"البقاء للأقوى" عدا عن أنه شريعة الغاب، فهو نهج رئيسي اعتمده القادة الصهاينة قبل قرن من الزمان حين منعوا "الضعفاء" من الهجرة إلى "أرض الميعاد" بالنسبة لهم في واحدة "من أكثر القضايا الخلافية إثارة للجدل في تاريخ الحركة الصهيونية".
"للأسف، لا تستطيع الصهيونية أن تقدم حلاً للكوارث"، هكذا قال أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، حاييم وايزمان، عام 1919، في توضيحه لأسباب العجز عن فتح الباب أمام الهجرة إلى فلسطين، قبل قيام إسرائيل، أمام آلاف الناجين من المذابح في أوكرانيا بينما يتوسلون للحصول على فرصة لجوء.
تهجير انتقائي
أمر مهم لفت إليه آنذاك الرجل الذي أصبح لاحقاً أول رئيس لإسرائيل وهو أنه لا يعتقد أن هؤلاء اللاجئين يتمتعون بـ"القوى البناءة الهائلة" اللازمة لتأسيس الوطن القومي المنشود لليهود،وفق ما أفادت صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
يصف المؤرخ الإسرائيلي غور إيلروي، أستاذ التاريخ في جامعة حيفا، هذا بـ"القسوة"، معتبراً أن "وايزمان فضّل المهاجرين المنتجين على اللاجئين الضعفاء، من منطلق اعتقاده بأن ‘أرض إسرائيل‘ بحاجة إلى مهاجرين أقوياء أصحاء، وليس لاجئين ضعاف الجسد والروح".
أكثر من ذلك، يعتقد المؤرخ الإسرائيلي أن مجموعة أكبر من المهاجرين حذفوا عمدا من كتب التاريخ بمن فيهم ناجون من مذابح وأعمال شغب وأيتام وأرامل وضحايا مجاعة ومفلسين وغيرهم من الفئات المهمشة.
واحدة "من أكثر القضايا الخلافية إثارة للجدل في تاريخ الحركة الصهيونية"... مؤلّف جديد بالعبرية يفضح "قسوة" القادة الصهاينة واستثناءهم المرضى النفسيين وضحايا مذابح من الهجرة إلى فلسطين
قال: "اليهود الذين لم يتناسبوا مع الدولة التي في خياله (يقصد وايزمان) حين طرقوا أبواب مكاتب ما قبل الدولة في أوروبا الشرقية لطلب تصاريح الهجرة، تم الرد عليهم بالرفض".
وهذا هو محور أحدث مؤلفات إيلروي باللغة العبرية بعنوان: "أرض الميعاد: الهجرة إلى ‘أرض إسرائيل‘ بين عامي 1919-1927"، والذي نشره حديثاً معهد بن غوريون للأبحاث.
وتظهر الوثائق من الأرشيف الصهيوني المركزي التي اكتشفها إيلروي واستعرضها في كتابه الجانب المظلم لهذه الهجرات التي عُرفت لاحقا باسم الهجرة الثالثة والرابعة.
يركز الكتاب للمرة الأولى على المهاجرين غير الرواد وغير الأصحاء أو المثاليين الذين تم تكريسهم في الدعاية الصهيونية باستمرار.
بحسب إيلروي، اختار معظم المهاجرين أرض فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني لقلة الفرص المتاحة أمامهم، أو لأنهم اعتبروها أرضاً للخلاص والميعاد كما يجدون في التوراة. ويصف المؤرخ الإسرائيلي تجاهلهم بأنه "خطيئة ضد الحقيقة التاريخية، ولا يعكس الحقيقة بأمانة ويفصل الهجرة إلى 'أرض إسرائيل' عن سياقها التاريخي الأوسع".
"مجرد عبء"
جرى استثناء الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية وعصبية على نحو خاص خوفاً من أن يؤدي تزايد أعدادهم إلى "حالة من الذهان الجماعي".
في إحدى الوثائق، استنكر الدكتور دوريان فيغنباوم، الذي اشتهر بأنه أول طبيب نفسي في إسرائيل، "كيف جلبت المنظمة الصهيونية العالمية رجلاً مصاباً بمرضاً نفسياً إلى إسرائيل برغم علمها بمرضه الذي لا علاج له"، موصياً بأن "يُدخل الرجل المستشفى وبعد فترة يُعاد إلى الخارج"، مشيراً إلى أنه "مجرد عبء" على الدولة الوليدة إذ "يتطلب علاجه عمالة ونفقات كثيرة"، مقترحاً تحسين عملية اختيار المهاجرين لعدم تكرار الأمر.
في وثيقة أخرى، كتب مسؤول عن المهاجرين لرؤسائه أن "معيارنا يجب أن يكون جلب العناصر البناءة هنا"، محدداً المصابين بأمراض القلب والصرع والزهري كـ"عناصر غير مرغوب فيها".
خوفاً من أن يؤدي تزايد أعدادهم إلى "حالة من الذهان الجماعي" ولأن "1% من المهاجرين سيئ فسوف يفسد الكثير من الناس الجيدين"، استثنى قادة الحركة الصهيونية اليهود الضعفاء والمرضى ولم يسمحوا بهجرتهم إلى فلسطين
واشتكى مسؤول آخر من أن المسؤولين الصهاينة في الخارج الذين ينظمون الهجرة "لا ينتبهون إلى نوعية الأشخاص الذين يرسلونهم إلى إسرائيل أو حالتهم الصحية"، مطالباً إياهم بالدقة بشأن "المواد البشرية" التي يرسلونها.
كتب: "الأشخاص الضعفاء الذين يعانون من أمراض الجهاز العصبي والسل وغيرهم يأتون إلينا، ولست مضطراً لأن أشرح لكم الكارثة التي سيحدثها مثل هؤلاء البائسين".
عقّب إيلروي بأن مثل هذه العبارات "لخصت بإيجاز سياسة الهجرة التفضيلية للحركة الصهيونية: رفض أو عدم ترحيل المهاجرين المرضى، والأشخاص غير المناسبين للعمل والذين قد يصبحون عبئاً، والتأكد من اختيار مهاجرين أقوياء أصحاء يمكنهم التعامل مع الظروف هنا".
كتاب إيلروي مليء باقتباسات وردت على ألسنة قادة الحركة الصهيونية يصعب التصريح بمثلها اليوم. عام 1920، شدد أحد قادة الحركة الصهيونية في بولندا على أنه ينبغي فحص المهاجرين المحتملين لضمان "أنهم يتمتعون بصحة جيدة جسدياً بالمعنى الكامل للكلمة".
"واحدة من أكثر القضايا الخلافية إثارة للجدل في تاريخ الحركة الصهيونية" أصبحت مجرد حشو غير مكترث به في كتب التاريخ الإسرائيلية.
وأضاف: "يجب فحص الرواد (المهاجرين الأوائل) من الذكور والإناث سبع مرات قبل منحهم تصريح المغادرة".
يجب أن يتمتع المهاجرون أيضاً "بصحة نفسية. يجب أن يظل الخائفون وضعاف القلوب في أوطانهم"، محذراً من أن "حتى إذا كان 1% من المهاجرين سيء فسوف يفسد الكثير من الناس الجيدين".
نبه إيلروي في كتابه إلى أن وايزمان الذي قاد هذه السياسة لم يكتف بمجرد توجيه المسؤولين الصهاينة لتطبيقها، وإنما أيضاً سعى إلى إقناع السلطات البريطانية بتحجيم الهجرة اليهودية في "لحظة مصيرية ليهود أوروبا الشرقية"، وهو ما دفع ثمنه عشرات الآلاف من يهود أوكرانيا الذين قتلوا خلال هذه الفترة، على حد قول المؤرخ الإسرائيلي.
وفي ختام مقال "هآرتس"، يستنكر إيلروي أن هذه القضية التي تعد "واحدة من أكثر القضايا الخلافية إثارة للجدل في تاريخ الحركة الصهيونية" أصبحت مجرد حشو غير مكترث به في كتب التاريخ الإسرائيلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين