"... عدیم الغیرة والشهامة، عبدالشیطان والبربریة، جريء لا يبالي بشيء، فارغ من أي معنی، ثرثار، مشاکس، وغد، مسيء، قواد وفاجر، معقد بربري متوحش، بطال لا يستحیي، رعاع بل هو أضلّ...".
بهذه الكلمات تصف الکاتبة "بي بي خانُم أستَرآبادي" بعض الرجال في کتابها "معايب الرجال" الصادر عام 1894 في إيران. هذا الکتاب الصادر قبل 13 عقداً من الزمن لم یُطبع في أيران أبداً، ولا یوجد منه سوی 3 أو 4 مخطوطات في المکتبات الأيرانیة، ولأول مرة، وفي عام 1992، قام کل من الباحثة والأکادیمیة في جامعة هارفارد أفسانِه نجم آبادي، والکاتب المختص في اللغة الفارسیة حسن جوادي بإصدار الکتاب في الولأيات المتحدة الأمریکیة، وبالتالي فما جاء في هذا المقال یستند إلی کتاب نجم آبادي.
تاب الله علیك لما فيك من نفاق
من خلال شرح سیرتها تصنف بي بي خانم نفسها ضمن النساء الفصیحات، ثم تدعم ذلك بکتابتها نصاً أدبیاً محكماً مخللاً بالآيات والأحادیث والشعر والقصص.
وتتبع الکاتبة منهج الکتابات الدینیة وکتب الحکمة آنذاك في نهجها السردي، کما أن مدخل کتابها تستهله بحمد الله وثنائه علی غرار الکتابات الأخلاقیة، ولکنها تستخدم في ذلك لغة فکاهیة، فتقول: "قبل البدء، حمداً وثناءً لله عزّ و جل الذي خلق المرأة من الحضیض". هکذا تسخر من الروأية التقلیدیة المناهضة للمرأة، وتستمر في نصها بالسخریة من تحقیر المرأة.
بدأت بي بي خانم حرباً ضد کل خطاب مناهض للمرأة فهي لا تستثني الشاعر سعدي الشیرازي، ولا الأحادیث والآيات القرآنیة، فتقوم بذم بیت شعر لسعدي الشيرازي "زن نو کن اي خواجه در هر بهار/ که تقویم پارینه نايد به کار" (جدّد زوجتك یا رجل في کل ربیع/لأن التقویم القدیم لم یعد صالحاً). تنسب الكاتبة "الروح الحيوانية" لمثل هذا الخطاب، وتصف وصیته بغیر العقلانیة کاتبة: "انظروا بإنصاف وبصیرة أن سعدی علیه الرحمة الذي یُعدّ من فقهاء وعقلاء الرجال هکذا یری صلاح المرأة، فکیف بعامة الرجال الأمّیین الذين هم کالأنعام، ماذا أنزلوا من بلايا علی المرأة؟".
انعقدت الفكرة لأول مرة في جلسة نسائیة عندما أثارت إحدی الجالسات بي بي خانم أسترآبادی بمنحها کتاب "تأدیب النسوان"، إذ تقول: "عندما تصفحت الکتاب وجدت کاتبه یظن أنه متعلم یرید تربیة المرأة من خلال الربط بین مهملات لا تستند إلی مصدر
ومن أذکی البِدع في تغییر المعانی التقلیدیة في "معايب الرجال" هي إطلاق صفة "المکر" -التي طالما اعتُبرت صفة نسائیة- علی الرجال، فتقوم الکاتبة بذکر قول النبي محمد: " قول الرجل للمراة إنی احبك لا یذهب من قلبها أبداً"، مؤکدة أن ما یصفه الرجال بالعدل هو مکر، وتصف قائل هذا القول ببالمکار.
تروي بي بي قصة رجل له زوجتین أعطی لکل منهما خرزة زرقاء دون علم الأخری، ثم قال لهما إن من کانت لدیها تلك الخرزة فبیدها حیاتی، واصفة عدل الرجال بالمکر والکید، مؤکدة: "علی الرغم من أن الرجال یعتبرون المکر که امراً نسائياً، وذلك بسبب الآية (إن کیدکنّ عظیم)، ولکن بالدلیل والبرهان یتبین أن مکر النساء من مکر الرجا، فإن کان هناک مکر للمرأة تعلمته من الرجل".
سعدي: لا تفعل شيئاً يجلب لك الشقاء
من خصائص النصوص آنذاك المزج بین النصوص لفتح مجال للتحاور، فتمزج بي بي خانم بین نص "تأدیب النسوان" ونص کتاب "الآداب الناصریة" لـمحمد إبراهیم خان خَلوَتی الصادر عام 1885، من باب تجمیع المساعي وتعزیزها.
کتاب "الآداب الناصریة" یخاطب الشباب حیث یعدّ الکاتب الصفات المذمومة لیحذرهم منها قائلاً: "فإني سأحصي الصفات والسلوکیات التي تفوقك علی الحیوان وغیره، والتي تجعل منك أشرف المخلوقات... إن اتصفت بها فإنك الأشرف، وإلا بل هم أضلّ".
فتقوم بي بي خانم بدهاء کبیر في مدخل کتابها بالإشارة إلی کتاب "الآداب الناصریة" لتذکر بالصفات السیئة للرجال وتؤکد أهمیة إحصاء معايب الرجال: "کما أن خَلوَتي قدم في کتابه (الآداب الناصریة) شرحاً وافياً فصیحاً بلیغاً أحلی من العسل عن هؤلاء القوم المنتحلین، واستناداً إلی لغة الحق المبین (القرآن) التي قال فيها (بل هم أضلّ) ]سأکتفي بذلك و[ لم أتطرق إلیهم لأن الکتاب هذا جاء تلبیة لطلب الأخوات، ولکني سأکتب التالي من باب النصيحة، ولأفيد أخواتي راجية منهن الدعاء".
ثم بلغة فکاهیة توجه إلی "السیدات المتألقات والفتیات اليافعات" نصائح منطلقة من بعض الأحادیث والروأيات والآية 223 من سورة البقرة التي تقول "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ"، وأيضاً إلی إحدی خطب نهج البلاغة التي تصف المرأة بناقصة العقل والأيمان، ضمن نصائحها لهن تقوم بقلب الحدیث فجأة وتحرض النساء علی المطالبة بالحق والسعي إلی التخلص من قیود الظلم قائلة: "هذه النصائح لا تعملن بها الا إذا کان أزواجکن مؤمنین صالحین لايسعون إلی المعصیة... إذا لم یکن کذلك فعلیکن التخلص منهم عاجلاً سریعاً قبل المشیب وقبل أن تولدن منهم بناتاً أو بنوناً".
الاتحاد ضدّ الرجال
استعانت بي بي خانم في کتابة القسم الثاني من کتابها "الرد علی تأدیب النسوان" بالمجالس النسائیة التي قوبلت باللعن والشتم في كتاب "تأدیب النسوان" لأن مؤلفه كان على علم بنصیب هذه المجالس في مواجهة التوجهات الرجولیة.
فتبدأ بي بي خانم بوصف تلك المجالس، وتنعت نفسها بـ"العندليب المغرد" الذي یجلس فيها لیروي القصص للنساء ویقدم لهن النصائح، فتأتي النساء متذمرة تشتکي رجالها فتقاطعهن بي بي خانم بحجة حرمة الغیبة، فتعزو إحدی الجالسات مقاطعتها لهن إلی جهلها بما فعل الرجال بهن فتجیب بي بي خانم قائلة: "لا علم لي بأفعالکن، ولکنني أعلم ما أفعل، فلکن الحق مهما تذمرتن".
اللحظة التي تخرج فيها بي بي خانم من خانة زوجها وتدخل خانة النساء الجالسات تشکل منعطفاً في خلق حالة من التضامن والوئام النسوي: "عند قولي هذا اقتربت النساء مني، ومسکن بثوبي طالبات الصدق والصراحة في ما یحصل لي مع الرجال". فـ"معايب الرجال" یروی بیئة نسویة ملؤها الدفء، وهنا أنشئ أول نص نسوي في الأدب الفارسی بلغة متضامنة مع المرأة تمیز بها الکتاب عن کل ما سبقه.
"معايب الرجال" بمثابة نافذة نحو لغة البیئة النسویة في فترة ما قبل الثورة الدستوریة في إيران حیث سُمح للمرأة بدخول المجتمع، لکن هذا الدخول لم یحصل إلا تحت إشراف رجالي
وفي هذا القسم تأخذ الکاتبة بسرد قصة حیاتها وتفي بوعدها في نهأية الکتاب. وکبقیة أقسام الکتاب تبقی المرأة محور الکتاب في الجزء الختامي أيضاً حیث تروي قصة خیانة الرجل لزوجته من خلال بنائه علاقة حب مع خادمة المنزل، مستغلة القصة لإحصاء معايب الرجال مرة أخری، ثم تختتم بسرد أعذار الرجال التي تزداد أفعالهم سوءاً.
تضاد في حجاب الجسد واللغة
أبرز ما یمیز کتاب "معايب الرجال" عن النصوص المتزامنة والتالیة له هو أنه یستخدم لغة صریحة بلا تعديلات، فکل ما صدر عن النساء رداً علی "معايب الرجال" حتی ذلك الوقت کان یستخدم لغة متحفظة عکس ما فعلته بي بي خانم في نصها الجريء.
القراءات الحدیثة تطلق علی هکذا لغة تسمیات عدة منها لغة الأحیاء الفقیرة، لغة الأمیین، لغة الأوغاد، واللغة غیر المحتشمة، ولکن بي بي خانم تفند کل تلك التسمیات سلفاً من خلال التعریف بأصلها وأسرتها المتجذرة فهي سیدة متعلمة تنتمي إلی طبقة اجتماعیة مرموقة.
معايب الرجال بمثابة نافذة نحو لغة البیئة النسویة في فترة ما قبل الثورة الدستوریة في إيران (1925) حیث سُمح للمرأة بدخول المجتمع، لکن هذا الدخول لم یحصل إلا تحت إشراف رجالي فإن المرأة إذا ما أرادت رفع الحجاب من جسدها لدخول الشوارع والأزقة التي کانت ملکاً للرجال، کان علیها وضع الحجاب علی لغتها.
تعرض الکاتبة والأستاذة المختصة في الدراسات النسویة في جامعة فيرجینیا، فَرزانه میلاني، في کتابها "الحجاب والکلام" صورة نمطیة من جسد المرأة أمام أعین المجتمع، وصورة منه أمام رجال من غیر المحارم، وتربط بین هذین الصورتین أو ما تصفه برفع الحجاب عن جسد المرأة ووضعه علی لغتها: "عندما لم یُسمح للمرأة بالخروج من سرادیبها النسویة کان للمجالس النسویة لغتها وخطابها وسلوکیاتها؛ لغة جریئة غیرمتحفظة في إظهار أي حرکة أو قول أي شيء. الدلیل علی ذلك هو کتاب (معايب الرجال) فضلاً عن الألعاب والأغاني والکتابات النسائیة التي لم تکن تظهر بها المرأة إلا في الجلسات النسویة البحتة بعیداً عن أعین الرجال والتي صنفها أبوالقاسم أنجَوي الشیرازي تحت عنوان (الأعمال الاستعراضیة)".
بحسب نجم آبادي "يقع (معايب الرجال) في محطة تربط بین اللغة النسویة واللغة الدارجة... کلام بي بي خانم یهدف إلی محاکاة النساء، وتعلیم المرأة الحکمة والسلوك ونقل التجربة المخزونة لدی الکاتبة بلغة نسویة من منطلق تعلیم الأم لابنتها والأخت لأختها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا