صارت الأصوات الداعية إلى التخلي عن اللغة العربية الفصحى كي نبدأ مسيرة التقدم والتطور ظاهرةً شائعة اليوم.
وليس ذلك بحديث العهد، فمنذ دعوة سعيد عقل إلى كتابة لهجة قريته بالحروف اللاتينية، وإصدار صحيفة بـ"اللغّة اللبنانية"، تتالت الدعوات إلى نبذ الفصحى والعودة إلى "لغاتنا الأصلية".
وعلى الرغم من أن هذا الطرح كثيراً ما يحمل كراهية عرقية للعرب بوصفهم "غزاة"، أو آمالاً قومية وردية تَحلمُ بدول عربية عصرية على غرار أوروبا الغربية، إلا أنه يطرح سؤالاً جدياً من حيث جوهره: حقاً! هل سنكون أفضل حالاً إذا ما تخلينا عن العربية الفصحى واعتمدنا المحكيّات لغات رسميةً لنا؟
من المضحك المبكي الادعاء بأن الفصحى وتعقيدها سببان للتخلف
الفرق بين اللهجة واللغة... والأسطول والمدفعية
إن أول ما يصطدم به اللغوي عند محاولة الإجابة عن سؤال كهذا هو كمُّ الافتراضات المغلوطة بشأن اللغات، وتعريفها، ونشأتها، وحياتها وموتها؛ فلنتخلص إذاً من اثنتين من أسوأ هذه المغالطات البديهية قبل أن نحاول الإجابة عن السؤال.
أولاً: ليس ثمة فرق جوهري بين اللغة واللهجة. أي: لا شيء في بنية اللغة يجعلها لغةً وفي بنية اللهجة يجعلها لهجةً، بل الفرق معياري ثقافي، فعندما يعتمد قوم لهجة/لغة ما لغةً رسمية تكتبُ بها العقود، وتسنُّ بها القوانين، ويترافع بها المجادلون والمحامون، ويدرسُ بها التاريخ والأدب، فإننا ننتقلُ من وصفها باللهجة إلى وصفها باللغة، وقد عبر ماكس فاينرايخ عن ذلك بطرافة (وهو عالم في اللغويات الاجتماعية) حين قال: "تصبح اللهجة لغة عندما تمتلكُ جيشاً وأسطولاً بحرياً". فلنتخلَّ، إذن، عن كل التعالي الصَّفيق على اللهجات وكأنها شيء أدنى من اللغة، فهو كلام فاسد علمياً.
ثانياً: إن اللغات لا تحيا وتموت تبعاً لأهواء الناس فيها محبةً وكراهية، بل حياتها وموتها يتعلقان بمصالح الناس والدول. لذلك، فإن مناقشتنا لمسألة المحافظة على العربية الفصحى أو التخلّي عنها لا يجوز أن تنطلق من منطلقات الدراسات الجمالية، أو من تفضيلنا لغةً على أخرى، لأننا نرى في واحدة منهما رُقياً وبلاغةً وفي الأخرى انحطاطاً وتدنياً. فالرقيّ اللغوي مبثوث في كل لغات الأرض ولهجاتها؛ بل لا بدَّ أن تنطلق المناقشة من باب المصلحة: هل نخسر إذا تخلينا عن الفصحى أم نكسب؟
تتالت الدعوات إلى نبذ الفصحى والعودة إلى "لغاتنا الأصلية"... فهل سنكون أفضل حالاً إذا ما تخلينا عن العربية الفصحى واعتمدنا المحكيّات لغات رسميةً لنا؟
هل نطردُ لغةَ الغزاة مع الغزاة؟
فإن انتهينا من هاتين المغالطتين نقدرُ أن نبدأ بالنظر في الأقوال الراغبة بالتخلص من الفصحى، ولعلّ على رأسها قولهم: "إن العربية لغةُ غزاة احتلوا بلاد الشام وشمال أفريقيا، وليست لغتنا الأصلية". وهذا قول ركيك فاسد من وجهين، أولاً: إن كل لهجاتنا العامية -باعتراف الأكاديميات الغربية قبل المؤسسات التراثية الشرقية- عربية صميمة من حيث نظام الجملة والاشتقاق والصرف، مع الاعتراف بالتغير والنمو اللذين دخلا عليها من حيث ترتيب الكلام وقبول كتل الحروف الصوامت. وثانياً، وهو أهم: حتى لو سلمنا أنها "لغة الغزاة" فإن هذا سبب سخيف لتركها. ألست ترى أن أميركا الجنوبية تحافظ على الإسبانية والبرتغالية؟
وهي لغة غزاتها قبل بضع مئات من الأعوام وحسب؟ فلماذا يحافظون عليها ولا يعودون إلى لغات سكان أميركا الجنوبية الأصليين؟ وجواب ذلك واضح: لأن الاعتماد على الإسبانية والبرتغالية من مصلحتهم القومية، فهو يجعلهم على اتصال وثيق بالعالم الأول، ولا ينفعهم الانفكاك عنهما، مهما بدت الفكرة رومنسية.
