“الجامع للرجال واليوغا للنساء"، صدمتني تلك العبارة لسهام، إحدى السيدات اللاتي حاورتهن، وهي تتحدث في سياق إحساسها المقارن بين ممارسة الصلاة واليوغا بشكل جماعي.
صالات مراكز اليوغا تمتلئ بالنساء، بينما تكاد تخلو منهن صالات الجوامع.
هل لاحظتم ذلك؟ هل يعني هذا شيئاً أكبر من الممارسات الروحانية؟ هل شكلت رياضة اليوغا دواءً فاعلاً لمشاكل المرأة النفسية والجسدية، ولبّت تطلعاتها الروحانية بالمقارنة مع الحالة الدينية التقليدية؟
أخلاق عنيفة
في صيف عام 2019، جلسنا على شرفة منزلنا في حيّنا العشوائي، الذي يحتضنه جبل قاسيون، كانت دمشق كعادتها ساحرة متباهية بجمالها وبأضواء محالها وسياراتها وجوامعها، سألتُ صديقتي هدى: "هل هذه الأضواء الخضراء كلها جوامع؟"، أجابت: "أظن نعم".
"تساءلتُ مراراً عن أسباب ازدياد أعداد الجوامع في دمشق، كنت كلما مشيتُ بالقرب من الجامع الأموي في دمشق، أحسستُ بشيء من الغربة، لطالما شعرتُ أن الجامع مكان مخصص للرجال فقط".
"عانيت من رغبتي الجنسية، بعد تجاوزي الأربعين دون شريك، شعوري الدائم بالنقص، وقلة الثقة بالنفس، الوحدة، والخوف.. الجامع كان ملاذي، أحدق في وجوه المصلين، فلا يصلني الخشوع"
تعود هدى، وهي سكرتيرة أربعينية، بذاكرتها لسنواتٍ مضت، مستطردة: "انطلق الميكروباص في شوارع مدينة دمشق، مجتازاً حي البرامكة، توقف أخيراً بالقرب من وكالة الأنباء السورية سانا، كنت أجلس في المقعد الأخير، بقربي سيدة محجبة، تحمل بيدها مسبحة إلكترونية، تصل همهمات صوتها إلى مسامعي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
تصف هدى شعورها: "أردت أن يصل الميكروباص بسرعة، تسبيحات السيدة أربكتني، أعادتني إلى ماضٍ ليس ببعيد، اعتدتُ فيه التسبيح أكثر من 100 مرة يومياً، علّني أصل إلى السلام الداخلي".
عانت هدى مشكلات نفسية مرتبطة بكلمة "عانس"، شاهدت حلقة دينية لشيخ جامع يدعو الشباب للالتزام بالصلاة للتخلص من الآلام، تقول: "في البداية صليّت الصلوات الخمس، بعدها شعرتُ بالكسل، فاختلقت الأعذار لأبقى في السرير، لا قوة للوضوء، شيئاً فشيئاً تحوّلت الصلاة من وسيلة للخلاص إلى عبء يزيد من آلامي".
"مما كنتِ تعانين؟"
"من رغبتي بتجربة جنسية، بعد تجاوزي الأربعين دون شريك، شعوري الدائم بالنقص، وقلة الثقة بالنفس، الوحدة، والخوف من البوح بأسراري لأحد، فكان الجامع ملاذي الوحيد، كنت أحدق في وجوه المصلين، فلا يصلني الخشوع المرتبط بالصلاة، خاصة مع معرفتي السابقة بأخلاق معظمهم، يمكنني القول الآن أنها لم تكن جيّدة، ليس الأمر متعلقاً بالسرقة أو الكذب، بل باللين، كانوا أقرب إلى العنف من اللطف، حتى في أبسط كلماتهم/هن".
توقفت هدى عن أداء الصلاة يومياً، بدأت ممارسة رياضة اليوغا منذ نحو ثلاث سنوات، تقول: "لم أنقطع عن الصلاة بشكل كلي، لكن حملتني اليوغا إلى مكان آخر، عميقاً في داخلي، علّمتني معنى السلام الداخلي، هدأت أفكاري وغرائزي، تعلمّت السيطرة على هواجسي، وصلت إلى السلام الجسدي والروحي معاً".
"اليوغا وسيلة سحرية"
ذهبت سهام مع عائلتها إلى أحد أضرحة شيوخ الطائفة العلوية المقدسين، كان المكان مزدحماً، جميعهم جاؤوا لزيارة المقام والدعاء، في زاوية الضريح رأت امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها، تمسك بغطاء الضريح باكية، ملامح وجهها لم تغب عن ذاكرتها.
سألت أحدهم، ما حال هذه المرأة؟ فأجابها: "خسرت ابنها الوحيد قبل عامين في الحرب، ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف عن البكاء".
تتذكر سهام تلك الحادثة، بعد أن تعلمت اليوغا، وتمنت أن يعود بها الزمن للوراء لتنصحها بممارسة اليوغا، علها تخفف من آلامها.
