بين المصريين والأكل عشق من نوع خاص يتفوق على كل قصص العشاق التى خلدتها الكتب؛ عشق نلمحه على عربات الطعام في الشارع، وعلى الموائد الفخمة في أشهر أماكن السهر، وكذلك على الطاولات التي لا تحمل إلا صنفاً واحداً في بيوت البسطاء.
حين نتأمل هذا العشق نكتشف أنه لم يكن وليد اللحظة، فبحسب الباحث عادل الفضالي لرصيف22، احتل الطعام مكانة مهمة للغاية في حياة المصريين القدماء، ووصل الحال بالملك في العصور الفرعونية إلى حد إيمانه بأن كلماته هي السبب الرئيس وراء خلق الطعام.
الملوخية
يكشف الفضالي : "انقسم الطعام بين الطبقات في عهد الفراعنة؛ فالطبقة الشعبية مثلاً لم تكن تأكل اللحوم، لأن الحيوانات بالنسبة لها كانت وسيلة مساعدة في إنجاز الأعمال الزراعية، وبناءً عليه لن يضحوا بها، ومن هنا اعتمدوا أكثر على الخضروات. بينما الطبقة المتوسطة والتي تضم الحرفيين كانت توزع وجباتها بين اللحوم والأسماك والخضروات. والطبقة العليا كانت تأكل كل شيء من الأسماك واللحوم إلى الخضروات والفطائر والمشروبات المتنوعة، فيما استغل المصريون القدامى بعض الأكلات في العلاج، ونجد في بردية إيبرس، كثيراً من الوصفات الطبية الشعبية، التي استعانت بالبصل في علاج بعض الأمراض".
ويكمل: "هناك الكثير من الأكلات الشعبية في مصر لها أصول تاريخية ربما لا يدركها الكثيرون، وأبرزها طبعاً الملوخية، والتي كانت موجودة أيام الفراعنة، غير أنهم كانوا يعتقدون خطأ أنها نبات سام أسموه (خيا)، لذلك لم يقترب منها أحد، حتى دخل الهكسوس مصرَ، وأجبَروا المصريين على تناول الـخيا على اعتبار أنها سامة. لكن المفاجأة أنها لم تكن كذلك. وبعدها أضاف البعض لها لفظة (ملو)، فأصبح اسمها (ملوخية). وكانت لها قصة مثيرة في عهد المعز لدين الله الفاطمي، حيث نصحه الأطباء بتناولها عقب تعرضه لمغص حاد في معدته، وبعد تناول الملوخية شُفي من المغص وانتشر الخبر، فأصبح المصريون يأكلون الملوخية كنوع من العلاج".
يواصل الفضالي حديثه عن رحلة الملوخية مع المصريين ويقول إن عام 1805 كان مهماً بالنسبة للمصريين من عشاق الملوخية؛ "في هذا العام أصدر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، أمراً بحرمان الشعب من تناول أو زراعة الملوخية بسبب كراهيته الشديدة لأهل دمشق، الذين يرجع أصلهم إلى الخليفة الأموي معاوية، والذي كان يحب الملوخية جداً، وأثار القرار استياء قطاع كبير من الشعب المصري الذي يعشق الملوخية، ومن هنا بدأ البعض في زراعة الملوخية سرّاً وتهريبها إلى الناس".
أكد ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، أن أكلة الكشري أصلها هندي حيث يطبخون الشعير مع الأرز ويأكلونه بالسمن، ويسمونه "كيشوري"، وتعني الأرز مع أشياء أخرى
وعن "الشهقة" التي تُصاحب طبخ الملوخية، وتعد طقساً مميزاً وضرورياً لمن يُحضرونها بحسب الاعتقاد الشائع، يقول الشيف عماد عبدالقادر لرصيف22: "سمعت الكثير من الأساطير حول فكرة الشهقة، وأشهرها أن أحد الملوك كان جائعاً، وطلب من الطباخ الخاص به إعداد الملوخية، وتوعده إذا لم ينته منها سريعاً فسوف يقتله، وبينما ينشغل هذا الطباخ بإعدادها دخل عليه الحراس فشهق خوفاً، معتقداً أن الملك قرر قتله، غير أن الملك أعجب بالملوخية وكافأ الطباخ، فبات من يومها يشهق خلال إعدادها حتى تخرج بصورة جيدة". ولكن البعض يعتقد أنها ضرورية فعلاً حتى تكون الطبخة جيدة؟ يجيب عبدالقادر على سؤالنا: "ده كلام فاضي.. أنا نفسي مش بشهق وبعمل ملوخية تحفة".
مع الملوخية نجد أيضاً الكُشري، وهو عبارة عن طبق واحد يجمع الأرز بالشعرية بالمكرونة مع العدس والبصل والطماطم. وكما قال الباحث عادل الفضالي فقد أكد ابن بطوطة في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، أن أكلة الكشري أصلها هندي حيث يطبخون الشعير مع الأرز ويأكلونه بالسمن، ويسمونه "كيشوري"، وتعني الأرز مع أشياء أخرى، فيما انتقل الكشري إلى مصر من خلال التجار الذين كانوا يذهبون في رحلات دورية إلى الهند وشرق آسيا. كما أسهمت الحرب العالمية الأولى في انتشاره في مصر بعد أن جاء الجنود الهنود مع القوات البريطانية عند فرضها الحماية البريطانية على مصر عام 1914، وكانوا يطلقون عليه حينها "كوتشري"، غير أن المصريين طوروا الكشري بعد ذلك، وأضافوا له الحمص والخل والثوم والبهارات الأخرى والشطة.
المحشي
يبقى للمحشي أيضاً حضور خاص على موائد المصريين، كما أنه من ضمن بنود اختيار العروس حيث يبقى إعداد المحشي بالنسبة لبعض الأمهات شرطاً مهماً لقبول زوجة الابن.
تروي لنا الباحثة سوزان عمارة تاريخ المحشي، وتقول: "عرف المصريون المحشي خلال فترة الحكم العثماني، وكان يُسمى آنذاك (دولمة)، أي الخضروات التي يتم حشوها بخلطة خاصة عبارة عن أرز متبل ولحم مفروم، غير أن المصريين أخرجوا اللحم من قائمة الخلطة ووضعوا بدلاً منه بهارات صنعت خلطة المحشي المصرية والتي جعلت المحشي طبقاً رئيسياً على موائد المصريين، وبات أغلب زوار مصر يبحثون عن هذا الطبق بمجرد دخولهم البلاد". يذكر أن تسمة "دولمة" هي الشائعة اليوم للإطلاق على المحشي في العراق وإيران.
الفطير المشلتت
يظن البعض أن فكرة "الفطير المشلتت" وُلدت في ريف مصر، غير أن الحقيقة غير ذلك؛ فبحسب سوزان قدم المصريون القدماء نوعاً مخصوصاً من الفطير قرباناً للآلهة في معابدهم، كما كان يُوضع مع كل متوفى في قبره كونه يجمع بين عناصر ذات قيمة كبيرة في قوتها، مثل الدقيق والسمن والعسل.
وكما عرف المصريون القدامى الفطير، عرفوا أيضاً تناول الكوارع، وهي أكلة شعبية بامتياز، يرى المصريون دوماً أن فوائدها أكثر من أن تُعدّ وتحصى. تقول عنها سوزان لرصيف22: "عرف المصريون القدامى الكوارع في عهد سخم خت، الذي ينتمي للأسرة الثالثة؛ فرغم أنه لم يكن من المتاح وقتها تناول أرجل الحيوانات، إلا أن سخم خت المعروف بعشقه لتجربة كل جديد وغير مألوف طلب من الطباخ الخاص به أن يبتكر أكلة جديدة. فأحضر الأخير أرجل عجل وقطعها وأخلى منها العظام ثم قام بسلقها مع إضافة كثير من التوابل. وقد حظيت الوجبة برضا وإعجاب الملك، الذي اعتبرها هدية من الإله (رع)، وطلب أن تُسمى (كا رع) بمعنى روح رع".
البصارة
في طبق البصارة يعدّ الفول القوامَ الأساسي مع إضافة البصل والبقدونس والكزبرة. وقد عُرف أيضاً في عهد الفراعنة باسم "بيصو رو" أي "الفول المطبوخ". وقد ظهرت تلك الوجبة للنور بسبب الرغبة في التغيير، فبدلاً من تناول الفول بشكله التقليدي أضافت له إحدى السيدات بعض المكونات، وقامت بمزجها حتى اكتسب المزيج اللون الأخضر، وفق ما قالت عمارة لرصيف22.
أم علي
وإذا انتقلنا إلى الحلويات المصرية فنجد الطبق الأشهر باسم امرأة، وهي "أم علي"، والطبق يجمع رقائق العجين الممزوجة بالحليب والمكسرات، ورغم أنها أكلة شعبية ومشهورة جداً في مصر إلا أن قصتها يغفلها الكثيرون.
قدم المصريون القدماء نوعاً مخصوصاً من الفطير قرباناً للآلهة في معابدهم، كما كان يُوضع مع كل متوفى في قبره كونه يجمع بين عناصر ذات قيمة كبيرة في قوتها، مثل الدقيق والسمن والعسل
تعود قصة أم علي كما يؤكد علي الشربيني، المتخصص في شؤون وتاريخ المطبخ المصري، إلى زوجة عز الدين أيبك، أول سلاطين المماليك بعد الأيوبيين، وزوج شجرة الدر، التي أُجبرت على الزواج منه بعد أن رفض مماليك الشام أن تتولى حكمهم امرأة. وبعد الزواج اكتشفت شجرة الدر أن عز الدين أيبك متزوج من أم علي، فغضبت جداً، وقررت الانتقام بقتله، فيما ردت زوجته الشهيرة بـأم علي بتدبير مكيدة أطاحت بشجرة الدر، ليجلس ابنها علي على عرش مصر خلفاً لأبيه، واحتفاءً بتلك المناسبة أمرت أم علي بخلط كلّ الدقيق مع السكر والمكسرات، مع اللبن وتسخينها، ثم تقديمها للناس، ومن يومها دخل الطبق قائمة المبطخ المصري.
رموش الست
أما رحلة رموش الست، فيقول عنها الشربيني: "بدأت رحلتها في الشام، قبل أن تنتقل إلى مصر. وتعود تسميتها إلى أيام الحاكم بربر آغا الذي حكم طرابلس، والذي عرف عنه إقامة الكثير من الحفلات والولائم التي يقدم خلالها لضيوفه أشهى الحلويات والمأكولات، وفي إحدى المرات كان من بين حضور الحفل نساء جميلات من علية القوم، وكذلك بعض الرجال الذين عُرف عنهم خفة الظل وإلقاء النكات خلال الجلسة. وبينما كان يدخل الخدم حاملين الحلوى المصنوعة على شكل رموش العين، أعجب بها أحد الظرفاء من الحضور، وطلب من الحاكم أن يُطلق عليها (رموش الست)".
صوابع زينب
أما صوابع زينب، والتي تتكون من الدقيق الأبيض والسميد والخمير والسكر قبل تشكيلها في هيئة أصابع صغيرة، فقد اختلفت الروايات التاريخية حول تاريخ ظهورها لأول مرة، وإن كانت الغلبة للرواية الشهيرة التي تؤكد أن الظاهر بيبرس وبعد أن عاد منتصراً من معركة عين جالوت بين المسلمين والمغول، أمر الطباخين بتحضير الحلوى، وتوزيعها على الشعب، غير أنه فوجئ بأن هناك نوعاً من الحلوى على شكل أصابع صغيرة، ومذاقه طيب للغاية، فطلب إحضار كبير الطباخين بالقصر، لسؤاله عن هذا النوع، فارتبك الطباخ ظناً بأن الحلوى لم تحظ برضا بيربس، ليقول له إنها "أصابع زينب" الطباخة بالقصر، وهنا أمر بيبرس بحضور زينب، وبينما كان يعتقد الجميع أنها ستُعاقب، أمر بيبرس بمكافأة لها، ومن يومها أصبحت تُعرف تلك الحلوى بهذا الاسم قبل أن يتحول بالعامية المصرية إلى "صوابع زينب".
الكنافة
من الحلويات المهمة أيضاً في مصر هي الكنافة، وبحسب الشربيني "بدأت رحلتها في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، حيث كانت تُقدم له في رمضان كطعام للسحور لتمنع عنه الجوع الذي كان يشعر به في النهار؛ فقد كان معاوية يحب الطعام. فشكا إلى طبيبه من الجوع الذي يلقاه في الصيام، فوصف له الطبيب الكنافة لتمنع عنه الجوع، فأعجب جداً بها وبدأ العامة في تناولها واعتمادها حلوى رسمية لشهر رمضان. أما القطائف أو القطايف، كما هي معروفة في مصر، فظهرت في أواخر العهد الأموي، حيث كان صُناع الحلوى يتنافسون لتقديم أفضل ما لديهم للحاكم، فابتكر أحدهم فطيرة محشوة بالمكسرات، وقدمها بشكل مُزين على هيئة شجرة ليقطفها الحاكم وضيوفه، ومن هنا اشتق اسمها "القطايف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...