شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الرُعب من السخرية

الرُعب من السخرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 12 نوفمبر 202106:08 م

في مطلع كتاب "ما وراء الخير والشر" للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه، نجد تلك العلاقة بين العبوس والبحث عن الحقائق المغلقة والراسخة والثابتة التي لا تشوبها شائبة. العبوس الذي يذكره نيتشه يصفه بـ"العبوس الرهيب". هو لزوم الموقف الجديّ، ونتيجة "إلحاح غشيم" في السعي إلى "الحقيقة".

العبوس في ما ذكره نيتشه رفيقٌ لـ"الدغمائية"، أي للفكر الجامد. هو سمة من سمات الشخصية العالِمة العارفة بكل شيء. "الحقيقة"، في عرف هؤلاء يلزمها العبوس، وتقطيب الحاجبين تأمّلاً ومعرفةً.

وعليه، يغدو الضحك أو الفكاهة وحتى الابتسام صفات أحقر من أن تكون مرتبطة بالحقيقة أو بالنهج المفضي إليها. المواكب المفضية إلى الحقيقة، وإلى نصر القبض عليها، يجب ألا تضحك. هي تحمل صفة واحدة، ويحركها نمط واحد. أشكالها واحدة متوحدة. في تلك المواكب هناك أزياء موحّدة ومشاعر موحّدة، وبالتأكيد ليس الضحك والسخرية من بينها، أو إنْ شئنا الدقّة أكثر ليست الضحكات والسخريات التي تحملها هذه المواكب إلا ضحكات صفراء، ضحكات لازمة عن الموقف المتماسك، ابتسامات ساخرة، ابتسامات امتلاك الحقيقة، وهي عادة ما تأتي من جهة طرف الفم، بإيماءة العارف القابض على الحق والحقيقة.

ضحكات وابتسامات "مواكب الحقيقة" هي جزء من إعادة مشهد الجمهور إلى جديّته وإلى تماسكه الذي عادة ما يهدده الضحك المنفلت من عقاله. فالذي يحمل على أكتافه مذهباً شمولياً لا يضحك، إلا لسبب وبغرض إيصال رسالة تكون الضحكة فيها هي إحدى لبنات النظام المتكامل، وبالتالي تفقد صفة الضحك جوهرها لناحية كونها مفاجأة غير محسوبة.

لذا، فالانقضاض على الضحك وعلى السخرية و"الساركازم" هو سمة من سمات الشموليّ: يكون الانقضاض أحياناً بهدف الترويض ويكون أحياناً أخرى بهدف الإلغاء. في الحالة الأولى، وعادة ما تكون الخيار الأوّل، يأخذ الانقضاض صفة أبويّة، تربويّة، وصفة إقلاق راحة، أي تخويف ناعم.

"يغدو الضحك أو الفكاهة وحتى الابتسام صفات أحقر من أن تكون مرتبطة بالحقيقة أو بالنهج المفضي إليها. المواكب المفضية إلى الحقيقة، وإلى نصر القبض عليها، يجب ألا تضحك. هي تحمل صفة واحدة، ويحركها نمط واحد"

وبما أن "الساركازم" هو بشكل أو بآخر حالة من حالات الاحتجاج، والمحاججة في وجه السلطة، وبما أن كل سلطة تحمل صفة الأب الموجّه والمهذّب فبالتالي تُسقط هذه النصائح الأبوية خاصية "الساركازم" الجوهرية، وتسطّحه ليصير أقصى طموحاته عبارة عن عمليّة "تنفيس" وإخراج الشحنات العصبية والاحتجاجية من داخل الذات أو الجماعة، وتوجيهها إلى هدف محدّد.

ولنا في كوميديا دريد لحام أو مسرح "الشونسونييه" الكوميدي المخصص لنقد السياسة اللبنانية أو برامج كبرنامج شربل خليل "بسمات وطن" خير مثال عن الكوميديا "المهذبة". تصبح الكوميديا في هذه الحالة ولّادة ضحكات تكون حيلة تعوّض "قلّة حيلة" الضاحك، وتهدف إلى إراحة السلطة المضحوك عليها تملّقاً.

رغم ذلك، يظل الشمولي متوجساً من الضاحك والساخر، يظل متوجساً من انفلات ضحكة ما تهدد تماسك جماعة ووحدتها وتوحدها، ويهدد النمط الواحد الوحيد الذي تسير عليه. فينتقل إلى خيار الانقضاض الثاني أي الإلغاء الذي يأخذ شكلاً معنوياً، عندما ينتقل إلى التهديد بالإلغاء أو بالإقصاء، أو الذي يأخذ الشكل المادي عن طريق الأذية الجسدية أو التصفية.

لكن ما هو لافت للنظر ومتناقض في الوقت ذاته هو ثورة الشمولي الزائفة على التنميط الذي يتهم الساخرين بممارسته. الشمولي يهدف إلى صبغ المجموعات المختلفة التي يتشكّل منها جمهوره، بلون واحد، ويهدف إلى خلق أنماط ثابتة سائرة على النهج الواحد الأوحد، لا تحيد عنه قيد أنملة، فهو صاحب الطريق والدرب وهو النافخ فيه ليل نهار.

"يظل الشمولي متوجساً من الضاحك والساخر، يظل متوجساً من انفلات ضحكة ما تهدد تماسك جماعة ووحدتها وتوحدها، ويهدد النمط الواحد الوحيد الذي تسير عليه"

لذا، تظهر فكرة مواجهة "التنميط" كما لو أنها فكرة دخيلة على فكر النمط، كما لو أنها آتية من خارج النمط ذاته. وهكذا تكون عملية نقد التنميط جزءاً من عملية صقل النمط ذاته. فعندما ينتقد الشموليّ فكرة ساخرة أو ضاحكة ويضعها في سياق نعوت جاهزة ثابتة وواحدة، وفارغة على الأعمّ الأغلب من المعنى إلا معنى التهديد، كمثال النعت "تكفيري"، فإنه يعلّبها وينمّطها ويدخلها في نهج يريد أن يحاربه، ليصقل نهجه الخاص ويحصّنه بالمناعة التي يفترض أنها تمنع دخول كل فكرة مختلفة إليها. وهذا يعني أنه يقوم بالتنميط.

وعندما يقول الشمولي إن هدف الساركازم هو تشويه البيئة الاجتماعية، أو "أبلستها"، في كناية شيطانية تستحضر نموذج الخير والشرّ، يصبح الهدف حكماً هو تنقية بيئته من كل شائبة، تنقيتها من الداخل، وإقصاء كل مختلف فيها.

لو تُرك الأمر لمالك الحقيقة والناطق بالحق حاضراً وماضياً ومستقبلاً في أن يخنق كل الضحكات وأن يسحق كل سخرية وكل ساركازم، وأن يطفئ كل التلفزيونات وأن يسحب كل أسلاك الإنترنت، من أجل يبقي على الحقيقة التي نشرها في فضاء بيئته الاجتماعية، ويختم عليها ختم قدرته وسلطانه، لما قال لا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image