ولدت سهام في عائلة من ريف الساحل السوري، تمنع النساء من الاطلاع على أسرار المذهب، تقول لرصيف22: "في الأعياد الرجال فقط يصلون، أما النساء يبدأن بطهي الطعام منذ الصباح الباكر، إذاً لا صلاة للمرأة في الطائفة العلوية".
ماذا عن شيوخ الطائفة؟
تجيب سهام (36 عاماً): "موجودن، لكن قلة من يقدمون نصائح تخص المرأة، لهم دور واسع في تفسير الأحلام، ربما كتابة حجاب لتهدئة الأفكار، أو لعودة مسافر أو حبيب، أحياناً لجلب المزيد من الزرق، لكن كل ذلك لم يلامس حقيقة مشكلتي".
ما هي مشكلتك؟
"بعد علاقة استمرت أربع سنوات، انفصلت عن صديقي لأنه من خارج الطائفة، رفضت عائلته زواجنا، كانت روحي متعبة تطلب قوة إلهية لتحييها من جديد، دخلت في دوامة من الاكتئاب، إلى أن بدأت ممارسة رياضة اليوغا".
"هل تجدين اليوغا بديلاً عن الصلاة؟"
"لم أجرب الصلاة سابقاً، لكن اليوغا بالتأكيد وسيلة سحرية للاتصال بالروح والقلب معاً، واظبت على ممارستها حتى أضحت جزءاً من حياتي، إنها بمثابة طقس روحي أتصل به مع ذاتي ومع الإله، أنفض عن نفسي كل مخاوفي، أبدأ بالتنفس العميق الهادئ، اغمض عيني وأغوص في الأعماق، حيث يوجد الرب، يسمعني، يدلني إلى يقظة الروح وسكينة القلب".
وتمنع تعاليم شريحة واسعة من الفقهاء المسلمين المرأة من أن تكون إماماً للرجل في الصلاة، لأسباب منها إنها عندما تنحني للركوع أو للسجود قد يراها الرجال خلفها فتثير "الفتنة"، ويرون في ذلك تناقضاً مع الخشوع والروحانية اللازمة للصلاة، إضافة لأسباب متعلقة بالحيض والحمل والولادة، والذي يدخل كثير منه في إطار "النجاسة" التي تعفيها من الصلاة، وتلزمها ضرورة اجتناب الأماكن المقدسة.
وشهد العام 2020 جدلاً واسعاً، بعد ظهور سيدة فرنسية من أصول جزائرية، كاهنة بهلول، في مسجد فاطمة المختلط في العاصمة الفرنسية باريس، تؤم المصلين، وجزء من شعرها مكشوف، و قالت بهلول في لقاء إعلامي لها إنه من المهم إدخال نموذج جديد للإسلام، يكون للرجل والمرأة بمقتضاه المساحة المكانية ذاتها للعبادة.
"أصلي بملء إرادتي"
وقفت راما قبل نحو ثلاث سنوات بالقرب من مجمّع الشيخ أحمد كفتارو في دمشق ،باكية، فالمسؤولة عن المجمّع منعتها من الدخول، لأنها غير محجبة، اقترب منها شيخ يدعى عدنان الأفيوني، سألها: ما حالك يا ابنتي؟ أخبرته ما حدث، طلب منها الدخول والنظر إلى المرآة، ثم قال: "هل رأيت روحك الجميلة؟ ادخلي الآن".
تدرس راما الشمري في قسم الإعلام والدعوة، في مجمّع الشيخ أحمد كفتارو، بدأت بالصلاة منذ ثلاث سنوات، بعد أن تعلّمت دروساً في الإسلام لم تكن تعلمها سابقاً، تقول لرصيف22: "علّمني الشيخ عدنان الأفيوني معنى الصلاة، بعد أن طلبت منه ذلك، لم يحاول يوماً إقناعي، كان شخصاً رحمياً صادقاً عالماً بالإسلام".
"عندما تواجه امرأة تسميات المجتمع، مثل كلمة عانس، أو مطلقة، أو قبيحة، وتذهب إلى شيخ الجامع، سيقدم أدوات بسيطة، ربما لا تواكب تعقيدات المجتمع، سيقول لها: عليكِ إما بالزواج أو قراءة القرآن الكريم أو التسبيح"
ترى راما (22 عاماً) الصلاة طريقها الروحي للاتصال بالله، تقول: "تعلّمت كيف أسلك هذا الطريق باللين والمحبة والإيمان".
تتعايش راما بقبول مع المساحة الدينية الضيقة المخصصة للنساء، خاصة داخل الجامع، وامتيازات الرجل في الإمامة، وتقنع بما يتاح لها، تقول: "الرجل وحده يمكنه أن يكون إماماً، ويلقي الخطب الدينية بالمصلين، لكن ذلك لم يمنعني من التجربة، فكنت "إمامة" على عائلتي بكاملها في شهر رمضان الماضي، وألقيت الخطبة في المجمّع، تحدثت من خلالها عن المكانة الرفيعة للصداقة في الإسلام".
الجوامع صبغتها ذكورية
يرى مدرب اليوغا سلام خير بيك، هو أيضاً مترجم للعديد من الكتب الفلسفية من اللغة الإنكليزية إلى العربية، أن المرأة في المنطق الديني مقيّدة من خلال الممارسة الجماعية، "لكننا لا نعلم إلى أي مدى يتفق جوهر الدين مع هذه الممارسة السائدة، إذ تطغى الصبغة الذكورية على الجوامع، ما يخالف طبيعة المرأة المفطورة على حب الروحانيات، وهذا ما قدمته لها رياضة اليوغا".
ويضيف موضحاً: "شكلت رياضة اليوغا حالة إشباع روحية للمرأة مع ذاتها ومع الخالق، لأن طبيعة اليوغا تشبه طبيعة النساء، فهي باطنية مبنية على الأحاسيس، وفكر وجداني يقوم على الاختبار مقارنة بالممارسة الدينية الجامدة، فأضحت في بعض الأحيان بديلاً عن الصلاة، ما يفسر الحضور الساحق للنساء في جلسات اليوغا".
هل ساعدت اليوغا المرأة العصرية؟
"عندما تواجه المرأة تسميات المجتمع، مثل كلمة عانس، أو مطلقة، أو قبيحة، وتذهب إلى شيخ أحد الجوامع تسأله الحل، سيقدم أدوات بسيطة، ربما لا تواكب تعقيدات المجتمع المتطور، سيقول لها: عليكِ إما بالزواج أو قراءة القرآن الكريم أو التسبيح، رغم أهمية هذه الأدوات لكنها غير كافية"، يقول سلام.
"أما تمارين اليوغا فتشمل التنفس، التأمل، ضبط الغريزة، فصل الحواس، تهدئة الأفكار، تحرر الجسم والحوض والرحم والمبيضين، وتضغط على أماكن معينة في الجسم تساعدها على تنظيم هرموناتها، كلها أدوات وطرق عملية تخاطب من خلالها اليوغا المرأة، وتقدم حلولاً روحية لمشاكلها، وتخفف من أعبائها".
غياب جوهر الدين
ينظر سلام بتشكك وحيرة لما يصفه بـ"جوهر الدين" و"الإسلام"، ويرى أنه مجنٍ عليه، ومساءٌ فهمه، يقول: "الهجمة على الإسلام (كديانة) فيها شيء من الكذب والتجني، بصرف النظر عن مدى اتفاقي مع رجال الدين أو لا، فإذا كنت تصلي بطريقة صحيحة، رجلاً أو امرأة، يفترض أن تكون شخصاً لطيفاً، غير عنيف".
عند هذه النقطة، تعود حيرة سلام بأشد من سابقتها، يستطرد: "ربما صلاة الناس الحالية تشوبها الأخطاء، نتيجة للشخصيات الدينية التي احتلت الصدارة، وقدمت خطابات دينية ربما منقوصة أو غير كافية، فغاب جوهر الدين الحقيقي، لكن لا علاقة لذلك بفكرة الصلاة سواءً في الإسلام أو غيره من الأديان".
"هل يدركون عمق الصلاة أو روحانية اليوغا؟".
يشدد سلام على أهمية الخلفية التي نقدمها لتشجيع النساء على ممارسة روحانية معينة، الصلاة كانت أو اليوغا، ويقول: "هل يدركون عمق الصلاة أو روحانية اليوغا، هنا تظهر التأثيرات الجذرية".
يسرد سلام حكاية اليوغا، بطريقة تدفع عقلي للمقارنة بين نشأتها وأهدافها مقارنة بالأديان عموماً، يقول: "تعود اليوغا كفكر بالأصل إلى بلاد الهند، الذي حفظ هذا التراث بشكل محدد، وأقدم الآثار الكتابية التي ذكرت فيها كلمة يوغا تعود لـ 2000 عام قبل الميلاد".
"كانت محاولة للتفكير بطرق مختلفة، تهدف إلى تخليص الإنسان من معاناته، كونه جزءاً من هذا العالم الضخم، طرحت اليوغا مفاتيح مهمة لتخليص الإنسان من معاناته".
"توصلت اليوغا أنه لابد من إيجاد حلول لتهدئة العقل، خرجوا بالتقنيات التأملية، أي بدلاً من أن يفكر عقلك بآلاف الأفكار يومياً، لماذا لا يختصرها لفكرة واحدة فقط، عن طريق عزله عن العالم لمدة زمنية، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، ستنخفض بالتأكيد كمية الأفكار التي ستصله، وسيبدأ عقلك بالاسترخاء".
"وتعني اليوغا الضم والتجميع والتوحيد والتناغم مع نفسك، ومع ما هو أوسع منك، وألا تشعر أنك وحيد، أنت كائن عظيم ولست صغيراً أو محدوداً في هذا العالم الواسع"، ينهي سلام حديثه لرصيف22.
ويحتفل العالم في 21 يونيو/حزيران من كل عام باليوم العالمي لليوغا، ويؤمن ملايين الناس ممن يمارسون رياضة اليوغا، أن أي عمل خيراً كان أم شراً، تترتب عليه عواقب، تنمو على شكل ثمار، وبمجرد أن تنضج تسقط على صاحبها، وهذا ما يسمونه "الكارما".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...