شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أيّ عربية هي لغتي الأمّ؟

أيّ عربية هي لغتي الأمّ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 20 ديسمبر 202112:10 م

نحن نكتب ونقرأ لغةً لا نتكلمها، العربية المعيارية (الفصحى)، ونتكلم ونتواصل بلغةٍ لا نكتبها، ولا نقرأها، الدارجة أو العامية أو المحكية. هذه بالفعل إشكالية كبيرة تجب مناقشتها، ومعالجتها، على الرغم من المخاوف والحساسيات كلها... وهي تطرح السؤال الأكثر حساسيةً وخطورةً: أيّهما هي لغتي الأمّ؛ اللغة التي أكتب بها هذه المقالة، أم اللغة التي سمعتها من أمي منذ تكوّنت في رحمها؟

هنالك أيضاُ الحساسية الدينية، وارتباط اللغة العربية بالقرآن وبالقداسة، وهنا ربّما تكمن الصعوبة الأكبر.

يقول المفكّر محمد عابد الجابري: "إن المثقف العربي، سواء كان طالباً أو أستاذاً، يعيش عالمَين كلاهما قاصر: عالم لغته العامية، وعالم اللغة الفصحى. أما الأمّي العربي، وهو الذي يشكّل الأغلبية، فهو مسجون في عامّيته مع أشياء لا يسمّيها، وإذا فعل، سمّاها بأسماء أجنبية مع بعض التكسير الضروري الذي لا شكّ في أنه يترك أثره العميق في عقله، وبنيته الفكرية. أما ذلك العربي الذي يعرف لغةً أجنبيةً واحدةً، أو أكثر، فهو يعيش ثلاثة عوالمٍ مختلفةٍ: إنه يمتلك ثلاثة تصوّرات لـ"العالم"، يفكّر بلغةٍ أجنبيةٍ، ويكتب بلغةٍ عربيةٍ فصحى، ويتحدث في البيت والشارع، بل في الجامعة، باللّغة العامّية".

الأمر في غاية التعقيد والحساسية. فمن ناحيةٍ، الازدواجية اللغوية، تضع عقباتٍ كبيرةً أمام الناس، وتجعل عملية التعلّم واكتساب الثقافة أمراً معقّداً لا يسير وفق المجرى الطبيعي للعملية، وتُبعد الثقافة عن متناول عموم الناس. ففي الحال العادية، حيث لا ازدواجية لغوية، يتعلّم الطفل في المدرسة كتابة الكلمات التي ينطق بها، وقراءتها، ويعبّر بها عن ذاته. كلمات يعرفها ويعرف معناها واستعمالاتها. "كلمات أليفة". بينما الطفل العربي يوضَع على أوّل طريقه التعليمي، وعلى عينيه عصابة لا ينفذ منها إلا بعض النور، ويُطلب منه أن يتقدّم، وكلّ رجلٍ من رجليه على مسار مختلف، له صفاته وقوانينه.

نحن نكتب ونقرأ لغةً لا نتكلمها، العربية المعيارية (الفصحى)، ونتكلم ونتواصل بلغةٍ لا نكتبها، ولا نقرأها، الدارجة أو العامية أو المحكية. هذه بالفعل إشكالية كبيرة تجب مناقشتها، والتي تطرح السؤال الأكثر حساسيةً وخطورةً: أيّهما هي لغتي الأمّ؛ اللغة التي أكتب بها هذه المقالة، أم اللغة التي سمعتها من أمي منذ تكوّنت في رحمها؟

الطفل العربي في بداية طريقه، يتعلّم أن يكتب ويقرأ كلماتٍ غير مألوفة، فيكون عليه أن يتعلّم الأحرف والتراكيب اللفظية، التي تتطلب بحدّ ذاتها جهداً، وفوق هذا تكوّن هذه الأحرف والمقاطع ألفاظاً محرّفةً، أو حتى كلمات غريبة تماماً، ليست من عالمه، وفيها نكهة القِدم! وتتّسع هذه الهوّة مع الوقت، وبهذا تتعطّل مساهمة الوعي الدلالي، المعنى، وكذلك تتعطّل عملية الفهم من خلال السياق، الضروريتان في دعم عملية التعلّم، مما يضع حاجزاً عملياً ونفسياً بين الطالب، وبين القراءة والكتابة واكتساب مهارتهما.
لقد واجهتُ هذه الإشكالية مع أبنائي، على الرغم من أنني حرصت في صغرهم، على إقرائهم القصص باللّغة المعيارية، وشرحها، ولكن حتى هذا، أي سرد القصة على طفلي، والتي من المفترض أن تكون تجربةً ممتعةً، كان فيها عناء وصعوبة، وكنت أواجه أحياناً الرفض منهم، "احكي العادي، بلاش فصحى"، وأحياناً كنت أنزل عند رغبتهم.

لأجل توضيح هذه الصعوبة، تخيلوا أن يتقدّم الطلاب في انجلترا للامتحانات النهائية والتي صيغت باللغة الشكسبيرية. كم ستكون نسبة الناجحين؟

ومما زاد المشكلة وفاقمها، التوجهات التعليمية عموماً، والتي تعجّ بالأخطاء ونقاط الضعف، ومنهاج تعليم اللغة العربية المدرسي المتخبّط بشكلٍ خاصّ، والذي لا يتفهم صعوبات الطالب، ولم يستوعب حينها -لا أعرف ما الوضع الآن- وجود إشكاليةٍ أصلاً.
البعض لا يتفهّم هذا كله، فيقول: نحن تعلّمنا اللّغة الفصحى من دون مشكلات، ولم نجد أننا نتعامل مع لغةٍ أخرى، لغة ثانية، وتعلّمنا العربية، لغتنا! وربما يكون هذا صحيحاً نوعاً ما، على الرغم من أنهم ينسون الطلاب الكثيرين الذين لم ينجحوا، ولم يكملوا تعليمهم، وقد كانت النظرة بأنهم طلاب "ضعاف". أليس من الممكن أن ازدواجية اللغة كانت عائقاً أمامهم، وجسراً لم يتمكّنوا من عبوره؟ ولنفترض أن جيلنا ومن سبقونا شعروا وتأثّروا بشكلٍ أقلّ بهذه الحالة، فهل نضع اللوم على أجيال اليوم لأنها تعاني منها؟ تغيّرت الظروف اليوم. لقد كنّا نتعرّض للّغة الفصحى منذ الطفولة المبكرة؛ نسمعها من وسائل الإعلام، وربما أيضاً في بيوت العبادة والطقوس الدينية. معظم البرامج التلفزيونية للأطفال، من رسومٍ متحرّكة وغيرها، كانت بالفصحى. بينما اليوم، في عالم القنوات اللا نهائية، الأمر مختلف. الأولاد ينجذبون إلى البرامج الأجنبية، لأنها تحاكي عصرهم وأجواءه.

نحن إزاء كتلة ثلجٍ متدحرجة، فالأمر يستمرّ مع الطفل والطالب، ويتفاقم مع الوقت. تصبح اللغة عائقاً في تعلّم العلوم والتاريخ والجغرافيا، وكثيراً ما نسمع جملة: "ابني كتير بستصعب بالعربي، ومواضيع تانية، بس كتير شاطر بالرياضيات والإنكليزي"، أو "أولادي بقروا وبحبوا المطالعة بالإنكليزي بس، مش بالعربي"!.

من الطبيعي أن يصبح هذا عائقاً في إكمال تعليمهم العالي، خاصة وأنهم يتقدمون لامتحانات التوجيهي أو الثانوية العامية باللغة المعيارية، الفصحى. ولأجل توضيح هذه الصعوبة، تخيلوا أن يتقدم الطلاب في انجلترا للامتحانات النهائية والتي صيغت باللغة الشكسبيرية. كم ستكون نسبة الناجحين؟

 إن سرد قصة على أبنائي، والتي من المفترض أن تكون تجربةً ممتعةً، كان فيها عناء وصعوبة، وكنت أواجه أحياناً الرفض منهم، "احكي العادي، بلاش فصحى"، وأحياناً كنت أنزل عند رغبتهم

من ناحيةٍ أخرى، نحن نعتزّ ونحبّ اللغة الفصحى. إنّها تمثّل جذورنا وانتماءنا، وهي القاسم المشترك الأكبر لما يقارب من 400 مليون شخصٍ في العالم. هي لغة العلوم والثقافة بالنسبة إلى الإنسان العربي، الحامل لإرثٍ أدبيٍّ وعلميٍّ كبير لا يمكننا الاستغناء عنه، خاصةً وأن اللّغات المحكية لم تتطور، أو لم يُسمح لها بأن تتطور، لتكون لغة ثقافةٍ وعلوم.

هنالك أيضاُ الحساسية الدينية، وارتباط اللغة العربية بالقرآن وبالقداسة، وهنا ربّما تكمن الصعوبة الأكبر. لكن، وبطبيعة الحال، فإن اللغة المعيارية ذاتها بعيدة جداً عن لغة القرآن. وإذا نظرنا إلى تجارب الشعوب، نرى أنها سمحت بتطور اللهجات إلى لغاتٍ متكاملةٍ، وتركت لغة القداسة للمقدّس وطقوسه. هذا ما حدث للّاتينية قديماً، وهذا ما حدث في العصر الحديث للّغة اليونانية القديمة، ففي العام 1975، ألغت الحكومة اليونانية مكانة اللغة اليونانية القديمة (التي كُتبت فيها جميع الأعمال الكلاسيكية في مجالات الشعر والفلسفة والأدب)، وتم استبدالها باللغة المحكية، فاعتلت اليونانية الحديثة مسرح اللّغات.

كنّا نتعرّض للفصحى منذ الطفولة المبكرة؛ نسمعها من وسائل الإعلام، معظم البرامج التلفزيونية للأطفال، من رسومٍ متحرّكة وغيرها، كانت بالفصحى. بينما اليوم، في عالم القنوات اللا نهائية، الأمر مختلف. الأولاد ينجذبون إلى البرامج الأجنبية، لأنها تحاكي عصرهم وأجواءه

لنعد إلى تأثير عمليةٍ كهذه على العالم العربي، ووجوده: هل يمكن للعالم العربي أن يكون، من دون اللغة التي توحّده؟
هل التخوّفات من الثمن الناجم عن تخلخل هذه الوحدة -والتي هي بحدّ ذاتها خلف علامة سؤال- يبرر الثمن الذي يدفعه الإنسان العربي على مستوى الفرد، والشعوب العربية على المستوى العام، في إمكانيات تقدّمهما ومواكبتهما ركب التكنولوجيا والعلوم، والتي للازدواجيه اللّغوية أثر كبير عليها؟! وإذا كان الجواب أنه لا بدّ من الحفاظ على اللغة العربية المعيارية، فكيف يمكن بثّ الحياة فيها، وتيسيرها، وتقريبها إلى الطلاب والناس عموماً، بحيث لا تكون عائقاً أمام تطوّرهم الثقافي العلمي؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard