أكثر ما كان يلفت انتباهي في قصة ميلاد السيد المسيح، هو بساطة الأشياء. الفرح، والجمال، وأبهى القيم الإنسانية، تجلّت حقيقيّةً في بساطة المكان، وبساطة المذود، الذي أصبح سريراً لطفل المغارة، وبساطة الله، الخالق العظيم، وبساطة مريم ويوسف الفقيرين وغير المرحَّب بهما في أيّ نزلٍ كان. الولادة التي تمت في مغارة للماشية، لم تنتقص من عظمة الخالق، ولا من قداسة الحدث، ولا من يسوع المسيح: "فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ، وَلَفَّتْهُ بِقِمَاطٍ، وَأَنَامَتْهُ فِي مِذْوَدٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مُتَّسَعٌ فِي الْمَنْزِلِ" (لوقا 2).
أيّ ميلاد هذا، حين يقف "تلامذة يسوع" في هذه الأيام، على عتبة مكان تحرسه شرطة "إسرائيل"؟
على مدار السنوات، أخذتني صورة هذا الطفل الجميل، ابن بلادنا الذي تمت البشارة به قرب بيتنا في الناصرة، وولد في بيت لحم، امتدادنا الفلسطيني الطبيعي القريب لولا الجدار، والحواجز والحرّاس من قطّاع ممرات المحبة على طرق التواصل. كل الأطفال حديثي الولادة جميلون، كلهم يفتنونني، ربما لأنهم الصورة الحيّة للعجيبة التي تتكرر كل يوم ملايين المرات، ولا ينزع تكرارها من عجائبيتها.
كنّا صغاراً، وكان الميلاد دائماً حدثاً مفرحاً ننتظره بفارغ الصبر، على الرغم من ضيق الحال. لم يكن الفرح رهناً لا بسوقٍ ميلادي مؤطّر بتذاكر عبور، ولا بهدايا باهظة الثمن. كان الأطفال الكبار يجهّزون أكياس الشوكولاته والحلويات، للأطفال الصغار، ثم يأتي "بابا نويل" ببدلةٍ بالكاد تغطّي جسده النحيل، وبعض قطن جمعناه كيفما كان، لتغطية وجه المختار لهذه الوظيفة من بين يافعي العائلة في تلك السنة؛ يأتي ليوزّع علينا أكياس الحلوى-الفرح اللا محدود واللا مشروط . لا يمكن أن أشرح لكم عن كمّ الفرح الذي كنّا نشعر به مع حضور بابا نويل، وأكياس الحلوى. فرح يمتد لأيامٍ، ونحن "نحصحص" على الحلوى، كي لا تنتهي بسرعة، وكأننا كنّا لا نريد أن نغادر اللحظة، ونودّ لو نبقى في أجواء الميلاد البسيطة تلك.
لا أدري كيف سُرق الميلاد منّا، وانحدرت الطقوس، لتصبح مراسم ترويج في "سوقٍ سوداء"، سوداء على الرغم من كثافة كل الأضواء المعلّقة على الطرقات والمداخل! لا أدري ما طعم الميلاد في عيون الناس، وهم يشهدون الأطفال الذين يشبهون يسوع في فقرهم وبساطة حالهم، يقفون على حد الحاجز الذي يفصل بينهم وبين السوق الميلادي في بلد البشارة، لا لشيء سوى لأن ثمة من قرر أن الميلاد للأغنياء فحسب، أو قل لمن يقدر على توفير هذه المصاريف بالحد الأدنى.
لا أدري ما طعم الميلاد في عيون الناس، وهم يشهدون الأطفال الذين يشبهون يسوع في فقرهم وبساطة حالهم، يقفون على حد الحاجز الذي يفصل بينهم وبين السوق الميلادي في بلد البشارة، لا لشيء سوى لأن ثمة من قرر أن الميلاد للأغنياء فحسب، أو قل لمن يقدر على توفير هذه المصاريف بالحد الأدنى
أيّ ميلاد هذا، حين يقف "تلامذة يسوع" في هذه الأيام، على عتبة مكان تحرسه شرطة "إسرائيل"، وشركات حراسة خاصة استُدعيت ودُفع لها لتتأكد من أن من يدخل يدفع ثمن دخوله، أربعين شيقلاً، وهي ما يعادل 12 دولاراً، مقابل الدخول إلى السوق الميلادي؟! طبعاً ثمن تذكرة الدخول هذا، لا يشمل كلفة ما سيشتريه الزائر هناك، سواء أكان طفلاً أو بالغاً.
ولبلدية مدينة البشارة، الناصرة، حصة ونصيب في اقتسام الغنائم، غنائم السطو على الميلاد وسرقة الفرح الطفولي من عيون كلّ طفلٍ فلسطيني، وقلب كل فلسطيني/ ة. فإعلان بلدية الناصرة عن بيع تذاكر لجولةٍ في السيارة، في منطقة جبل القفزة، حيث أقامت مجسّمات ميلادية تضيئها أنوار العيد، كلفة الدخول إلى السيارة 200 شيقلاً، أي ما يعادل أكثر من 60 دولاراً، ما هو إلا مثالاً حياً على شرعنة اقتسام الغنائم تلك، ولكل تاجرٍ مجتهدٍ نصيب، أما الفقراء فلهم الله، ويسوع الفقير.
مليئة مدينتنا بفعاليات ميلادية، كلها متاحة لمن يملكون المال الكافي، أو لمن يجدون أنفسهم مضطرين إلى مجاراة هذه المنافسة على الـshow. هذا العرض الذي لا ينتهي، يفرض عليك الانسياق في الاستهلاك، وفي الانحراف عن حكمة الميلاد، وبحسبه، عليك أن تظهر أنك غني، تمتلك الكثير من المال، وتمتلك سيارةً فارهةً، وتسافر مع "عائلتك السعيدة" مرات عدة في السنة، إلى خارج البلاد، حتى لو ألزمك الأمر بالارتهان إلى قروضٍ تنهك قواك، وتفكّك عائلتك. من المهم أن تسافر، وتلتقط بعض الصور هناك، لتثبت أنك سافرت فعلاً، وتعطي كل من يسألك "أين قضيت العيد؟"، إجابةً مرضيةً، ولا بأس إن تغاضيت عن طابور البؤساء، وعن قائمة أسباب البؤس، وعن محدثي البؤس، وعن سالبي كرامتك، ومن حوّلوك إلى ثورٍ يدور في ساقية، أو إلى بقرةٍ حلوب.
أما الفقراء فلهم الله، ويسوع الفقير.
هكذا أصبحت شوارع المدينة مكتظةً لا بأبناء شعبنا الآتين من كل مكان، لنعيد فرح الميلاد معاً، وإنما بالمستعمرين الصهاينة الذين يأتون باحثين عن "كريسماس" رخيص الثمن، أو على الأقل أرخص بكثير مما يصرفونه في أوروبا على سبيل المثال. يأتون إلى بلداتنا التي يصفونها بالعنيفة على مدار السنة، ويدخلونها محميين بشرطة الاحتلال، وحرس الحدود الذين يملؤون المكان. يضعون قناع الوداعة واللطافة، ويبدؤون بتوزيع بعض الابتسامات الصفراء المتملّقة، بحثاً عن أقصى استغلال للمستعمَرين الذين هم في نظرهم، ليسوا أكثر من متوحشين دمويين. يحتلّ المستعمرون الضيوف أرصفة شوارعنا، وحيّزينا، العام والخاص، ويرحب بهم المتملّقون ومحبّو الربح على حساب الكرامة. ومن يجرؤ على التساؤل لماذا كل هذا الاصطناع والاستعراض والاستهلاك؟ وأين هي قيم الميلاد الحقيقية؟ يُتّهم في أحسن الأحوال بالعدمية، أو بالتحجر، والعقلية البائدة، والتطرّف.
والأهم من كل ذلك، هو نزع الشرعية عن أي تساؤلٍ يشكك في الاستهلاكية المفروضة بقوّة السوق الحرّ، والمنافية في جوهرها للقيم المسيحية، أو يندّد بالاستعراضية الفارغة من أي محتوى ذي دلالةٍ وقيمةٍ مرتبطتين بالميلاد، أو يرفض الأمننة (جعل الأمر إجراءً أمنياً/ جعله حالةً أمنية)، أو يرفض الطبقية البادية في إقصاء من يستحقّون الفرح والرعاية. في مختلف الحالات، الجواب حاضر: "الهدف من تدفيع الناس كلفة الدخول، هو منع دخول الزعران، والمتحرشين، والسمجين". وهذا ليس أكثر من محاولةٍ بائسةٍ لصبغ الفقراء، ووسمهم بأبشع الأوصاف، للتغطية على منطق سوق رأس المال الحرّ. وفي محادثات الأوساط التي تمتزج فيها العنصرية، بالرأسمالية، بأصابع المستعمر، تتم إضافة المسلمين إلى قائمة الزعران تلك.
أعيدوا إلينا يسوعنا... أعيدوا إلينا ميلادنا الذي سرقتموه.
من هو الأزعر؟ هل هو ذلك الطفل الفقير الذي يقف على باب المدخل، ولا يملك ثمن تذكرة الدخول؟ هل هو الطفل الفقير الذي لم يصل أصلاً إلى موقع الحدث؟ هل هو ابن بلدك الذي ينتمي إلى ديانةٍ أخرى، ولكنك تظن أنك أفضل منه، وأعلى منه مرتبةً، بسبب طائفيتك، أو بسبب سياسة التجزئة والشرذمة التي يواظب الاستعمار الإسرائيلي على بثّها وتغذيتها على الدوام؟ ماذا عن هذا المستعمِر الذي يهدم البيوت في الصباح، ويأتي في المساء ليركن سيارته على رصيفنا، من دون أن يحاسبه أحد، ويشتري تذكرة سلبَ ثمنها من جيوب الفقراء المقهورين أمثال يسوع؟ أي قيمةٍ للميلاد، وطابور من أطفال فلسطين يقفون عند البوابات، وعيونهم شاخصة يعجزون عن الدخول، بينما المستعمِر يدخل بكل عنجهيته، لابساً علمه العنصري، ومستعرضاً إياه على منصة الميلاد في قلب مدينتنا؟ لكم الله ويسوع المسيح يا إخوتنا المقموعين والمشرّدين من جيش الاستعمار في غزة وبيت لحم وعين الحلوة! لا تؤاخذونا، ربما سيمرّ وقت حتى نتذكركم، ونتذكّر أن هذا المستعمِر الفرح بسوق ميلاد الاستهلاك والاستعراض والاستغلال هذا، ما زال يعيش في منزلٍ على أرضٍ للاجئٍ يسكن مخيماً في بيت لحم، أو في لبنان، ويرزح هناك تحت وطأة البرد في هذا الزمن الميلادي!
ثمة من سرق الميلاد من حدقات عيون أطفالنا، وثمة من انتزع الفرح من قلوبهم، وثمة من حوّل الميلاد إلى حدثٍ تجاري، وإلى مشروعٍ اقتصادي واستهلاكي واستعراضي واستغلالي وإقصائي، وما انفكّ يحاول إقناع المؤسسة الاستعمارية بتمويل هذا الحدث، حتى انتزع منه معناه
ثمة من سرق الميلاد من حدقات عيون أطفالنا، وثمة من انتزع الفرح من قلوبهم، وثمة من حوّل الميلاد إلى حدثٍ تجاري، وإلى مشروعٍ اقتصادي واستهلاكي واستعراضي واستغلالي وإقصائي، وما انفكّ يحاول إقناع المؤسسة الاستعمارية بتمويل هذا الحدث، حتى انتزع منه معناه.
أرى الأهل في الشوارع، وهم عائدون منهكين مع أبنائهم من السوق الميلادي، يحملون بالوناتهم الغالية، بعد أن اضطروا إلى شراء ما لا يحتاجونه فعلاً. تعلو في مخيّلتي صورة أصحاب الأرض اللاجئين في مخيمات لا توجد فيها مقوّمات الحياة الأساسية. أعود إلى الأهل، وهم في طريقهم إلى سياراتهم، لا شيء حقيقياً هنا، لا شيء يمتّ إلى الميلاد بصِلة... يغنّون "روح زورهم في بيتهم، بيتهم فقير وما عندهم شي"، لكن البذخ سيد الموقف، والـshow مستمرٌ إلى أن يقرر صاحب المشروع التجاري هذا، الذي يتوارى بالكنيسة والدين ويسوع، أنه قد نال كفايته من الأرباح، فيسدل الستارة، بعد أن يحدّثنا عن الفضيلة والمحبة والتواضع والعطاء.
أعيدوا إلينا يسوعنا... أعيدوا إلينا ميلادنا الذي سرقتموه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...