شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أحبُّ صديقي الملحد أكثر من أولئك المؤمنين

أحبُّ صديقي الملحد أكثر من أولئك المؤمنين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 29 نوفمبر 202112:56 م

عندما عصفت المحنة بي، وجدت نفسي أصارع الموت وحيداً وسط غرباء. أحاول حيناً أن أتمسّك بنداء الحياة الذي يتردد صداه في أعماقي، وفي أحايين أخرى أُصاب باليأس الشديد الذى أفقد معه الرغبة في مقاومة هذا الطوفان الذي اجتاح حياتي.

على سرير المرض، تمددت أياماً طوالاً. كان الموت قريباً مني أكثر من أي وقت مضى. رأيت ذلك الشبح المرعب يتوسّد أسرّة المرضى، على مقربةٍ مني أكثر من مرة. ثوانٍ معدوات تدخل بعدها ممرضة غير مكترثة، وهى تنزع أجهزة التنفّس عن الضحية، وتبلغ الطبيب المختص عبر الهاتف، وهي تلوك لبانةً فى فمهما، بأن الحالة فى السرير رقم 5 قد لفظت أنفاسها الأخيرة، فيكلّفها بأن تصدر له تصريح وفاة، وأن توقّع بدلاً منه، فهو مشغول في عمله في المستشفى الخاص. تُنقل الجثة إلى المشرحة، بينما تتمايل الممرضة وهي تضع سماعات هاتفها فى أذنيها، وتستمع إلى أغنية حديثة على أنغام الموت الذي يداهمنا.

نتبادل نحن الحائرين بين الحياة والموت، نظراتٍ ملؤها الحسرة. لا أحد يكترث بحرقتنا. نبدو كالنعاج التي تُذبَح كلٌ منها أمام الأخرى، ولكن ما باليد حيلة. علينا أن نظلّ هنا ممددين لا نحرك ساكناً، حتى تحين ساعة كلٍ منّا، فنمضي إلى ما سبقنا إليه أسلافنا فى غرفة الموت، بفعل كورونا.

الغثيان الشديد يدفعني إلى أن ألقي بكل ما في جوفي. أنفي تزكمه رائحة الجثث التي يأتي رجال المشرحة لحملها من هنا، بين لحظة وأخرى، بينما أموت فى اليوم الواحد عشرات المرات، رعباً وفزعاً وحيرةً، ولا يتركنى الموت بمفردي حتى في الإغفاءات القليلة التي أرخي فيها جفوني مرغماً، حين تخور قواي.

الطامة الكبرى هي أن هؤلاء جميعاً مؤمنون، يصومون ويصلّون ويعرفون الحلال والحرام، ويُكثرون من الحديث عنه، لكنهم على الرغم من هذا كله مزيّفون؛ وجوه تظهر خلاف ما تبطن، وقلوب أمرّ من الصبر

مجرّداً من كل شيء

عندما انقشع غبار المحنة، وعدت لاستئناف حياتي، بعد أن مُنيت بخسائر مادية وأدبية بالغة، اكتشفت حقيقةً لم أكن أعلم عنها شيئاً من قبل؛ ينفضّ الناس من حولك، عندما يهاجم الإعصار بيتك، لتموت وحيداً أو شريداً، جائعاً أو عارياً، ظالماً أو مظلوماً، لا يهمّ، فالمهم أن تتضخم كروشهم، وتتضاعف رواتبهم. أما أنت، فمن أنت؟ ربما لم تمرّ من هنا يوماً ما، وربما تكون طيفاً، أو شبحاً يتخيّل أنه عاش بينهم كصديق، أو رفيق، أو قريب. أما الآن، فقد مضى كل شيء، وعليك أن تبدأ حياتك مجرّداً من كل شيء.

والطامة الكبرى أن هؤلاء جميعاً مؤمنون، يصومون ويصلّون ويعرفون الحلال والحرام، ويُكثرون من الحديث عنه، لكنهم على الرغم من هذا كله مزيّفون؛ وجوه تظهر خلاف ما تبطن، وقلوب أمرّ من الصبر.

لكن صديقي الملحد كان مختلفاً تماماً عنهم؛ وقف أكثر من مرة ليصرخ في البرية على وجيعتي، ولم يشاركهم الغرق في وحل الشماتة فى مصيبة إنسانٍ مأزومٍ كان رفيقاً لهم في يوم ما.

كان من أوائل من هاتفوني، عندما عدت إلى الحياة من جديد. كان صوته يشعّ فرحاً وشوقاً إلى لقاء يصل فيه صديقان وزميلان عملا معاً متجاورين سنوات عدة، ما انقطع بفعل فاعلٍ، والحقيقة أنه أعاد إلي جزءاً من الثقة التي فقدتها فى بني البشر.

علّمني صديق الملحد، فى المحنة، أن الإيمان عمل تصدّقه سلوكيات ومواقف تجدها أمام عينيك، وليس شعارات يتم ترديدها

أنت من تحدد طبيعة علاقتك بالله

مدّ يد العون إلي، بقدر ما يستطيع، في عالمٍ متخبّط، أضحت فيه الخيارات معدومةً. يشاركني التفكير فى مستقبل أراه محفوفاً بصعوبات جمّة، والحقيقة أنني اكتشفت أنه أقرب في الواقع إلى الكثير من قيم الحق والجمال والأخلاق الفاضلة الموجودة فى مختلف الأديان، بصورةٍ تفوق بكثير أولئك الذين يتشدّقون طوال الوقت بعبارات دينية.

علّمني صديق الملحد، فى المحنة، أن الإيمان عمل تصدّقه سلوكيات ومواقف تجدها أمام عينيك، وليس شعارات يتم ترديدها. أن تكون مؤمناً، أو ملحداً، أو بوذياً، أو هندوسياً، فهذا شأن يخصّك أنت، فأنت من تحدد طبيعة علاقتك بالله. أما ما أنتظره منك أنا، فهو الطريقة التي تتصرف بها نحوي، فأنا لست مخوّلاً بالكشف عما تخفيه السرائر.

أنا أحبّ صديقي الملحد أكثر من أولئك المؤمنين، سواء أكانوا أهلاً، أو أصدقاء، أو جيران، أو زملاء عمل، والذين سقطوا من نظري تماماً، عندما لم يبدوا أي قدر من التعاطف معي، حتى بعد أن انقشع غبار الأزمة.

للمفارقة، فإن جل الوجوه التي ربحتها من تلك الأزمة، كانت من أولئك الذين يرفضون الزجّ بالدين فى كل شيء، ولكنهم في المقابل ينحازون إلى الإنسان.

شكراً على الدرس الكبير الذي تعلّمته منك يا صديقي الملحد. يجب أن نفتّش في الإنسان عن الإنسان. لا تغترّ بمعسول الكلام، فكلّه يذهب أدراج الرياح، عندما يداهم الخطر بيتك.

كوارث العالم اليوم ليس سببها الملحدون، أو المؤمنون، وإنما أولئك المتجردين من إنسانيتهم، والقادرين على أن يسبّوك بأقدح الألفاظ، بعد ثوانٍ من تسبيحهم بحمدك، فأنت مهما ظننت نفسك قريباً منهم، لست سوى عابر سبيل ينتهي دورك عندما لا تُرتجى منك مصلحة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image