العربية واللاتينية... والهروب من حبل المشنقة عبر تهجئة آية واحدة!
والقول الثاني متأثر بتخلي أوروبا عن اللاتينية، ويجعل هذا الرأي من تخلّي أوروبا عن اللاتينية الميتة سبباً في النهضة وعصر التنوير، ومن ثم يسقط ذلك على التخلي عن الفصحى زاعماً أنها ستكون خطوةً نحو نهضة وتنوير. ومشكلة هذا القول وأصحابه أنهم لم يدرسوا تاريخ اعتماد أوروبا على اللاتينية من النهضة وحتى عصر التنوير، ولا تاريخ تخليها التدريجي عنها.
"تصبح اللهجة لغة عندما تمتلكُ جيشاً وأسطولاً بحرياً"
فمقارنتهم صحيحة من أحد الأوجه، وهو أن اللاتينية والفصحى، كلتيهما، لغتان ميتتان بالتعريف العلمي (أي: لا يوجد من يتعلمهما من أهله بشكل طبيعي في طفولته، بل يحتاج كل من يتعلمهما إلى تلقين صعب ودقيق ضمن نظام تعليمي مدروس ومحكم)؛ ولكن هذه المقارنة إن صحّت من وجه فهي فاسدة من أوجه كثيرة:
فإن كانت اللغتان ميتتين بالتعريف العلمي، فإن اللاتينية كانت ميتة بالتعريف الثقافي، حيث لا يكاد أحد من العامة يقدر على فك حروفها، بل كان كثير من قساوسة الكنيسة غير متمكنين منها، بينما حال الفصحى مختلف، فلو جئت بأفصح تقرير إخباري من قناة تلفزيونية تعتني ببلاغة الفصحى، وعرضته على أي أحد من أهل البلاد العربية فإنه سيدركُ المُراد منه، ويعرف الخبر، ويفهم النقاش الذي يتلوه بالفصحى بين الضيوف، وذلك مهما كان تحصيله العلمي.
ويوضح هذا الفرق الشاسع أن الشاعر الإنجليزي بين جونسون، في عام 1559، قد نجا من حُكم الإعدام بتهمة القتل عبر قدرته على ترتيل سطر من الكتاب المقدس باللاتينية، وهو ما يعرف بـ"أفضلية الكُهَّان" privilegium clericale، فهل تستطيع أن تتخيل لو أن كل من يستطيع ترتيل آية من القرآن اليوم سيحصل على تخفيف للحكم؟ ستخلو سجون البلاد العربية تماماً!
لوفايثان وكيف أسَّست اللاتينية النهضة والتنوير في أوروبا
والمقارنة فاسدة من وجه آخر مختلف، وهو تقليل القائلين بهذه المقارنة من الخدمة العملاقة التي قدمتها اللاتينية لأوروبا، حيث سمحت للمثقفين والعلماء (الذين تختلف لغاتهم الأم اختلافاً كبيراً) أن يفهموا دراسات بعضهم بعضاً في العلم والأدب والفلسفة دهراً من الزمان.
وأعرض لذلك مثالاً واحداً (للتقيد بحجم المقال) وهو أن الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، عندما أصدر رائعته في فلسفة الاجتماع والحكم والمعنونة "لوفاياثان" بالإنجليزية في عام 1651، عاد إلى إصدار الكتاب نفسه بنسخة لاتينية في عام 1668. فصار الكتاب بذلك يصل إلى عدد أكبر بكثير من القراء المتعلمين، ولم يعد محدوداً بإنجلترا. ولك أيضاً أن تتخيل أن الجامعات الغربية لم تتخلَّ عن شرط امتحان اللغة اللاتينية للقبول حتى مطلع القرن العشرين.
فلم تتخلَّ جامعة "يال" الأميركية العريقة عن هذا الشرط بشكل كامل إلا في عام 1931، أي قبل 14 عاماً وحسب من تجربة الولايات المتحدة للقنبلة الذرية الأولى؛ فهل حال البلدان العربية اليوم شبيه بحال أميركا وأوروبا إبان تخليهما عن اللاتينية؟ طبعاً لا، لقد تخلّوا عنها في قمة جبروتهم وانتصارهم، ونحن نعيش اليوم حالة من الانحطاط الشديد لا ينكرها أحد.
ما الذي نكسبه إذا ألغينا تعليم الفصحى بالكامل، وما الذي نخسره؟ سنكسب إراحة الطالب من مادة اللغة العربية من الصف الأول وحتى سنوات الجامعة! أما ما سنخسره، فعملاق مهول، يكاد يُصعُبُ أن يبالغ المرء في قيمته: سنخسر قدرتنا أولاً على قراءة أفكار بعضنا بعضاً وآدابنا المعاصرة
اللغة تؤدي إلى التخلف؟ أم التخلُّف يودي باللغة في داهية؟
ومن المضحك المبكي الادعاء بأن الفصحى وتعقيدها سببان للتخلف، ولنا في ذلك عبرة في الدول التي استطاعت النهوض من الفقر والدمار، فهل اضطر الياباني إلى التخلّي عن نظام كتابته المعقد جداً بحيث يضطر الطالب في المرحلة الإعدادية -حرفياً- إلى حفظ بضعة آلاف من الرموز المرسومة كي يستطيع أن ينشئ إمبراطورية تقارع الولايات المتحدة؟ أم احتاج للتخلي عنها عندما قام بنهضة اقتصادية إثر خسارة الحرب يصفُها أكثر الدارسين بالمعجزة؟
لا، لم يتخلَّ عنها لا في هذه ولا في تلك! وكذلك حال تعقيد اللغة/اللغات في الصين التي لم تحتج إلى التخلي عنها كي تبني اقتصاداً وجيشاً تحسبُ له كل الدنيا ألف حساب. فإن كنا نعاني من التخلف فلنكن صادقين في أسبابه، المادية والاجتماعية، بدلاً من أن نرميه على لغة ذات خصوصية، كمثل مراهق يحسبُ أنَّ الناس تكرهه بسبب لون قميصه، والواقع أنه مكروه لسوء خُلقه.
وأخيراً! مؤتمر للتخلص من الفصحى واعتماد العامية!
والنقطة الأخيرة التي يتوجب علينا الانتباه إليها قبل أن نضع الفصحى في ميزان النفع/الضرر، هي أن القائلين بضرورة التخلص منها لا تنقصهم المعرفة بتاريخ تطور اللغات وحسب، بل تنقصهم أيضاً البصيرة بالمستقبل، ولو بضعة شهور قليلة! فلنتخيل الآن -من باب المجاراة- أننا استيقظنا غداً جميعاً في بلد عربي ما (كسوريا مثلاً) ووجدنا الناس كل الناس قد اتفقوا على ضرورة الخلاص من العربية الفصحى! فأقنعنا التراثيين في مجمع اللغة، والمتدينين على كافة مشاربهم.
عال عال! والآن أي لهجة من لهجات سوريا سوف نعتمدها لغة معيارية؟ ربما لهجة دمشق لأنها الأكثر شيوعاً من بينها في العالم العربي؟ تخيل مثلاً أن يضطر ابن محافظة حلب إلى دراسة القانون في الجامعة باللهجة الدمشقية، وأن يترافع بها في محاكم بلده بعد التخرُّج، أو أن يضطر ابن دير الزور أو الجزيرة إلى دراسة التاريخ والجغرافيا والعلوم باللهجة الدمشقية! إن الناس لن تقبل ذلك ولو على قطع رقابها!
إذ ما المميزُ في أهل دمشق حتى يصبح لسانهم المعيار؟ وتستطيع تعميم هذا الواقع على كل البلدان/العواصم العربية. والنقطة الجوهرية التي يجب علينا فهمها هي أن الناس قد يقبلون الإجماع والمصادقة على لغة تراثية ذات إرث روحاني وميتافيزيقي، ولكنهم يأنفون ويثورون من أن تُفرضَ عليهم لهجةُ مدينة معينة غير مدينتهم.
ولعل القارئ ذا الحس النقدي يقاطعُ هنا مستنكراً: "لو أن الأمر بهذه الصعوبة التي تصفها، فكيف استطاعت ألمانيا مثلاً أن تُنشئ لغة ألمانية معيارية بعد أن كانت محكومة باللاتينية؟".
وهذا السؤال يصيب كبد الأمر، وبالإمكان الإجابة عنه بكلمة واحدة: المتون.
كيف صنعت المتون لغات أوروبا القومية؟
عندما قام مارتن لوثر بترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية واليونانية إلى الألمانية، وانتشرت ترجمته بين الناس، بدأت تتفتح بذرة للغة ألمانية معيارية، لأن الكتاب المقدس نصّ يطَّلعُ عليه كل الناس، فيفهم استشهاداته عامل البناء وتاجر السوق وأمير البلاد. وكذلك كان تحول الكثير من اللغات الأوروبية إلى معيارية (في بريطانيا مثلاً) كان معتمداً على ترجمة متن الكتاب المقدس.
فأي متون مكتوبة باللهجات العامية نملكُ في البلاد العربية بحيث تنفع لذلك؟ في الواقع، لا نملك ما ينفعُ متناً. إذ على الرغم من اجتهاد عدد كبير من شعراء العامية في أعمال عبقرية وطويلة وبديعة الجمال، إلا أنها بقيت أعمالاً -رغم روعتها- أدبيةً يُعنى بها محبو الشعر، وليست متناً يحفظُ منه الناس على مختلف طبقاتهم الاجتماعية بحيث يصيرُ مؤسساً لمعيارية جديدة.
الفصحى بالميزان؟ هل تستحقُّ الموت؟
نصلُ الآن إلى مكان نستطيع فيه أن ننحي محبتنا/كرهنا للغة الفصحى وأن نسأل بشكل عملي براغماتي: ما الذي نكسبه إذا ألغينا تعليم الفصحى بالكامل، وما الذي نخسره؟
لا نحتاج إلى الانتماء إلى أي عقيدة سياسية معينة كي نبصر أنّ دول هذه البلاد (سمها العالم العربي إن شئت) لا تقوم لها قائمة إلا بالتعاون الجوهري مع بعضها بعضاً، وأما تفككها ثقافياً ومعرفياً فهو ذهاب نحو المزيد من الخراب والتبعيَّة
إننا سنكسب من إلغاء تعليم الفصحى إراحة الطالب من مادة اللغة العربية من الصف الأول وحتى سنوات الجامعة. وهذا ليس بمكسب قليل! أما ما سنخسره، فعملاق مهول، يكاد يُصعُبُ أن يبالغ المرء في قيمته: سنخسر قدرتنا أولاً على قراءة أفكار بعضنا بعضاً وآدابنا المعاصرة، فلا أعودُ أنا مثلاً قادراً على قراءة القصص القصيرة والروايات والشعر المعنية بحال المغرب العربي، ولا تلك التي تصف الحياة الاجتماعية في قرى صعيد مصر.
ومن ثم تصير لا تكفينا ترجمة واحدة للكتاب الأجنبي إلى الفصحى، بل سنحتاج إلى ترجمة لكل بلد، ومن ثم نفقد القدرة على قراءة عظماء القرن الماضي من العرب أمثال طه حسين والعقاد ونازك الملائكة وسعد الله ونوس وغادة السمان وغيرهم/ن، ونفقد بعدها أيضاً القدرة على قراءة المؤرخين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر، وكل من سبقوهم هكذا حتى الوصول إلى تأريخ الطبري. ولو فاضلنا عقلانياً بين هذا المكسب وهذه الخسارة: مادة واحدة على مدى الحياة التعليمية، وانفكاك كامل بين آداب البلدان، وحركة ترجمتها، واتصالها مع ماضيها (الديني منه كما أيضاً الدنيوي التاريخي المحض)، فإننا سنرى بوضوح أن وقت التخلّي عن الفصحى بعيد بعيد.
إن الإنسان لا يحتاج إلى الانتماء إلى أي عقيدة سياسية معينة كي يبصر على نحو واضح أن دول هذه البلاد (سمها العالم العربي إن شئت) لا تقوم لها قائمة إلا بالتعاون الجوهري مع بعضها بعضاً، وأما تفككها ثقافياً ومعرفياً فهو ذهاب نحو المزيد من الخراب والتبعيَّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...