شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
اقتنت

اقتنت "أم صبحي" دراجةً ناريةً لتوصيل الطلبات... الطبخ المنزلي يخفف غربة عربيات في تركيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 23 نوفمبر 202102:26 م

"ليس هناك حب أكثر صدقاً من حب الطبخ"؛ هكذا قال قديماً جورج برنارد شو، واصفاً حبّه للطبخ، فيما عبّرت جوليا تشايلد، الطاهية الأمريكية الأكثر شهرةً عالمياً عن حبها للطهي، بقولها: "أعتقد أن جميع النساء يجب أن يكون لهن موقد"، في إشارةٍ منها إلى أهمية ممارسة النساء لعادة الطبخ المنزلية.

ومن خلال مطالعة أنشطة الكثير من النساء والسيدات خلال الأعوام الماضية، نجد انتشاراً واسعاً لمشاريع الطبخ المنزلية، لا سيما في بلاد المهجر والغربة، إذ أصبحت تلك المشاريع ملاذاً للكثيرات من اللواتي لا يجدن مصادر للدخل والإنفاق الأسري من جهة، وفرصةً تلبّي طموحاتهن من جهة أخرى.

من خلال هذا التقرير، التقى رصيف22، بعددٍ من النساء العربيات اللواتي يتخذن من تركيا مرفأ لهن بعد أن دفعتهن الأقدار للسفر وللهجرة والبعد عن عوائلهن وأسرهن، ووجدن في الطبخ المنزلي سبيلاً لهن.

كانت البداية مع السورية غادة العابو، الخمسينية، والمُلقّبة بأم صبحي. تروي لنا حكاية مطبخها الذي صار محط أنظار الكثيرين في إسطنبول، قائلةً: "عندما اندلعت الحرب في الغوطة الشرقية، وتحديداً في العام 2015، قررت أنا وأبنائي النزوح إلى تركيا هرباً من ويلات الحرب، وذهب ابني صبحي لتجديد جواز سفره، ولكنه لم يعد، أو بالأحرى تم اختطافه من قبل قوات النظام السوري، وأكملنا سفرنا إلى هنا، واستأجرنا بيتاً صغيراً في منطقة الفاتح يجمعني أنا وأبنائي وأحفادي".

من خلال هذا التقرير، التقى رصيف22، بعددٍ من النساء العربيات اللواتي يتخذن من تركيا مرفأ لهن بعد أن دفعتهن الأقدار للسفر وللهجرة والبعد عن عوائلهن وأسرهن، ووجدن في الطبخ المنزلي سبيلاً لهن

توفي زوجها وفقدت ابنها

تعود "أم صبحي" بذاكرتها إلى التخلّف، فتروي لنا أنها تزوجت في سن صغيرة، ولكن توفي زوجها، وترك لها ستة أبناء وبنات، فقررت أن تخرج للعمل كي تنفق عليهن. عملت في الحياكة، وصناعة المشغولات اليدوية، بعدها قررت أن تعمل في مهنة الطبخ، والتحقت بالعمل في فندق الميريديان في دمشق، وتمكّنت من الحصول على شهادة إجادة في فنون الطهي.

وما أن قدمت إلى إسطنبول، فكّرت "أم صبحي" في استكمال مشروعها في الطهي، لا سيما وأن هناك مصروفات معيشية، ومتطلبات ضرورية، للعيش في الغربة، ومن هنا اشتهرت بصنع "الكبب، والمحاشي، والأكلات الشامية، مثل اليبرق واليالانجي"، ولكن المثير في قصتها أن تلك المرأة الخمسينية التي عانت الكثير من فقدان زوجها، ثم ابنها، كانت مسؤولةً عن توصيل طلبات الزبائن بنفسها، وهو ما دفعها إلى اقتناء "دراجة نارية"، من أجل استخدامها في توصيل الطلبات؛ ولكن كان ثمن الدراجة باهظاً، لذا استدانت من أحد الجيران الأتراك ثمنها، وقد أقرضها المبلغ إلى حين تتوافر لديها المقدرة على سداده.

من الليل وحتى الخامسة فجراً، تبدأ "أم صبحي" في تجهيز مأكولاتها، بينما أحفادها نيام، إذ تُسرع في تجهيز اللحوم والمحاشي لكي تتمكن من تسليم الطلبات في وقت مبكر، وأيضاً قبل الزحام في الطرق، خصوصاً وأن ساقَيها تعانيان من بعض الآلام والأوجاع التي لا تسعفها في الحركة سريعاً.

على الرغم من معوقات العمل في بلاد المهجر، إلا أن النساء يثبتن يوماً بعد آخر أنهن قويات، ويتحدين الظروف والصعوبات.

سرعان ما اشتهرت " أم صبحي" بصورتها المعهودة على الدراجة النارية، والتي كانت محط إعجاب الكثيرين من الأتراك، إذ وجدوا فيها صورة المرأة المكافحة القوية التي تنفق من عرق جبينها على أسرتها المكوّنة من 13 فرداً؛ تسعة أحفاد، وابناها وبنتها وزوجة ابنها، قائلةً: "حينما يشاهدني الأتراك على الدراجة يفسحون لي الطريق، ويتوقفون بسيارتهم حتى أستطيع المرور بسهولة".

تتنقل "أم صبحي" على دراجتها بين مناطق الفاتح، وكارجمرك، وأمنيات، وأكسراي، بينما لا تستطيع أن تتوجه بها إلى مناطق بعيدة، وذلك لأن شحن الدراجة يكفي لمسافة 35 كم فقط.

وحينما سألناها عن أمنتيها في مشروعها عن الطبخ، قالت: "نفسي يكون لي مطبخي ومطعمي الخاص، فأنا أعمل من البيت، والظروف المادية ليست جيدةً، والنفقات ترتفع وتزداد فترة تلو الأخرى"، واختتمت حديثها بقولها: "نشكر الله... كله خير!"

وتجدر الإشارة إلى أن عدد السوريين في سنّ العمل (15-65 سنة)، المسجّلين في تركيا، يبلغ 2,1 مليون شخص، لكنّ عدد السوريين المنخرطين في نشاط في سوق العمل غير معروف، لأنّ طبيعة توظيفهم غير الرسمية تصعّب عملية تحديد عددهم؛ وللأسف هناك حالة غياب للبيانات الرسمية المتعلقة بسوق العمل للعرب بشكل عام، والسوريين بشكل خاص.

وتشير معظم المصادر، إلى أنّ أكثرية السوريين يعملون في قطاعَي المنسوجات والألبسة، فضلاً عن مهن التعليم والبناء والخدمات والزراعة.

الهلال الأحمر التركي أجرى مسحاً في العام 2018، تبيّن من خلاله أنّ 20.7 في المئة من العمّال السوريين في مجال التعليم، يعملون في وظائف غير ثابتة، فيما تنخفض هذه النسبة إلى 92 في المئة عند السوريين العاملين في قطاع الزراعة.

وعلى الرغم من معوقات العمل في بلاد المهجر، إلا أن النساء يثبتن يوماً بعد آخر أنهن قويات، ويتحدين الظروف والصعوبات؛ فها هي أماني حسن، سيدة مصرية صاحبة "مطبخ أنس" في الثلاثينات من عمرها، قررت الخروج من مصر في ظل الأوضاع السياسية المتأزمة، وجاءت إلى تركيا بحثاً عن ملاذ آمن. ونظراً إلى أنه لديها ثلاثة أطفال، ابنين وفتاة، ولا عائل لهم، لذا كان لزاماً عليها أن تفكر في مصدر دخل يكفي احتياجاتهم؛ ففكرت في استئجار مطعم على أن تجهز الأكلات في بيتها، ويقوم العمال ببيعها في المطعم، ولكن لضعف الإمكانات، وقلة الخبرة، لم تنجح فكرة المطعم، فقررت الاعتماد على مشروع الطبخ المنزلي فحسب.

تجدر الإشارة إلى أن عدد السوريين في سنّ العمل (15-65 سنة)، المسجّلين في تركيا، يبلغ 2,1 مليون شخص، لكنّ عدد السوريين المنخرطين في نشاط في سوق العمل غير معروف، لأنّ طبيعة توظيفهم غير الرسمية تصعّب عملية تحديد عددهم

تروي لنا عن البدايات، فتقول: "كان لدي تحدٍ في إثبات نفسي، وتحقيق حالة نجاح، وفي الوقت نفسه يلزم أن أوفر لأولادي احتياجاتهم؛ في بداية المشروع كانت صديقة لي تقوم بمساعدتي، ولكن مع مرور الوقت اتفقت مع سيدة لمساعدتي بشكل احترافي".

وعن سر تسمية مشروعها "مطبخ أنس"، قالت أماني: "هو نسبة إلى ابني الصغير، البالغ من العمر خمس سنوات".

وحين سألناها عن روتين عملها اليومي، وكيف تتمكن من التنسيق بين العمل وأمور أبنائها، أجابت موضحةً أنها تستيقظ في وقت مبكر جداً، وتبدأ بتجهيز الوجبات، ومن ثم يستيقظ الأبناء فيتوجهون إلى مدارسهم، ولكنها تنهي عملها قبل رجوعهم، مضيفةً: "يساعدني أبنائي في أوقات كثيرة، وهم شريك أساسي في مشروعي، يتحملونه ويتحملونني كثيراً".

اللافت في قصة أماني، أنها لم تكتفي بموهبتها في الطبخ فحسب، بل دخلت مجال دراسة فنون الطهي والمطبخ، وشاركت في الكثير من الدورات التدريبية التابعة لإحدى المراكز التركية، واجتازت عدداً من الاختبارات التي أثبتت كفاءتها، وقدرتها على الطهي، وفنونه".

وعن الأطباق والأكلات المميزة في مطبخها، قالت: "الكنافة من أكثر الأطباق طلباً، وهي الأكثر مبيعاً في ما يخص الحلويات، وأما في المأكولات، فطبق المعكرونة بالبيشاميل هو الأكثر طلباً بين الزبائن".

وتشير إلى أنها اعتمدت على مجموعات فيسبوك الخاصة بالجالية العربية في إسطنبول، من أجل الترويج لمطبخها، وهو السر وراء انتشار مشروعها، ووصوله إلى عدد كبير من الأفراد في إسطنبول.

وعن طموحاتها في الحياة، أخبرتنا بأنها تحلم بمطعم عالمي، ولكن بأسس سليمة، وخبرة تحقق لها النجاح والانتشار الواسع.

"الكنافة من أكثر الأطباق طلباً، وهي الأكثر مبيعاً في ما يخص الحلويات، وأما في المأكولات، فطبق المعكرونة بالبيشاميل هو الأكثر طلباً بين الزبائن".

من معلمة لغة إنكليزية إلى مطبخ بيتي ناجح

ولأن النجاح ليس له مرحلة عمرية، التقينا بالسيدة غادة رمضان، وهي سورية في منتصف الخمسينات من العمر، وهي معلمة لغة إنكليزية تخرجت من جامعة دمشق عام 1981، وعملت في عدد من المدارس، ثم انتقلت وتابعت التدريس في حلب، وصار لديها أربع بنات، وولد.

تعود إلى الوراء، لتروي ذكرياتها قبل السفر، فتقول: "قمت بتربية أبنائي في ظروف صعبة، لأن سكني كان بعيداً عن أهلي، وكنت أعمل عندها في التعليم حتى تقدمت باستقالتي عام 2011، حين قررنا السفر إلى تركيا".

يقولون في الأمثال القديمة "الغربة كربة"، وهو ما شغل بال السيدة غادة التي فكرت في مشروع الطبخ المنزلي، لتوفير دخل كافٍ يغطي نفقاتها، لا سيما أن هناك صعوبة في إيجاد عمل، بسبب عائق اللغة في البداية.

وتقول عن مشروعها في الطبخ المنزلي: "كانت لدي هواية في الطبخ، على الرغم من كوني معلمةً، وكان أبنائي يشاركون صوراً فوتوغرافية لأكلاتي، عبر صفحاتهم الشخصية على موقع فيسبوك، وفوجئت بإعجابات تأتي من المتابعين، وهو ما دفعني للبدء بمشروع الطبخ المنزلي، بينما كان نجلي يتولى مهمة توصيل الطلبات".

