قد يتوقّف العالم أحياناً ويقرّر أن الطرق مقفلة حالياً في وجوههنا. قد يكون السبب وباءً عالمياً يجبرنا على المكوث في المنازل أشهراً عدّة أو أزمة اقتصادية تفرض عادات جديدة علينا أو حتّى انفجاراً كبيراً يجعلنا نخسر منازلنا ومساحاتنا الآمنة.
خلال العام 2021، شهد المقيمون في لبنان كل هذه الأحداث، إذ سجنوا في منازلهم، وخسروا مهنهم، وحجزت أموالهم في المصارف وتعاملوا مع رواسب انفجار الرابع من آب/أغسطس من النواحي الجسدية والنفسية.
"أردت أن أرتاح. حان الوقت لكي أرتاح وأنظّف منزلي الخاص بدلاً من تنظيف بيوت الناس"
في ما يلي قصص ناس في لبنان، يشرحون كيف تغيّرت خطتهم خلال العام الماضي وكيف تبدّلت حياتهم نحو الأفضل أو الأسوأ بسبب العوامل الخارجية التي لم يتمكنوا من السيطرة عليها.
مدرسة وسوبر ماركت
تجلس آية عيتاني (18 عاماً) خلف المكتب الخشبي في السوبر ماركت في منطقة قريطم ببيروت، وتهم بمحاسبة كل الزبائن الذين يتوجّهون صوبها. عند سؤالها عن العام 2021 وكيف عاشته في بيروت تقول: "أعلم أن الحياة يجب أن لا تكون بهذه الصعوبة خصوصاً في هذا العمر. في العام 2021 أصبحت عائلتي بسبب الانهيار الاقتصادي غير قادرة على إعالة نفسها، فجئت إلى المتجر وحصلت على وظيفة بهدف مساندتها وفي الوقت عينه كنت أستعد لتقديم الامتحانات الرسمية. يمكنني القول إنه عام الدراسة والإعالة الذي لم أفكّر خلاله بما يتخطّى هذه المهام المفروضة علي. الآن، لا أفكّر سوى بكيفية تجاوز النهار الحالي والنجاح في الجامعة والحفاظ على حياتي كما هي".
"حبيبتي بدير الزور"
يقف عبدالله ع. (19 عاماً) داخل الفرن الصغير وملامح الحزن بادية على وجهه، يصرّح أنه لم يكترث للعام 2021 ولا ينتظر العام 2022 فالحياة انتهت بالنسبة إليه قبل أشهر حين افترق عن الفتاة التي يحبّها. يقول إن قلبه مكسور وهو لم يعد يهتم بنفسه أو بعمله بعدما رفضه أهل الفتاة التي أراد أن يتزوّجها بسبب أوضاعه المادية "قال بتلاقي أحسن"، يردد قول الأهل.
يضيف: "أعمل في هذا الفرن وأحاول أن أيسّر أموري قدر الإمكان. الوضع صعب جدَاً في لبنان كما في سوريا. وبسبب الأزمات المعيوشة بين هنا وهناك لم أستطع أن أجمع ما يكفي من المال خلال العام الماضي فخسرت الفتاة التي أحلم بها والآن صارت الحياة بلا معنى".
يعرف عبدالله أن ما يشعر به ليس سوى مرحلة وستمر، لكنّه يؤكّد أنه سيفعل المستحيل ليحظى بالحياة التي يرغب فيها مع الفتاة التي يحبّها على الرغم من الأزمات التي تحيط به، يقول: "سأحاول من جديد، في العام 2022 سأصير الشاب الذي تحلم به كل عائلة".
التقاعد من تنظيف المنازل
"أردت أن أرتاح. حان الوقت لكي أرتاح وأنظّف منزلي الخاص بدلاً من تنظيف بيوت الناس". تقول دلال طويل (67 عاماً) التي تحمل يومياً جسدها النّحيل وتتوجّه نحو المنازل التي تعمل بها لإتمام دوامها اليومي. تقول إنّها محظوظة لأنها لا تزال قادرة على العمل على الرغم من أنها كانت قد هيّأت نفسها للتقاعد في العام 2020 والوضع العام منعها. تشرح: "في العام 2021 كان يجب أن أكون مرتاحة ومحاطة بأحفادي الذين يهتمّون بي. لكنّ ابنتي الوحيدة خسرت وظيفتها. وبما أنّني أعيش في منزلها الذي لا أساهم في دفع بدل إيجاره عدت إلى العمل كي أساهم مادياً ولا أشعر أنّني متطفّلة".
تحكي دلال عن مهنة تنظيف المنازل وتصفها بالصعبة، خصوصاً حين يصبح الجسم غير قادر على تلبية متطلّبات العمل كما في حالتها هي. تختم: "كلّما ازداد الانهيار ازدار عدد المنازل التي أنظّفها. إذا بقي الوضع كما هو فسأخسر حلم التقاعد وستكون كل الأعوام القادمة شاقّة على غرار العام 2021" .
متى يعود الطعام خياراً؟
تسير لوجين حلاوي (58 عاماً) بين ممرّات "سبينيس" وتحكي قصّتها مع العام 2021 وهي تنتقي حاجاتها. تقول وهي تنظر إلى القائمة التي أعدتها على هاتفها: "هذه سنة التقشّف بامتياز. آتي إلى هنا لأبتاع الأصناف الرخيصة وغير المتوفّرة في المتاجر الأخرى مثل أدوات التنظيف. أما الحبوب فأبتاعها من الجنوب حيث أجدها بأسعار أرخص واللحوم صارت تزورنا مرّة واحدة في الشهر، تحديداً حين يرسل لي إبني المقيم في أبو ظبي القليل من المال".
"الأحلام والرغبات المؤجّلة والتي لا وقت لها في رزنامتي اليوم، أتوقّع أن تسبقني وتنساني في العام 2022 إذا بقيت أجري خلف النجاة من الانهيار بدلاً من الالتفات نحوها"
تحكي لوجين عن العام 2021 بشيء من الضبابية: "أشعر أن الحياة توقّفت قبل زمن مضى وأنا أحاول التأقلم. في العام 2021 خسرت حرية اختيار الطعام الذي أريد أن أعدّه. والآن أفكّر متى سأتمكّن من شراء ما أحب. فمنذ أكثر من عام والأزمة تختار الأطعمة التي يجب أن تدخل إلى منزلي".
خسرت الكثير من الوزن
في العام 2019 كانت تبلغ قيمة تعرفة النقل في بيروت ألفي ليرة لبنانية. وفي العام 2021 لامست 25000 ألف ليرة لبنانية. يقول محمد قاروط (31 عاماً) إنه خسر الكثير من الوزن في العام 2021 لأسباب مرتبطة بالأزمة الاقتصادية. يشرح: "لا يزال راتبي الشهري هو نفسه بينما الغلاء الفاحش يسيطر على كل ما هو حولي. بهدف توفير المال صرت أتنقّل مشياً داخل بيروت. أحياناً أمشي ساعات كي أوفّر القليل. أستيقظ الساعة الخامسة صباحاًُ وأمشي نحو عملي ومن ثمّ أعود إلى منزلي الساعة الثالثة ظهراً. وإذا اضطررت فأستقل "الڤان". هكذا وجدت نفسي بعد أشهر أخسر الوزن لأن الأزمة تمنعني من التنقّل. مع الوقت اعتدت السير وصرت أحبّ وجوده في حياتي وتحوّل إلى متنفّس".
يختم: "هذا التغيير الذي أعيشه ليس سوى تفصيل صغير من عامي، ففي العام 2021 لم أتمكّن من تغيير مكان سكني ولم أكمل تخصّصي الجامعي بمهنة التصوير. والآن أجد أن عاماً كاملاً مضى وأنا أسير وأكتفي بتفاصيل محدّدة كي أوفّر المال".
خسرت أولادي
في صالون الحلاقة الذي يملكه افي منطقة الجميزة، يحكي أبو إليو (64 عاماً) قصّته مع العام 2021 الذي يعتبره أصعب من عام الانفجار. فالانفجار بحسب تعبيره حصل وانتهى بينما الانهيار يستمر ويكبر يومياً ولم ينفجر بعد. يقول: "في آذار/مارس الماضي سافر ابني، وفي آب/أغسطس سافرت ابنتي وأخذا معها أحفادي. وأصبحت أنا هنا وحيداً مع زوجتي".
ويكمل أن المرء في آخر سنوات عمره لا يريد سوى أن يكون محاطاً بالذين يحبّهم، تحديداً أفراد عائلته. ويعتبر أن كل ما يحصل من حوله لا يعنيه. يضيف: "أصبحنا فقراء بعد أن خسرنا أموالنا في المصارف. عدنا إلى نقطة الصفر. وأنا في هذا الزمن لم أعد مهمّاً للزبونات، فأنا عجوز غير ملم بالموضة".
يضحك أو إليو بعد جملته الأخيرة، ويختم: " في العام 2021 خسرت عائلتي، وخسرت أموالي وحاولت أن أعود إلى العمل كما كنت في شبابي لكنّي فشلت لأن هذا العام فرض المستحيل علينا فصرت أعتمد على أولادي لكي أحيا، وأشعر أنّي أشكّل عبئاَ عليهم. لذلك لا أقول لهم أود الرحيل من هنا والعيش بجانبهم".
الأحلام ذهبت والأموال أتت
"اكتشفت في العام 2021 أن المال لا قيمة له ما دمت أعمل في ما لا أحبّه. كنت قد قرّرت افتتاح معرضي الأوّل بالشراكة مع زوجي خلال الصيف الماضي، لكنّي حصلت على وظيفة "بالدولار"، فتخلّيت عن مشروعي الخاص وكرّست كل وقتي للعمل". هكذا تجيب ريناد. ص (27 عاماً) عند سؤالها: كيف كانت سنة 2021؟ تضيف: "منذ الثورة لا أستوعب حقّاً ما يحصل من حولي. أستيقظ، أقلق من أن أطرد من عملي، أعدّ الطعام، أجلس مع زوجي، أتوجّه إلى المكتب، أعود إلى المنزل، أشاهد فيلماً لا يتطلّب الكثير من التفكير ثم أنام. في أيام العطلة أزور العائلة والأصدقاء. لكنّي فقدت الشعور بالمتعة". وتكمل: "ربّما يجب أن أكون ممتنة لانّني لست من الـ 75% الذين يعانون الفقر في لبنان، لكن بهدف أن أحظى بالأمان المادي بعت حلمي وبعت أمومتي. هذه الأحلام والرغبات المؤجّلة والتي لا وقت لها في رزنامتي اليوم، أتوقّع أن تسبقني وتنساني في العام 2022 إذا بقيت أجري خلف النجاة من الانهيار بدلاً من الالتفات نحوها".
"في العام 2021 وبهدف توفير المال صرت أتنقّل مشياً داخل بيروت. أحياناً أمشي ساعات كي أوفّر القليل. هكذا وجدت نفسي بعد أشهر أخسر الوزن لأن الأزمة تمنعني من التنقّل".
القصص في بيروت لا تنتهي، منها الجميلة ومنها الصعبة. كل الذين تحدّثوا عن عامهم الحالي الذي أوشك أن ينتهي، أحضروا الانهيار والأزمة إلى الواجهة ومن ثمّ تحدّثوا عن رغباتهم الخاصّة. منهم من خسروا أحباءً ومنهم من خسروا الوزن. منهم من كسر الانهيار أحلامهم ومنهم من نجوا بسببه.
لكن هناك واقعاً وحيداً يفرض نفسه على الجميع هو أن العام 2021 وضع شروطه على الجميع وحرم الكثير من الناس التمتع بالأيام المطلة بعدما تلاشت أحلامهم وآمالهم على وقع الاقتصاد المتدحرج سريعاً والذي يهددهم بمزيد من الجوع والفقر والذل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت