تشبه الكتابة عن "أم كلثوم" السير في حقل ألغام، وتزداد الخطورة عندما تكون الكتابة رواية تقدم نفسها إلى القارئ باعتبارها تظهر جوانب مجهولة وقصصاً غير مروية، وصادمة أحياناً، عن "الست".
كيف كانت أم كلثوم ضحيةً للتنمر؟ وكيف صعدت على أكتاف ملحنين وشعراء وصحافيين؟ وكيف تعاملت "بانتهازية شديدة" للحصول على ما تريده من المشاركين في صناعة أشهر أغنياتها، وعلى رأسهم الشاعر المصري أحمد رامي (9 أغسطس/آب 1892 - 5 يونيو/حزيران 1981)، الذي كتب لها 137 أغنيةً من أصل 283.
هذه الأسئلة الشائكة التي تضمن جذب القراء وإثارة غضبهم في الآن نفسه، هي موضوع رواية محمد بركة: "حانة الست... أم كلثوم تروي قصتها المحجوبة" التي صدرت الطبعة الثانية منها في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
اختار بركة أن يضع كتابه تحت عنوان "رواية"، واختار لها قالب المذكرات المتخيلة التي تمليها أم كلثوم عبر الحلم على كاتب، لكنه في الوقت نفسه يؤكد أنه قضى ستة أشهر يبحث "عن المراجع والوثائق الدالة على أحداث صادمة عن أم كلثوم إبراهيم السيد البلتاجي"، في إشارة إلى كون الكتاب يحمل تأريخاً وليس من وحي الخيال، وهذا ما عرَّضه لهجوم من مريدي أم كلثوم.
"لقد تحولتُ إلى تمثال من شمع يقدسه الجميع، هرم من الكريستال ينتصب شامخاً على البعد دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه... لم تعد تلك الصيغة مريحة؛ جاء جيل مختلف، متمرد، لن يحبني إلا إذا رأى ضعفي"
سبق "حانة الست" صدور رواية "أم" للبناني الفرنسي سليم نصيب في ترجمة عربية تحت عنوان "كان صرحاً من خيال"، وفي طياتها إشارات لانتهازية أم كلثوم، واستغلالها عواطف من أحبوها، وفي مقدّمتهم الراوي "أحمد رامي". وثمة إشارة إلى الشائعات المتصلة بكونها ثنائية الميل الجنسي وكانت على علاقة بعدد من النساء. التميز الفني للرواية الصادرة ترجمتها عام 2012 حماها من التعرض لهجوم واسع واستقبلها الكتاب والنقاد بترحيب متحفظ.
ومع تعدد الكتابات عن أم كلثوم يصبح سؤال "ما الجديد الذي ستقدمه رواية "حانة الست"؟" مشروعاً، وهو ما يجيب عنه المؤلف في الصفحات الأولى من روايته على لسان بطلتها: "لقد تحولتُ إلى تمثال من شمع يقدسه الجميع، هرم من الكريستال ينتصب شامخاً على البعد دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه واختبار ملمسه؛ لا ذرة تراب، لا سطر شخبطة على الورق المصقول، بعد كل هذه السنوات على صعودي لم تعد تلك الصيغة مريحة؛ جاء جيل مختلف، متمرد، لن يحبني إلا إذا رأى ضعفي، وتحسس هشاشتي، وعاين على الطبيعة إنسانيتي".
في الرواية العديد من النقاط الخلافية والمثيرة، منها أنَّ القارىء سيصطدم بسطور تتعلق بـ"قبلات أم كلثوم الحارة للسيدات" خاصةً أن تلك السطور تتعمق في وصف ذلك بطريقة ربما تستفز البعض، إلا أن الرواية تستدعي الشائعات كي تنفيها على لسان البطلة "راهبة الإسلام، وخاتمة المطربين والنساء".
من الأشياء التي ركزت عليها الرواية علاقة أم كلثوم بجسدها إذ قضت طفولتها ومراهقتها في محاولات لإخفائه كي تظهر لمستمعيها فتى ثم رجلاً: "لم أرتدِ يوماً ملابس زاهية ملونة، لم أجرب رداءً بنصف كم، لم أفرح مثل بقية البنات في زماني بتصفيف أمي لشعري [...]، وعيت على الدنيا وأنا حبيسة جلابية سوداء تليق فقط بأرملة عجوز". كذلك اهتمت الرواية في تبيان علاقة أم كلثوم بأهلها، خاصة والدها الذي وصفته في الرواية بأنه كان يتعامل معها مثل "تاجر الرقيق"، والتمييز الذي عانتمه لصالح أخيها: "في كل مرة، لا يستطيع أبي شراء جلباب جديد لأخي وجلابية لي بالوقت نفسه، لا بد من المفاضلة بيننا.. يربح الذكر دائماً، يرتدي خالد ثوبه الجديد بينما أكتفي بمواساة من أمي مع وعد لا يتحقق بتعويضي في العيد القادم".
الرواية تستدعي الشائعات الرائجة عن هوية أم كلثوم وميولها الجنسية كي تنفيها على لسان البطلة "راهبة الإسلام، وخاتمة المطربين والنساء"
تستعيد الرواية ما يتردد عن استغلال أم كلثوم عشاقها "بانتهازية وخداع" كما تعترف البطلة. يظهر هذا في فصل عن علاقتها بالشاعر أحمد رامي والملحن أحمد صبري النجريدي، وصراعهما على الفوز برضائها: "يأتيني الملحن فيقول احذري الشعراء، ويأتيني الشاعر فيقول: ويل لكِ لو صدقتِ الملحنين؟ اثنان من الطواويس ينفشان ريشيهما على هيئة مروحة وهما يتنافسان في حبي أنا أنثى الغراب".
من ضمن "الخفايا" التي تزعم الرواية الكشف عنها علاقة حب لم تعرف على نطاق واسع بين أم كلثوم وأمير الصحافة محمد التابعي – أحد رواد صحافة المنوعات المصرية- وما يتردد عن تدخل جمال عبد الناصر للتوفيق بينها وبين زوجها الذي صفعها فأحدث ذلك خلافاً بينهما. كما تتناول الرواية "زيجات متعددة" لكوكب الشرق برغم أن الوثائق الرسمية لا تعترف سوى بزواجها من الطبيب أحمد الحفناوي.
يقول الروائي محمد بركة لرصيف22 إن كتابة سيرة للمطربة الراحلة واتته بعد "قراءات في كتابات تاريخية عن أم كلثوم. لكنها كانت كتابات غير تقليدية". من تلك الكتابات: "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد" للصحافي المصري الراحل محمود عِوَض. لافتاً إلى أنَّ هذا الكُتيب كان عبارة عن حوار ممتد مع "الست"، نشره عوض بطريقة سرد لتاريخ حياتها.
ويتابع: "في هذا الحوار تحدثت أم كلثوم عن الكثير من أسرار حياتها وطفولتها، وبالتالي كان هذا الكتيب الشرارة الأولى في إنتاج ‘حانة الست’ بعد رحلة بحث شاقة في حياة أم كلثوم، اكتشفتُ خلالها وجود العديد من الأسرار والتصريحات المثيرة والصادمة أحياناً لعشاقها، وعلى لسان أم كلثوم نفسها، ولكن لأننا ملكيون أكثر من الملك، فقد جرى دفن تلك الأسرار والتصريحات في أعماق الأرشيف".
ويُضيف أنَّه ألمح في الرواية للجزئية الخاصة بـ"مِثلية أم كلثوم"، وهي قضية مطروحة للنقاش، كاشفاً أنه اعتمد في تلك المسألة الخلافية على كتاب "جنسانية أم كلثوم" للكاتب موسى الشديدي- لم يوزع على نطاق واسع في مصر- الصادر عام 2019، و"هو كتاب تناول الهوية الجنسية المضطربة لأم كلثوم".
ورفض بركة اعتبار "حانة الست" عملاً "بحثياً أو تاريخياً"، إلا أنه حرص على البحث في جميع المصادر عما يتصل بالهوية الجنسية لأم كلثوم وانتهى إلى كونها "جزئية غير محسومة" على حد وصفه.
أما ما جاء في الرواية عن الطفولة القاسية لـ"أم كلثوم" ومعاناتها في المجتمع الذكوري، وقسوة أبيها الشديدة عليها، فقد أكد بركة أنَّه اعتمد في طرح تلك الجزئيات على ثلاثة مصادر مهمة، منها كتيّب "أم كلثوم التي لا يعرفها أحد"، وكتاب "أم كلثوم وعصر من الفن" للدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي يعتقد أنها كانت صديقة لأم كلثوم، ومذكرات منسوبة إلى أم كلثوم نشرت متسلسلة في جريدة "الجمهورية" عام 1970، بينما كانت لا تزال على قيد الحياة. وقال بركة إن تلك المصادر "كان فيها العديد من الأسرار الصادمة والمثيرة عن أم كلثوم".
ولفت إلى أهمية كتابات "عِوَض" و"نعمات أحمد فؤاد" عن حياة أم كلثوم، "لأنهما تنقلا معها وحاوراها. ويمكن القول إنهما كان شاهدي عيان على حياتها، وأكثر اثنين حصلا على تفاصيل عن حياتها وعلى لسانها، فضلاً عن أنهما كانا من عشاقها".
وأضاف بركة: "أخذت حقائق من هذه المراجع، ووصفتها بأنها وقائع منسية، ولكن اشتغلت عليها بخيالي، بسبب روح أم كلثوم التي تلبستني، ففي النهاية كوكب الشرق كانت تحكي هذه الوقائع بنوع من الدبلوماسية والكياسة والهدوء والاختصار الشديد، لكن دور الرواية كان التعبير عما هو تحت الجلد، وعن إحساس أم كلثوم مما عانته من قهر وغضب".
ومن المصادر التي لجأ إليها بركة للبحث في تواصل أم كلثوم مع كتاب وملحنين، استعان المؤلف بدراسة منشورة لـ"الدكاترة زكي مبارك" تحت عنوان "4500 ثانية في صحبة أم كلثوم"، نُشرت في مجلة "الرسالة"، في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1940، و"أم كلثوم... نغم مصر الجميل" لجهاد فاضل، وهو حوار ممتد مع ابن شقيق أم كلثوم، ومقال بعنوان "أم كلثوم وملحنوها" لقائد الأوركسترا سليم سحاب نشر في مجلة "وجهات نظر"، في القاهرة، في 26 أذار/ مارس 2001، وسلسلة "قبس من روح مصر" الصادرة في ثلاثة أجزاء للكاتب سمير غريب بعدما نُشرت في جريدة "الحياة" التي كانت تصدر في لندن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع