تدخل/ ين مقاهي أربيل (هولير)، عاصمة كردستان العراق، التراثية والمتمركزة في غالبيتها حول قلعتها الأثرية في وسط المدينة، لتجد/ ي ضمن قائمة الطلبات، قهوة "قزوان"، أو القهوة الكردية، التي لا تقلّ طيباً عن القهوة العربية، أو القهوة البرازيلية الدارجة. وحسب وصف عشاقها ومحبيها، هي قهوة تحتاج إلى مزاج خاص، ولا يمكن تناولها على عجل.
هذه القهوة المعروفة باللغة الكردية بأسماء عدة، منها قسان، وقزوان، وكزوان، وكوسان "qehweya kizwan"، تُصنَع من حبّات شجرة البطم، وتتميّز بمذاقها الدهني السلس، وهي خالية من الكافيين، بسبب طبيعة الحبوب الغنية بالزيوت، والتي تُحمَّص ثم تُطحن جيداً، لاستخراج المسحوق، ويمكن شربها مع الحليب، أو من دونه.
بالإضافة إلى ذلك، تعطي هذه القهوة طعم الفستق لدى تناولها، لأن شجرة البطم البرّية تنتمي إلى فصيلة أشجار الفستق الحلبي ذاتها، وهي تنمو بشكل طبيعي في المناطق الجبلية في مناطق عدة حول العالم، منها جنوب شرق الأناضول، ووسطه، أي في كردستان تركيا، ومنطقة البحر المتوسط، وجبال كردستان العراق.
حسب وصف عشاقها ومحبيها، فإن القهوة الكردية، أو كما تسمى قزوان أو كزوان، هي قهوة تحتاج إلى مزاج خاص، ولا يمكن تناولها على عجل.
يقول الشاب جوان أحمد، صاحب مقهى في السوق التراثي المقبَّب، الواقع أمام قلعة هولير الأثرية، لرصيف22: "لدينا هنا معمل خاص بالقهوة الكردية، ونحضّر قزوان من مناطق انتشار أشجارها في جبال كردستان، بكميات كبيرة، ثم نعدّها على مراحل، فنغسل الحبّات، ونحمّصها، ثم نطحنها، وتصير كالمعجون بسبب خاصيتها الزيتية، ونعود لطحنها ثانيةً لتصير أنعم، وهذا كله بماكينات خاصة، وفي آخر مرحلة تضاف إليها المنكّهات، ثم نوزّعها في عموم كردستان".
ذكريات
للشاب هوري أحمد (اسم مستعار)، وهو من أهالي منطقة راجو التابعة لعفرين في ريف حلب الشمالي، ذكريات مع جدّته المتوفاة قبل نحو 15 سنةً، عن هذه القهوة. يقول لرصيف22: "أتذكّر أن جدتي كانت تحمّص حبوب القسان، وتطحنها يدوياً، ومن ثم تغليها لتعدّ منها قهوةً لذيذة، كنت أجلس بالقرب منها وأنا صغير، في ليالي الشتاء، وهي تمسك بحجر الرحى، وأنا أضع الحبوب في فتحته".
حفّز سؤالي عن قهوة كزوان، ذاكرة هوري، واستغرب متسائلاً: "لا أعرف لماذا لم تستمرّ والدتي في إعدادها؟ ولماذا لم نحافظ عليها إلى الآن؟ وكيف أهملت هذا التفصيل المهم في حياتي؟"، وردّه إلى منافسة القهوة التجارية، وسهولة دخولها إلى موائد المطبخ العفريني.
وفي هذا السياق، يؤكد الكاتب بلال حسن (85 عاماً)، وهو اليوم مقيم في ألمانيا، أن القهوة الكردية بقيت تُصنَع لدى بعض العوائل في منطقة عفرين، حتى فترة قريبة من القرن الماضي، ويضيف: "لا توجد صناعة قهوة كزوان في عفرين، كحالة تجارية، لكني شربتها أكثر من مرة لدى عوائل مقيمة في منطقة ميدانو، وغيرها، في شمال عفرين، حيث كانوا يصنعونها بشكلٍ يدوي، فيحمّصون البطم، ويطحنونه بالمطحنة اليدوية النحاسية".
إرث ثقافي واجتماعي
تُعدّ القهوة الكردية تقليداً مهماً في مجالس الأعيان، وجزءاً من التراث اللا مادي في كردستان، ولا سيما في مناطق جنوب الأناضول، وشرقه، ويُعتقَد أنها تعود إلى عام 1635، وقد ورد ذكرها في القصص والملاحم الكردية ضمن طقوسٍ خاصة بها، وأحياناً كانت نقطة تحوّل في مسار العلاقات الاجتماعية.
على سبيل المثال، ترد جزئية خاصة بالقهوة في ملحمة "درويش عفدي"، التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وتتناول قصة الزعيم الإيزيدي الشاب درويش عفدي، مع ابنة الأمير الكردي المسلم تمر باشا، زعيم التحالف الملّي المؤلف من 47 عشيرةً كرديةً، وامتد من أرزروم إلى بيراجيك جنوباً، ثم شرقاً إلى جبل عبد العزيز، وجبل شنكال في الجنوب الشرقي، وشمالاً إلى جزيرة بوطان وديار بكر، وكانت عاصمته ويران شهير.
في هذه الملحمة، يأمر الأمير تمر باشا بسكب فنجانٍ من القهوة، ويقول: "إنّ العدو قد جهّز جيشاً كبيراً، وهو قادم نحو مركز القبيلة، إنّ من يردّ هذا الغزو سيكون له الحق في الزواج من ابنتي عدّول، وحصة كبيرة من الغنائم". فيلتقط درويش عفدي فنجان الباشا، ويقرر محاربة الجيش العثماني.
ويشير المستشرق والقنصل البريطاني، كلوديوس جيمس ريج، في كتاب "رحلة ريج المقيم البريطاني في العراق عام 1820"، الذي سجّل فيه جميع أعماله ويومياته في بغداد وكردستان وإيران، إلى أن وجهاء الكرد إن أرادوا فضّ المجالس، أمروا بتوزيع القهوة. كما يذكر القنصل البريطاني جيمس برانت، في كتابه "رحلات جيمس برانت إلى المناطق الكردية والأرمنية"، ما بين عامي 1836 و1852، أن "أكثر المشروبات استهلاكاً في مدينة بتليس الكردية، هي قهوة Mokha"، وفي كل أسفاره في بلاد كردستان، كانت القهوة المشروب المفضّل لتقديمه للضيوف، لذا تُعرف القهوة الكردية بأنها مشروب وطني يستهلكه الكرد بكثرة.
تُعدّ القهوة الكردية تقليداً مهماً في مجالس الأعيان، وجزءاً من التراث اللا مادي في كردستان، ويُعتقَد أنها تعود إلى عام 1635، وقد ورد ذكرها في القصص والملاحم الكردية ضمن طقوسٍ خاصة بها، وأحياناً كانت نقطة تحوّل في مسار العلاقات الاجتماعية
وفي كردستان، عندما يتقدّم شاب وعائلته لخطبة فتاة، تقدّم الفتاة القهوة للضيوف، فإذا أعجبها الشاب، تحضّر له القهوة بالسكر، وإذا لم يعجبها تضع الملح في قهوته. وبمعرفة هذا التقليد، كان الشاب يأخذ عائلته ويغادر.
وفي القرن التاسع عشر، أصبحت قهوة كزوان مشروباً مشهوراً لا غنى عنه للأسر الحاكمة الأوروبية، والنبلاء الأوروبيين، والأرستقراطيين، وكانت تُصدَّر عن طريق شخصٍ كردي إلى أوروبا، لأكثر من مئة عام، باسم القهوة الكردية، وكانت شركة MARCEL GODARO الفرنسية، هي إحدى الشركات التي سوّقت للقهوة الكردية، بين عامي 1830 و1930، تحت اسم "Chicorée au Kurde"، وبغلاف يحمل صورة المقاتل الكردي النموذجي، وهي صورة رسمها المستشرقون الأوروبيون في القرن السابع عشر.
تزييف للتاريخ
مع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، نُفذّت سياسات إنكار وإبادة بشكلٍ منهجي على الشعب الكردي، ودُمّرت القيم الثقافية والتقاليد والعادات الكردية، وكانت قهوة كزوان إحدى هذه القيم الثقافية التي سُرقت، ونُسبت إلى تركيا، فقد أجبرت الشركة على إيقاف إنتاج "Chicorée au Kurde"، وتغيّرت هويتها لتصبح قهوةً تركيةً باسم قهوة مينينجق "menengiç"، وتمكّنت تركيا من تسجيلها في قائمة التراث الثقافي غير الملموس في منظمة اليونيسكو عام 2013، لتصبح التراث التركي الحادي عشر تحت مسمّى القهوة التركية.
وفي شباط عام 2019، تلقّى صاحب مقهى "مكسيم كافيه"، في مدينة بلغراد الصربية "لاونج بار"، تهديداتٍ من الشرطة الصربية والسلطات التركية، بإغلاق المقهى، بعد اتّهامه بدعم "الأنشطة الإرهابية"، وعزا صاحب المقهى الأمر لقرب المكان من السفارة التركية، ولأنه يطلق على القهوة التي يقدّمها وصف "الكردية"، وليس "التركية"، وأضاف، وفق ما نشره موقع معنيّ بتوثيق انتهاكات تتم بناءً على خلفيات سياسية، قائلاً: "نوع القهوة التي نقدّمها هو أسلوبنا الخاص في صناعتها، ونتمتّع بكامل حقوقه، ولدينا الحق في تسميته كما نشاء. لماذا يمكن أن يُعدّ اسم القهوة بمثابة عملٍ إرهابي؟".
لعلّ هذا يذكّر بما تفعله إسرائيل من تزييفٍ للتاريخ الفلسطيني، ونسب الأكلات الشعبية الفلسطينية إليها، بل وباتت تعرضها في معارضها الدورية، ومطاعمها، وفنادقها، أمام الزوار، على أنها "أكلات يهودية تراثية"، مثل الفلافل، والحمص، والشكشوكة، والمنسف، فجميعها أكلات شعبية تفوح روائحها من مائدة المطبخ الفلسطيني، لكنها دخلت القائمة الرئيسية لوجبات الطعام في المطاعم العبرية.
في كردستان، عندما يتقدّم شاب وعائلته لخطبة فتاة، تقدّم الفتاة القهوة للضيوف، فإذا أعجبها الشاب، تحضّر له القهوة بالسكر، وإذا لم يعجبها تضع الملح في قهوته. وبمعرفة هذا التقليد، كان الشاب يأخذ عائلته ويغادر
يقول دارا جمجمي، وهو من أبناء منطقة سرحد الكردية في تركيا، ومقيم في ألمانيا، ومهتمّ بتوثيق الحياة الاجتماعية لأكراد تركيا، إن أشجار البطم تنمو في المناطق الدافئة في كردستان تركيا، مثل بوطان، وآمد، وماردين، وغيرها، وتُعدّ القهوة المصنوعة منها، من التراث الكردي القديم. وعلى الرغم من قلة انتشارها، فهي قهوة فاخرة تُقدّم في المناسبات والجلسات الكبيرة.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22، أن تركيا لم تسرق القهوة فحسب، ونسبتها إلى نفسها، بل "سرقت الفن والثقافة الكرديين عموماً، وأنواع الأطعمة الكردية، والملابس الفلكلورية، وهو أمر فعلته مع العديد من شعوب المنطقة، من كردٍ وأرمن وعرب ويونانيين".
تُصنَع القهوة الكردية في المنازل، وتقدَّم في المقاهي، كمحاولات لاستعادة أجزاء تغيّبها السياسة والصراعات، عن الهوية الكردية.
عشّاق القهوة الكردية
على الرغم من كل محاولات تركيا لترويج قهوة كزوان على أنها قهوة تركية، فهي لا زالت متداولةً لدى عشّاقها باسم "قهوة كزوان الكردية"، وتحظى بشعبية كبيرة في مناطق آمد، وسمسور، وماردين، وديار بكر، وآدييامان، وغازي عنتاب، وبتليس، وباتمان، وأورفة، وأرضروم، في كردستان التركية، جنوب شرق الأناضول، وتنتشر في مقاهي كردستان العراق.
كما أنها تُسوَّق بأسماء مختلفة، وتُصنَع في المنازل، وتقدَّم في المقاهي، كمحاولات لاستعادة أجزاء تغيّبها السياسة والصراعات، عن الهوية الكردية، لكن الأكراد يصرّون على التمسك بها.
ففي مدينة شرناخ في جنوب شرق تركيا، تقوم سيّدة كردية تُدعى خيال أركان، بصناعة القهوة من حبّات كزوان، وتبيعها باسم "دارستان"، وتوزّعها على عموم محالّ شرناخ، ومناطق سلوبي وجزيرة، وتحلم بانتشار ماركتها الكردية في عموم جنوب شرق الأناضول.
وتمكّن شاب كردي من أهالي مدينة السليمانية، في إقليم كردستان العراق، من تركيب خلطة جديدة للقهوة الكردية، أساسها حبّات كزوان والبن البرازيلي، ويقدّمها باسم قهوة جان الكردية، وتلقى رواجاً كبيراً اليوم في منطقة السليمانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...