منذ عدة أيام، فاجأت دار الشروق المصرية للنشر والتوزيع القراء على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بنشر صورة غلاف أحد الكتب يحمل صورة اليوتيوبر أحمد الغندور، مقدم برنامج "الدحيح"، معلنة بذلك عن إصدارها كتاباً يحمل عنوان: "الدحيح... ما وراء الكواليس"، يتناول قصة نجاح البرنامج ومقدم حلقاته، كأحد أشهر المؤثرين على الإنترنت في مجال تبسيط و"شعبنة" العلوم، وصاحب تجربة شبابية ملهمة في صناعة المحتوى العربي في عصر السوشيال ميديا.
زمن مشاهير السوشيال ميديا
الملاحظ أن خلال العقد الفائت، بالتزامن مع ثورة الميديا الجديدة، حدثت ثورة أيضاً في عالم القراءة بين جيل الشباب، كان أحد أسبابها مجموعات فيسبوك المخصصة للكتب، كما أنتج مشاهير السوشيال ميديا، من المؤثرين العرب، عدداً من الكتب التي تميزت باستخدام اللهجة العامية الدارجة في كتابة محتواها، والسعي إلى استهداف الشباب من مستخدمي الإنترنت، في كتابات تكاد تخلو تماماً من الجدل الفكري والمعرفي أو حتى إعادة صياغة آفاق جديدة بحيوية وبدافع رغبة الشباب في التجديد.
فاجأت دار الشروق المصرية للنشر والتوزيع القراء على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بنشر صورة غلاف أحد الكتب يحمل صورة اليوتيوبر أحمد الغندور، مقدم برنامج "الدحيح"، معلنة بذلك عن إصدارها كتاباً يحمل عنوان: "الدحيح... ما وراء الكواليس"
قد يتساءل البعض عن السبب الذي يجعل دار نشر مثل الشروق، (جادة بطبيعتها في اختيار المواد التي تنشرها، ولا تحبذ المقامرة بعيداً عن الأسماء اللامعة في عالم الكتابة)، تتحمس لنشر كتاب عن قصة نجاح أحمد الغندور وكواليس صناعة برنامجه، والجواب كما يقال في الأمثال: "إن الكتاب يبان من عنوانه"، وفي حالتنا من عنوانه وصورة بطل غلافه.
فعندما كان يرد ذكر عنوان لأحد الكتب ضمن سياق حلقة الدحيح، فوراً ينتاب الفضول مستخدمي السوشيال ميديا؛ للبحث عن الكتاب ومعرفة المزيد حول محتواه وربما شراؤه، كما حدث في قائمة الكتب التي جمعها متابعو البرنامج من الحلقات عقب توقفها في منتصف 2020، حتى أن مستخدمي Goodreads وضعوها على الموقع باسم "ترشيحات الدحيح".
ما شجع أحمد الغندور بعدها على بدء ناديه للكتاب باسم مكتبة غندور على تطبيق كلوب هاوس، ليتابعه الآلاف من مستخدمي الإنترنت، فما بالكم بكتاب عن الدحيح نفسه، بالطبع رواج مضمون 100%، يحجز مكانه مسبقاً في قائمة الأكثر مبيعاً.
في البداية، مع الإعلان عن صدور الكتاب، ظن البعض أنه كتاب سيرة ذاتية كتبت بقلم الدحيح نفسه، وعزز ذلك طرح النسخة المسموعة بأداء صوتي لأحمد الغندور كراوي، لكن الحقيقة أن الكتاب حمل توقيع الكاتب الشاب "طاهر المعتز بالله"، وهو من أوائل فريق كتابة وإعداد حلقات البرنامج، وبالتالي يمكن تصنيفه ككتاب سيرة غيرية وليس سيرة ذاتية.
فجاء في تقديم النسخة المسموعة من الكتاب:
"أحسن حد ممكن يقرا الكتاب ده هو الدحيح بنفسه، فلما طلبنا من أحمد الغندور يقرا الكتاب استغرب: إزاي هيقرا كتاب بيتكلم عن نفسه ومش هو اللي كاتبه، وكان عايز يرفض، وبعدين وافق لأنه مش أقل من الرئيس أوباما اللي سجل الكتاب بتاعه بصوته".
تفكيك الأسطورة أم تدعيمها
ففي الأصل، السيرة الذاتية هي جنس أدبي يكتب فيه المرء بنفسه عن نفسه، مسجلاً تاريخه الشخصي، شارحاً ظروف حياته كاشفاً عن أسرارها، كما فعل مثلاً جان جاك روسو في كتابه "اعترافات"، أو طه حسين في كتابه "الأيام"، أو رضوى عاشور في كتابها "أثقل من رضوى".
ذلك على عكس السيرة الغيرية التي يكتب فيها المرء عن تاريخ شخصٍ ما غيره، من تلك الشخصيات التي تركت أثراً يقتضي تتبعه وتوثيقه، كما فعل ستيفان تسفايج كواحد من أشهر كتاب السير ضمن كتابه "بناة العالم"، عندما سلط الضوء على أهم الأسماء في تاريخ الآداب والفنون، أو كما فعل العقاد ضمن سلسلته الشهيرة "العبقريات".
لكن دائماً ما يكون الانتقاد الشائع لكتّاب السير (سواء كتبوها ذاتية عن أنفسهم أو غيرية عن المشاهير والشخصيات العامة) بعدهم عن "تفكيك الأسطورة" بنمط وأسلوب كتابة يمارس لعبة التجميل والتحيز ومراعاة المحاذير بعيداً عن المصداقية، فتخرج الكتابة منقوصة مثالية منمقة، بطريقة تقريرية جافة الأسلوب، وبل وشديدة الحرص على تمجيد وتلميع صورة صاحبها.
فكان أدب الاعتراف بجرعة أكثر صدامية للقراء، حيث يكشف صاحب السيرة المكتوبة الجوانب الخفية في شخصيته بسلبياتها وإيجابياتها، ويعتقد أن كتاب "اعترافات القديس أوغسطين" هو أول مثال واضح على كتابة هذا الجنس الأدبي، بينما أشهرها ما خطه روسو، وعربياً لدينا كتاب "الخبز الحافي" للكاتب محمد شكري.
الخط الرئيسي لكتاب "الدحيح...ما وراء الكواليس"، في نسخته الورقية والمسموعة، كان توضيح ظروف صناعة برنامج الدحيح بمحتواه العلمي المتخصص، وسط الاضطرابات الدائرة في عالم صناعة المحتوى العربي
بالعودة إلى كتاب "الدحيح... ما وراء الكواليس"، نجد أن ملامح شخصية الغندور تبدأ في التشكل منذ السطر الأول في الكتاب، الذي حمل حس الدعابة والسخرية من الذات والتهكم، بنفس نمط وقالب كتابة حلقات البرنامج، مع أسلوب يمزج بين العامية المصرية واستخدام بعض المصطلحات العلمية البسيطة في بعض المواضع.
وبفضل التداخل بين الوسائط المختلفة (الورقي والمسموع)، جاء رسم الشخصية المكتوبة متطابقاً مع التصورات الذهنية عنها في مخيلة جمهورها، بدعم من النسخة المسموعة بصوت وأداء الغندور نفسه، مع تعمده الخروج عن النص المكتوب أكثر من مرة؛ للتعليق على أحداث الكتاب باستخدام طريقته في السخرية من الذات ونقد الآخرين.
فكان هذا الشكل، في رأيي، أفضل تقديم لهذا الكتاب على وجه الخصوص؛ لأن الاعتماد على قراءة النسخة الورقية وحدها قد يؤثر على درجة تقبل التجربة، خاصة مع اتباع أسلوب الكتابة باللهجة العامية وإلقاء النكات والسخرية والنقد اللاذع، بما قد توحي بركاكة المحتوى وابتذال الأسلوب أثناء القراءة من النسخة الورقية، لكن هل يمكن تخيل أحمد الغندور يتحدث بالفصحى المقعرة في برنامجه؟
هنا النسخة الصوتية أفضل لأنها بصوت وأداء وطريقة الدحيح نفسه، بل وتخدم محتوى الكتاب كأنك تسمع حلقة من حلقات البرنامج، ومن ناحية أخرى كسر حس السخرية والدعابة أي نبرة تعالي، قد يشعر بها المتلقي أثناء التعامل مع كتاب يحمل اسم وصورة صاحبه، بل وتأتي نسخته المسموعة بصوته أيضاً.
كما نجد أن الكاتب طاهر المعتز بالله كان حريصاً، ضمن سياق كتابه على تدعيم الصورة الذهنية لدى أغلبية المشاهدين المخلصين في متابعة أحمد الغندور، عن شخصيته كدودة كتب محب للقراءة منذ الصغر، يعتبر زيارة فرع مكتبة جرير في جدة بمثابة رحلة ترفيهية، ينعم بالتفوق الدراسي وغير مشاغب ومطيع لوالديه، بل وسعى الكاتب لدحض ادعاءات الكفر والإلحاد التي رُمى بها أكثر من مرة.
كتاب الدحيح ما وراء الكواليس
الخط الرئيسي للكتاب (في نسخته الورقية والمسموعة) كان توضيح ظروف صناعة برنامج الدحيح بمحتواه العلمي المتخصص، وسط الاضطرابات الدائرة في عالم صناعة المحتوى العربي، حيث الحكم على مدى تأثير وقيمة المادة المقدمة للجمهور يقاس بمقياس ضحل، هو عدد المشاهدات في العالم الرقمي، أو كما جاء في مقدمة الكتاب حكي "قصة الحكاء" نفسه –يقصد الدحيح- بالاستعانة بـ70 مقابلة مع أفراد فريق عمل البرنامج وذويهم وأصدقائهم لتجميع مادة الكتاب.
ركز محتوى الكاتب على تحقيق ثلاثة أهداف أساسية، الأول هو نشر الأمل بطريقة إيجابية بعيداً عن خزعبلات كتب التنمية البشرية، والثاني تقديم بعض المعلومات عن كواليس صناعة المحتوى على الإنترنت، والأخير حكى قصة الدحيح كما حدثت، أو بلغة الكتاب حكى "قصة الحكاء" نفسه
وبالتالي، غلب الطابع التوثيقي على مجمل الكتاب الفوار بالمواقف الشخصية، منذ فترة طفولة ومراهقة الغندور في جدة (حيث ولد ونشأ ونال تعليمه الأساسي) وحتى فترة التحاقه بالجامعة الأميركية بالقاهرة، والتي خصص لها جزءاً كاملاً للحديث عن الحركة الطلابية فيها، باعتبار أن الكاتب شغل منصب رئيس اتحاد الطلاب بها خلال عام 2012، كاشفاً عن حياة الشباب داخل أسوار حرم الجامعة الأمريكية، والنظام الدراسي وتعدد الأنشطة الطلابية، بعيداً عن الشائعات المغلوطة عنها، كمكان معبأ بالفساد، على طريقة أقاويل الفنان طلعت زكريا عن شباب ثورة يناير.
بعدها خصص الكاتب مساحة للإجابة عن سؤال: كيف بدأ الدحيح؟ فتناول كواليس صناعة البرنامج، بداية من بزوغ الفكرة وتفاصيل رحلة العمل عليها وظهور الحلقات الأولى في عام 2014، مروراً بطريقة تجهيز المادة العلمية وجمع واختيار المصادر وكتابة الحلقة، كيف انتقلت الحلقات من عمل فردي إلى عمل جماعي يقف خلفه فريق عمل مكون من عدة أشخاص، وشرح الصعوبات التي واجهت فريق العمل، حتى بلغت عدد الحلقات 300 حلقة، حصدت مليار مشاهدة على فيسبوك ويوتيوب.
الوعود الوردية الحالمة
في المجمل، ركز محتوى الكاتب على تحقيق ثلاثة أهداف أساسية، الأول هو نشر الأمل بطريقة إيجابية بعيداً عن خزعبلات كتب التنمية البشرية، والثاني تقديم بعض المعلومات عن كواليس صناعة المحتوى على الإنترنت، والأخير حكى قصة الدحيح كما حدثت، أو بلغة الكتاب حكى "قصة الحكاء" نفسه.
يميل الكتاب في مجمله للتوثيق فيما يتعلق بالخط الأساسي للواقع والأحداث التي مرت في تاريخ البرنامج، لا سيما في الجزء الخاص بالجامعة الأمريكية، الذي يبدو طويلاً في البداية ومقحماً على القصة الأساسية بعض الشيء، لكن مع متابعة القراءة يقع القارئ/المستمع فجأة في تدفق من الأفكار والقصص الطريفة، بلغة بسيطة جذابة لجيل الشباب غير بعيدة عنهم، وبنفس أسلوب كتابة سكريبت حلقات البرنامج.
وفقاً للكتاب، قصة نجاح برنامج الدحيح مبنية بما يتلائم مع طبيعة بيئة المجتمع العربي وخبراته، حيث التعليم الجيد هو الوسيلة الأكثر توفيقاً لتحقيق النجاح على المستوى المهني.
وقد حاول الكتاب منذ صفحاته الأولى، البعد التام عن السمة المميزة لطابع كتب المساعدة الذاتية وتوثيق قصص المشاهير، حيث المبالغة في العبارات التحفيزية والمصطلحات الفخمة، والتكثيف الزائد للحماس، والخداع بامكانية تحريك الجبال متى توافرت العزيمة، وإلقاء اللوم على تخاذل وكسل وتواكل القراء، وجميع التعبيرات البراقة التي سرعان ما تتبخر في الهواء مع أول احتكاك وتصادم حقيقي.
فبعيداً عن الصورة الوردية الحالمة، سعى كتاب "الدحيح.. ما وراء الكواليس" على التأكيد في أكثر من موضع على أن التحفيز الذاتي لا يحقق أي شيء إلا في وجود مقومات، تساعد على تحقيق التفوق وتسانده، أو بلغة الكاتب "الامتيازات"، بمعنى الاختلافات الجوهرية (اقتصادياً واجتماعياً وتقافياً) المتوفرة لدى فريق العمل في ظروف النشأة والتكوين، بجانب شبكة العلاقات العامة وتضافر الحظ الجيد، مما شكل العامل الأكبر في إتاحة الفرصة والتغلب على العقبات الأولى، ومواصلة الطريق حتى نجاح البرنامج، لتصبح غرفة الدحيح أشهر غرفة في الوطن العربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون