في الأقصر، ومن ثم في مدن مصرية أخرى، يعود بالنفع على ميزانية الدولة ككل، وعلى بعض الفئات المنتفعة بشكل مباشر من عوائد تحصيل هذه الإشغالات، فإن مئات الآلاف من قاصدي السياحة الداخلية لم يعد بإمكانهم ارتياد هذه المزارات والمتنزهات السياحية والثقافية، خصوصاً الذين لم تتعدل دخولهم وأجورهم جرّاء هذه الرهانات والمشروعات الجديدة. وهم بنأيهم عن قصد هذه الوجهات الحضارية، ينقصهم الكثير من المعرفة والوعي بتاريخ بلادهم وجغرافياها وآثارها.
من جانب آخر، فقد أصدرت وزارة السياحة والآثار قراراً بتعيين حد أدنى قيمته خمسون دولاراً للإقامة لمدة ليلة واحدة في المنشآت الفندقية الخمس نجوم، وقيمته أربعون دولاراً للفنادق الأربع نجوم، بدعوى ضبط الأسعار، والحفاظ على مستوى جودة الخدمات، وحماية قطاع السياحة، وتغطية التزامات الفنادق، وسداد مستحقات الدولة من ضرائب وتأمينات وكهرباء ومياه وغيرها. ويتردد أن الدولة في سبيلها إلى رفع الحد الأدنى لليلة في الفندق الخمس نجوم إلى ما بين 100 و120 دولاراً خلال الفترة المقبلة.
ويغذّي مثل هذا التوجّه، وغيره من الإجراءات المتخذة، ما يجول بخواطر الفئات الجماهيرية العريضة من متوسطي الدخل ومحدودي الأجور، من تشككات حول إمكانية أن تتاح لهم فرصة زيارة مدينتهم المصرية "الأقصر"، والاستمتاع بطقوسها وأجوائها، إذ ربما ستجعلها هذه الأسعار المرتفعة وسياسات الرفاهية أبعد عن خيالاتهم من "طيبة القديمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 18 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت