شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قد أنجح في إنهاء

قد أنجح في إنهاء "عوليس"... تجربة في قراءة كتاب من صفحته الأخيرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 30 نوفمبر 202104:09 م

بعد تجاوز سنّ الخمسين، لا شفاء من اعتياد قراءة الصحف اليومية من صفحتها الأخيرة. أما قراءة كتاب "جغرافية نهر الحياة" من صفحته الأخيرة، فهي تجربة جديدة، جديرة بأن أتأملها. ليس للصحف فهرس يوضح ما أتابعه بحكم الثقة، وما يمكن أن يجذب انتباهي. فرز الأهم من المهم يجعلني أبدأ بالصفحة الأخيرة، عكس عقارب الساعة، إلى الأولى، لأختار ما يستحق القراءة. وفي كل مرة أضبط نفسي قد قرأت انتقاءاتي بمجرد وقوع الاختيار عليها. قبل قتل الصحافة في مصر، كنت أبدأ قراءة "الأهرام" بعمود "يوميات" لأحمد بهاء الدين، وكنت أشجع الزمالك، وأقرأ "الجمهورية" بداية بعمود "من ثقب الباب" لكامل زهيري، تليه صفحات الرياضية.

أصل إلى الصفحة الأولى، وأطوي الجريدة تلقائياً، ليس بسبب التشبّع، اكتفاءً بما صادفني من مواد متفاوتة المستوى، وإنما لأنني أتخيّل الصفحة الأولى بيضاء، تخلو مما يخصّني. أما الكتاب فأتأمل تفاصيل غلافه، أمدّ جسراً للتعارف والونس، ولا أستطيع قراءة كتاب منزوع الغلاف، ولا مشاهدة فيلم إذا فاتتني "التترات"، ولو تضمنت فقط أسماء على لوحة سوداء خالية من الصور. عنوان الفيلم والتفاصيل الخاصة بصنّاعه جزء من الشريط، وتستفزني إضاءة القاعة وانصراف الجمهور قبل انتهاء "التترات" الأخيرة، هو الجمهور نفسه حين يحتشد في ممرّ الطائرة قبل توقفها، مدفوعاً بالضجر. أنا أيضاً ضجرت من رواية "عوليس"، وأخشى أن أموت مثقلاً بشعوري بالذنب، لعدم إتمامها.

صارحني مترجم أثق في ضميره وكفاءته بأن نصّ جيمس جويس أيسر من ترجمته التي أنجزها الدكتور طه محمود طه. وفي سهرة ببيت الدكتور فاروق عبد الوهاب قال لي المعنى نفسه، وأضاف أن المترجم "تصرّف" في النص، مراعاةً لمشاعر القراء العرب. استشهد بجملة سوقية لبائعة هوى تقول: "اتنكت كتير"، وأنطقها المترجم بالفصحى: "ضوجعت كثيراً". في الإنكليزية مستويات دلالية متعددة، يمكن رصدها بالمشاعر المختلفة بين ممارسة الحبّ والاغتصاب الزوجي والإجرامي وبيع الجسد. أثق بالدكتور فاروق عبد الوهاب رحمه الله، فهو من قلائل يترجمون النصوص العربية إلى ما يوازيها في الإنكليزية، فإذا ترجم عملاً ينتمي إلى القرن السادس عشر، استعاد روح السرد الشكسبيري.

ربما تكمن صعوبة تلقي "عوليس" في عدم قابلية اللغة العربية للنحت، وتضمين كلمتين في اشتقاق لفظي مبتكر. لم يُكتب الشيوع لكلمة "الزحفطون"، بمعنى الزحف على البطون كما أراد لها سعيد تقي الدين

ربما تكمن صعوبة تلقي "عوليس" في عدم قابلية اللغة العربية للنحت، وتضمين كلمتين في اشتقاق لفظي مبتكر. لم يُكتب الشيوع لكلمة "الزحفطون"، بمعنى الزحف على البطون كما أراد لها سعيد تقي الدين. كما لم تخرج "الحوسلة"، بمعنى تحويل الشيء إلى وسيلة، من مؤلفات الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى الحياة بين الناس، فتصير مصطلحاً. تظل اللغة العربية تستعصي على محاولات تطويعها، أو جعلها قابلة لاختصار أسماء الدول والمعالم والابتكارات إلى حروف دالة يسهل بمثلها الإشارة إلى أي جديد في الإنكليزية. واستقرت المختصرات الإنكليزية على ألسنة عموم البشر: "BBC"، "PCR"، "DNA". وأشهر اختصار في مصر هو "س ح م"، سكك حديد مصر.

كان الدكتور طه قد أرشد إلى طريقة تيسِّر قراءة "عوليس"، بالبدء بالفصل الرابع ثم العاشر، والعودة الطبيعية إلى الفصل الأول. لم يفلح ذلك معي، وتوقفت عند صفحة 126، وكلما بدأت لا أتجاوزها. ليس أغرب من نصيحة بترتيب فصول القراءة إلا كتابة مارغريت ميتشل لروايتها "ذهب مع الريح". خاضت تجربتها الأولى بتشجيع زوجها، لتتناسى الألم، وهي طريحة الفراش ثلاث سنوات بعد حادث سير. انتهت مارغريت من روايتها، باستثناء الفصل الأول، وعزفت عنه، واكتفت بما كتبت، وجادلت بأن أحداً لن يقرأ، حتى زوجها. وفاجأها قول الناشر إن الرواية ينقصها الفصل الأول، "إما أن أكون أهبل، وإما أنها آخر صرعة نشهدها"، واكتملت الرواية.

أنا أيضاً ضجرت من رواية "عوليس"، وأخشى أن أموت مثقلاً بشعوري بالذنب، لعدم إتمامها

هذه الأفكار أثارها كتاب "جغرافية نهر الحياة... سيرة وأثر"، للدكتور حمدي هاشم خبير الدراسات البيئية. المجلد الذي يقع في 640 صفحة أثبت لي إمكانية قراءة كتاب من نهايته، سلوك يشبه تجربة مارغريت ميتشل في كتابة روايتها الوحيدة، بادئة بالفصل الأخير. الكتاب قسمان، والفهرس يجمع الغموض والإيضاح؛ غموض القسم الأول الذي ينتهي بصفحة 271، ويحتلّ سطراً واحداً في الفهرس. والقسم الثاني يستأثر بفهرس من ثلاث صفحات. وبنهاية القسم الثاني بدأت قراءة شهادات زملاء المؤلف وأصدقائه. أعرف البعض منهم، وهم ثقات، ومقالاتهم تعرّفني بمنجز مؤلف لم أقرأ له كتاباً قبل سيرته التي يتسلّح لها بدعم ومشاركات، مكتوبة ومصورة، تزيد على مساحة الكتاب.

معظم المقالات والشهادات من داخل حقليْ الجغرافيا والعمارة. والقليل من خارج تخصص المؤلف. يكتب عالم الآثار المصرية الدكتور عبد الحليم نور الدين تقريظاً عنوانه “هذا الرجل أهلٌ لكل تكريم"، كما يكتب أستاذ علم الأدوية الدكتور محمد رؤوف حامد صفحة عنوانها "حمدي هاشم... داعية الثقافة الجعرافية". من الشهادات ما هو شخصي لا يزيد على بضعة سطور، مثل شهادتيْ كل من خبير السيول الدكتور ضياء الدين القوصي وعنوانها "الجغرافيون مشعلو شرارة المعرفة"، والدكتور المحمدي السيد عيد تحت عنوان "صاحب رؤية جغرافية شاملة". أما أطول دراسة وعنوانها "تغيير الجغرافيا ـ صناعة التاريخ" فتبلغ 18 صفحة، وكتبها وزير الثقافة السابق الدكتور عماد أبو غازي.

انتهت مارغريت من روايتها، باستثناء الفصل الأول، وعزفت عنه، واكتفت بما كتبت، وجادلت بأن أحداً لن يقرأ، حتى زوجها

تتبع أبو غازي الجهود والمشاريع والأحلام بربط البحرين الأحمر والأبيض، حتى تأميم القناة عام 1956. كانت البداية قناة تصل نهر النيل بخليج السويس، هي قناة سيزوستريس، وسيزوستريس هو الاسم اليوناني للملك سنوسرت الثالث (1878 ـ 1843 قبل الميلاد). والدراسة منشورة في كتاب "قناة السويس.. التاريخ والمصير والوعد"، أصدرته مؤسسة الأهرام عام 2015، مع لوحات فنية إحداها للفنان الإيطالي جولين كالين يصور تجاراً أو سفراء من فينيسيا يعرضون على سلطان مصر خريطة تتضمن خطة أو مشروعاً للإيطاليين لربط البحرين المتوسط بالأحمر. وينهي أبو غازي دراسته: "هذه قصة تغيير الجغرافيا وكيف صنعت تاريخاً، يهديها باحث في التاريخ إلى صديقه الجغرافي" حمدي هاشم.

أنتهي من قراءات انتقائية لمقالات وشهادات، وأبدأ من بداية أرادها المؤلف، فأجد تقديم أستاذ التاريخ الدكتور عاصم الدسوقي يخاطب شباب الجغرافيين: "أهم ما في هذه السيرة رحلة صاحبها العلمية والعملية، فهو من الذين آمنوا بتوظيف العلم من أجل الحياة، وليس من أجل الحصول على شهادة تعلق على جدار". يلي ذلك نصّ كتاب الدكتور حمدي هاشم، وفيه توثيق لسيرته منذ الميلاد عام 1955 حتى عام 2014. أول كتاب يصادفني مصبوباً كتلة واحدة، لا مقدمة، ولا أبواب، ولا فصول، ولا عناوين فرعية تريح العين، وتفصل بين مدينة ولد فيها الكاتب وأخرى يعيش فيها، بين مرحلة عمرية أو دراسية وأخرى، بين حلم وتحقيقه.

يسجل المؤلف اعتصام الجماعة الإسلامية في مارس 1977 بالمدينة الجامعية، احتجاجاً على انتشار "مجلات إباحية أجنبية"، وأعلنت أن وراءها "مخططاً ماسونياً". منع المحتجون دخول رئيس جامعة القاهرة صوفي أبو طالب لحضور ندوة، ونصحه مسؤولو الأمن بالرجوع، ولاحق الغاضبون سيارته بالهتاف: "إسلامية إسلامية". وبعد فوز عبد المنعم أبو الفتوح برئاسة اتحاد الطلاب، افترشوا ساحة المدينة الجامعية، لتأدية "صلاة الشكر". ويمضي الكتاب مسجلاً مشاهد ووقائع بعضها يستحق أكثر من الصورة الفوتوغرافية. هناك مواقف خاطفة يمكن استبعادها من الكتاب، مثل مظاهرات طلاب جامعة الأزهر، عام 2000، رفضاً لطبع رواية "وليمة لأعشاب البحر" “للأديب السوري حيدر. وفي العجلة سقط حيدر اللقب، أو حيدر الاسم. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image