هذا وقد رفعت غادة رمضان شعاراً لمطبخها، وهو "النظافة والأمانة هما الأساس"، مؤكدةً أن السر وراء انتشار مشروعها هو اهتمامها بنظافة الأكل، وتغليفه جيداً، فضلاً عن شراء منتجات الأكل بعناية فائقة، وجودة عالية، لتنال إعجاب الزبائن.

وعلى غرار حنين الشاعر محمود درويش إلى خبز أمه، وقهوة أمه، تشير غادة إلى أن هناك حنيناً لدى أغلب الزبائن إلى أكلات الأمهات والجدّات، من أكلات شامية وحلبية، مثل اليبرق، والسجقات، والمحاشي، إذ إن أكثر الطلبات تكون لمثل هذه النوعية من الأكلات.

وعن صعوبة الحياة في الغربة، تشير إلى أن الحياة صعبة، والتكاليف المعيشية صارت مرتفعةً للغاية، مضيفةً أن العمل الآن صار أمراً ضرورياً، وليس رفاهةً من أجل سد الاحتياجات اليومية.

"كانت لدي هواية في الطبخ، على الرغم من كوني معلمةً، وكان أبنائي يشاركون صوراً فوتوغرافية لأكلاتي، عبر صفحاتهم الشخصية على موقع فيسبوك، وفوجئت بإعجابات تأتي من المتابعين، وهو ما دفعني للبدء بمشروع الطبخ المنزلي، بينما كان نجلي يتولى مهمة توصيل الطلبات"

من عزلة الكورونا إلى طبّاخة مشهورة

ليس صحيحاً أن الرياح دوماً تأتي بما لا تشتهي السفن، فعلى الرغم من رياح أزمة كورونا، إلا أن سفن الشيف غادة استقبلتها بصدر رحب، وحولتها إلى حالة نجاح كبيرة في مجال الطبخ في إسطنبول.

قبيل أزمة الكورونا، لم تكن "الشيف غالية"، معروفةً بين الأوساط بمشروعها في الأكلات المنزلية، وبالأخص الحلويات الغربية، ومع العزلة التي فرضتها جائحة كورونا، ومع كثرة المكوث في البيت لساعات طويلة، تولّد لدى غالية صوان، وهي مصرية في بداية الثلاثينات من عمرها، حافز قوي لصنع أطباق من الحلوى المنزلية لأسرتها، وكل طبق كانت تلتقط له صورةً، بينما كان الأهل والأقارب يشاركون تلك الصورة عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

في حديث مع الشيف غالية، قالت: "فجأة، وجدت إعجابات على الصور، ومن ثم طلبات من المقربين، ومن هنا أنشأت صفحةً شخصية عبر موقع إنستغرام، وخلال شهور قليلة تخطى عدد المتابعين لها الثلاثين ألف متابع ومعجب بالصفحة".

لكن يبدو أن مهارات الطبخ كانت دفينةً لدى الشيف غالية منذ الصغر، إذ تقول: "مذ كنت في الصف الخامس، أحببت دخول المطبخ، وتجهيز الأطباق لعائلتي، لكني كبرت، ودرست إدارة الأعمال، والآن بعد التحوّل الكبير، اتجهت إلى مشروع الأكلات المنزلية وبرامج الطبخ، وشاركت في أكثر من برنامج للطبخ داخل تركيا".

بدأت غالية تسلك مسلك الدراسة، والتحقت بجامعة "آيدن إسطنبول"، وهي جامعة حكومية تركية، من أجل دراسة الطهي، والتغذية الصحية.

تقوم حالياً "الشيف غالية" بتقديم أطباق يومية عبر صفحتها في إنستغرام، من أجل تعليم الفتيات فنون الطهي بالصوت والصورة، ووجهت نصيحة إلى كل سيدة تفكر في تنفيذ مشروع مطبخ منزلي، أولها: "أن يكون لديها ثقة بنفسها، لأنها إذا آمنت بنفسها، فستصنع شيئاً جميلاً".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard