شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
النبي المتمرد

النبي المتمرد "جوزيف كوني"... قبرٌ مُحتمل للروح القُدس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 5 ديسمبر 202102:35 م

مع توقف واشنطن عن مطاردته منذ أذار/ مارس 2017؛ لم يعُد لرأسه ثمنٌ أو قيمة، فخفت صيته وانحسرت سيرته، إلى أن أعلنت السفارة الأمريكية بالخرطوم، الخميس 2 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، عن مكافأة قدرها 5 ملايين دولار؛ مُقدَّمة من برنامج جوائز جرائم الحرب في وزارة الخارجية الأمريكية، مقابل الحصول على معلومات من شأنها أن تؤدي الى القبض على زعيم جيش الرب للمقاومة (LRA)، الأوغندي جوزيف كوني.

وبعد أن انتشرت شائعات عن وفاته في جمهورية أفريقيا الوسطى في كانون الثاني/ يناير 2021، جراء إصابته بـعدوى  فيروس كورونا المستجد، أعادت المكافأة الأمريكية "كوني" إلى الواجهة، ومنحته الحياة مُجدداً. ما جعل المحكمة الجنائية الدولية تُفعّل نشرة اتهامها ضده بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، على مدى ثلاثة عقود حارب فيها الحكومة الأوغندية وتمدد إلى جنوب السودان والكونغو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

وتوجد دلائل على أن قواته قتلت الآلاف وشرّدت مثلهم، واغتصبت النساء واختطفت وجنّدت الأطفال في حرب عبثية لا أفق ولا هدف لها في تلك الدول التي امتدت إليها حروب "جيش الرب".

هزيمة "الروح القُدس"، جعلته يشعر بالخِزي والرغبة في الثأر، فعاد أدراجه إلى مسقط رأسه في عام 1978، ليُعيد تنظيم الحركة تحت اسم "جيش الرب للمقاومة"

النبي الراقص

شهدت قرية أوديك، شمال أوغندا على تخوم الحدود مع دولة جنوب السودان، والتي تقطنها قبيلة الأشولي، مطلع كانون الثاني/ يناير 1961، مولد طفل أبنوسي وسيم، لأبوين مُزارِعين. شبّ الطفل عن الطوق وترك الدراسة خلال المرحلة الابتدائية من أجل ممارسة هواية الرقص، الذي برع به حتى صار حديث تلك الأنحاء المنسيّة من العالم، لكنّه لم يلبث أن قرر التقرب إلى الكنيسة بالمُداومة فيها، ما منحه الثقة ليُعمّد شماساً وهو في مقتبل العًمر. بيد أن قلق الصبّي جعله يضيق ذرعاً بممارسة طقوس التعبّد بين جُدران أربعة وجرس ونظام تراتُبي مُمل من وجهة نظره، فغادر الكنيسة ليعمل مداوياً بالسحر والأعشاب، فطبقت شهرته الآفاق وصار مقصداً لذوي الحاجات يسحرهم ويٌعشبِّهم، فينفحونه مالاً وولاءً.

كل شئ تغيِّر، مع سيطرة الرئيس الأوغندي الحالي، يوري موسفيني، على الحُكم في كمبالا 1986، الأمر الذي لم يُرضِ قبيلة الأشولي الممتدة إلى جنوب السودان، فثار قطاع منها مُبكراً على السُلطة الجديدة، وأبدت مناوءة وتمرداً ضد الحكومة الجديدة، فانطلقت حركة مقاومة تحت عنوان"الروح القُدس"، بقيادة سيدة تُدعى أليس لاكوينا، كانت تعمل وسيطة روحية في تلك الأنحاء، إنها قريبة جوزيف كوني التي تمكّن الجيش الأوغندي من سحق حركتها تماماً أثناء تقدمها إلى العاصمة لقلب نظام الحُكم والاستيلاء على السلطة، فيما التحق كوني بحركة تمرد أخرى.

لكن هزيمة "الروح القُدس"، جعلته يشعر بالخِزي والرغبة في الثأر، فعاد أدراجه إلى مسقط رأسه 1978، ليُعيد تنظيمها من جديد، تحت عنوان "جيش الرب للمقاومة"، بعد أن أدّعى أنه نبّي شعب الأشولي والشعوب المجاورة، وأن خدمة الرب تقتضي بالضرورة القضاء على عدو الرب، وهو الرئيس موسفيني، من وجهة نظر وريث الروح القُدس؛ النبي جوزيف كوني.

مسلحًا بالنبوءات والخرافات والشعوذة، ومنامات وأحلام حافلة بزيارة الأرواح وحلولها، وادعاء علاقة مباشرة مع الرب والروح القدس، قاد جوزيف كوني حركة المقاومة ضد رجل أوغندا القوي يوري موسفيني

تعهد كوني -الذي وجد في بدايته مُناصرة وتقبلاً في شمال البلاد بأسره- هزيمة الشيطان والانتصار للحق، وجعل أوغندا دولة ثيوقراطيّة مسيحية، دستورها الوصايا العشر وتقاليد وأعراف قبيلة الأشولي. وهكذا قاد المقاومة ضد كمبالا عبر الوحي الذي كان يتنزّل عليه من أرواح الأسلاف، التي يقول إنها كانت "تندغم" في أحلامه وتتمثّل في واقعه، وكذلك يتلقّاها من لدّن الرب مباشرة دونما وسيط أو ملاك مُجنّح، كما كان يُردد في محاضراته أمام أنصاره.

مسلحًا بالنبوءات والخرافات والشعوذة، وبمنامات وأحلام حافلة بزيارة الأرواح وحلولها، وادعاء علاقة مباشرة مع الرب والروح القدس، وبالأسحار عشية وأصيلا، قاد جوزيف كوني حركة المقاومة ضد رجل أوغندا القوي يوري موسفيني، وتحت ضرباته الموجعة اضطر كوني إلى التراجع والتقهقر إلى جنوب السودان، فاضمحلت مواردة وبدأ يسلب وينهب أهالي القرى والبلدات الممتدة على الحدود السودانية الأوغندية.

فظائع الرب

ومع توالي الضربات الحكومية الموجعة، كاد نجم كوني أن يأفل، لولا عناية الرب الذي سخّر له حكومة الإسلاميين "البشير" في السودان، التي كانت تريد إضعاف أوغندا وشغلها بنفسها عن تقديم الدعم للحركة الشعبية لتحرير السودان، المتمردة على نظام الخرطوم، فأجزلت له العطاء ومدت إليه يد العون والمساندة والتمويل والتموين والتدريب ابتداءً من عام 1994، فاشتد ساعده، وعاد إلى توجيه ضربات فعالة وناجعة إلى عدوه اللدود، وأصبح جيش الرب يمثل تهديداً كبيراً على الحكومة في كمبالا.

هؤلاء الأطفال المُجندين كانوا على قناعة تامة أن الماء الذي يرشه عليهم جوزيف كوني، كان يحميهم ويحجب أجسادهم عن الرصاص 

إلاّ أن لوثة كوني لم تنقضِ، فواصل مهاجمة القرى والبلدات من أجل النهب واختطاف الأطفال وغسيل أدمغتهم بخزعبلاته، من أجل تجنيدهم للقتال واستخدامهم كعبيد تحت خدمته، فأعمل في القرى الصغيرة قتلاً واغتصاباً وتشويهاً. وكان يفعل كل ذلك بأمر الرب – كما كان يدّعي .

ما لا يُصدقه أحد، أن ّهؤلاء الأطفال المُجندين كانوا على قناعة تامة أن الماء المُقدّس الذي كان يرشه وينفثه عليهم جوزيف كوني، لديه خاصية حماية وحجب أجسادهم عن الرصاص والحيلولة دونهم والموت، هكذا روى كثيرون من الأطفال الناجين من جحيم جيش الرب، ممن تمكنوا من الهرب إلى معسكرات خاصة أقامتها الحكومة الأوغندية لتوفير الحماية لهم وإنقاذهم من المجهول. هؤلاء رووا أيضاً أن نظرائهم الذين قاوموا أو حاولوا الفرار نهاراً، تعرضوا للضرب حتى الموت على أيدي أقرانهم، وأن زعيمهم اتخذ أكثر من 50 من أسيراته "زوجات". كل ذلك كان باسم الرب وجيش الرب.

قبر في كفيا كنجي

نحو ثلاثة عقود أنفقها جوزيف كوني في الرقص والسحر والقتل والاغتصاب باسم الله، فرّوع الآمنين وأخلى نحو مليوني شخص عن مناطقهم، وحولهم إلى لاجئين ونازحين، وأحال أرضهم قفراً يباباً وحياتهم فقراً وتشريداً.

في وضع كهذا، كان على المجتمع الدولي أن يفعل شيئاً، على الأقل على المستوى الأخلاقي، فأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال كوني في تشرين الأول/ أكتوبر 2005، بتهمة انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من بينها قتل 10 آلاف شخص، وخطف واسترقاق ما يربو عن 24 ألف طفل، فلم تجد حكومة الخرطوم ورئيسها السابق عمر البشير - التي كانت محاصرة دولياً حينها- بُداً من رفع يدها عن كوني بحلول عام 2006، ومع نهاية العام نفسه؛ كان جزء كبير من جيش الرب للمقاومة قد غادر فعلياً الأراضي الأوغندية، حاطاً رحالة بجمهوريتي الكونغو الديمقراطية والسودان (قبل الانقسام).

في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2008، حاولت بعض الدول المجاورة إثناء كوني وجيش الرب عن المضي قدماً في مقتلتهم العظمى، وإقناعهم بوضع السلاح والجلوس إلى طاولة مفاوضات مع حكومة يوري موسفيني، وإلاّ فسوف تتضافر جهودها من أجل القضاء عليه. وافق الرجل على عقد صفقة سلام مع كمبالا، لكنه غاب عن الاجتماعات ثم رفض العرض، فتعرض إلى هجوم مشترك.

وفي الشهر نفسه، حذرت الدول المجاورة لأوغندا كوني من أن رفضه التوقيع على اتفاقية سلام تم التوصل إليها في نيسان/ أبريل، سيجبرها على شن هجوم عسكري مشترك على جيش الرب. لكن كوني غاب عن الاجتماع المقرر لتوقيع الاتفاق.

فكان أن شن الجيش الأوغندي بمساندة من الجيش الشعبي لتحرير السودان -وقتها –، جيش دولة جنوب السودان حالياً، وجيش جمهورية الكونغو الديمقراطية هجوماً عسكرياً كاسحاً على قواعد جيش الرب بجمهورية الكونغو الديمقراطية، لكنهم لم يتمكنوا من اعتقال جوزيف كوني أو الحد من نشاط جيشه، فقد تمكن الرجل من التوغل في غابات الكونغو وأفريقيا الوسطى الكثيفة، واختفى هو وجيشه هناك وكأنما إبتلعتهم الأرض، لينظم صفوفه ويعود من جديد بمزيد من الهجمات على مواطني الدول الثلاثة، ويوسع من دائرة عملياته، الأمر الذي أجبر واشنطن على التدخل، فقررت إدارة الرئيس أوباما في تشرين الأول/ أكتوبر، إرسال 100 جندي باستعدادات قتالية خاصّة، للقيام بعمليات نوعية تهدف إلى تحييد جوزيف كوني وكبار قادة حركته بعيداً عن مسرح العمليات، إلا أن المهمة لم تكلل بالنجاح.

رغم خبو صيت جيش الرب وقائده، بعد بعثرتهم بين السودان وجنوب السودان، وتشاد والكونغو وأفريقيا الوسطي، إلا أنه يعتقد أن كوني يختبئ في منطقة كفيا كنجي بجنوب غرب السودان على الحدود مع أفريقيا الوسطى، نحو 1009 كيلومتر جنوب غرب العاصمة الخرطوم.

وهكذا تضاءلت قوة جيش الرب وانحسر تأثيره. ومع ذلك ، يبدو أن أمير الحرب ما يزال بعيد المنال، ولعل تولي صفحة السفارة الأميركية في السودان على فيسبوك الترويج والإعلان باللغة العربية؛ عن الجائزة البالغة 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، يشي بأن ثمة ما يجعلهم يعتقدون أنه ما يزال على قيد الحياة، وأنه موجود في مكان ما بالسودان. ومن المرجح أنها منطقة كفيا كنجي الغنية بالمعادن،  والشهيرة بحفرة النحاس. فهل ستكون نهاية الرجل لحداً بحجم شبر في حفرة النحاس، أم سينجو كعادته هذه المرة أيضاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard