قبيل يومين فقط من التاريخ الذي حدده تجمع المهنيين السودانيين، الذي يقود الحراك الاحتجاجي في السودان، للخروج في مظاهرات حاشدة، تحت عنوان "مليونية إسقاط المجلس العسكري الانقلابي"، أعاد قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، الخميس 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، تعيين نفسه رئيساً لمجلس سيادي جديد احتفظ فيه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بموقعه كنائب للرئيس.
وقد علّق المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، على تلك الخطوة واصفاً إياها بأنها "مقلقة للغاية"، وطالب بإطلاق سراح رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك، وزعماء سياسيين آخرين.
ويتكون المجلس الجديد الذي شكّله البرهان، وأدى له اليمين الدستوري أمام رئيس القضاء فتح الرحمن عابدين، من 13 عضواً، تسعة منهم كانوا أعضاء في المجلس السابق، بينهم خمسة من كبار ضباط الجيش، وأربعة أعضاء جدد حلوا محل أعضاء المجلس السابق المنتمين إلى قوى الحرية والتغيير.
وأتى اختيار أبو القاسم برطم لعضوية المجلس مثيراً للتساؤلات عن السبب الحقيقي لوجوده، إذ عُرف عن الرجل كونه أحد أبرز دعاة التطبيع مع إسرائيل.
الانقلاب لم يطِح بالشراكة بين المدنيين والعسكريين فحسب، وإنما أوصلها إلى مرحلة اللا عودة التي ستعيد السودان إلى دولة معزولة، بعد إعادة فرض العقوبات عليه، وسحب مؤسسات التسليف العالمية
وأُرجئ اختبار العضو الذي يمثّل شرق السودان لمزيد من التشاور، وفقاً للبيان الذي بثّه التلفزيون الحكومي.
وتأتي هذه الخطوة في الوقت الذي لم يتوقف فيه قائد الجيش السوداني، منذ انقلابه في 25 تشرين الأول/ أكتوبر، عن التأكيد على أنه ماضٍ في تسليم السلطة لحكومة كفاءات مدنية. على الرغم من أنّ المؤشرات كلها كانت تدلّ على أنه لا يعني ما يقول، فقد زجّ بمئات السياسيين في المعتقلات، ومن ضمنهم رؤساء أحزاب، ونقابيون، ووزراء في الحكومة المعزولة، فيما أبقى على رئيسها عبد الله حمدوك، رهن الإقامة الجبرية في منزله.
خطوة نحو شفير الهاوية
وفي السياق، توالت ردود الأفعال الداخلية المنددة بالخطوة، إذ رفضها تجمع المهنيين السودانيين، أكبر وأقوى تجمع نقابي في البلاد، ويحظى بتأييدٍ ودعمٍ كبيرين من قبل الجماهير الثورية، باعتباره قائد الثورة الشعبية التي أسقطت نظام عمر البشير، إذ وصفها المتحدث باسمه، مهند مصطفى النور، بالإجراءات غير الدستورية، داعياً الجماهير إلى التصعيد ضدها.
من جهته، عدّ وزير الثقافة والإعلام السوداني المعزول، حمزة بلول، في بيان نُشر أمس الخميس، على صفحة الوزارة في فيسبوك، تشكيل مجلس السيادة الجديد، امتداداً للإجراءات الانقلابية التي بدأت في 25 تشرين الأول/ أكتوبر، وأعرب عن ثقته في قدرة الشعب السوداني على حسم الانقلاب، وتصفية آثاره، واستعادة كافة مكتسبات ثورة كانون الأول/ ديسمبر المجيدة، ووصف الخطوة بأنها هروب إلى الأمام، وعدّها قراءةً من كتاب المخلوع البشير.
كما دعت قوى إعلان الحرية والتغيير، إلى مناهضة الانقلاب، وعدّت خطوة البرهان قطعاً للطريق أمام الجهود الداخلية والخارجية لتجاوز الأزمة، وعودة الأمور إلى نصابها، كما عدت قرار البرهان بفك تجميد بعض مواد الوثيقة الدستورية، بعد ساعات من إعلانه عن المجلس السيادي الجديد، وأدائه اليمين الدستورية رئيساً لمجلس السيادة مرة أخرى، عبثاً لا يستحق الالتفات إليه، كون القرارات صادرةً عن وضع غير دستوري.
نقض أحكام القضاء
وفي السياق، لم تتوقف مجموعة البرهان عن إصدار القرارات، ليس المخالفة للوثيقة الدستورية فحسب، بل حتى المُخالفة للأحكام القضائية، إذ ألغى جهاز تنظيم الاتصالات والبريد حكماً قضائياً صادراً عن محكمة في الخرطوم، بإلزام شركات الاتصالات بإعادة خدمة الإنترنت على الفور، مستنداً في ذلك إلى أمر الطوارئ الصادر عن قائد الجيش، كونه قراراً سيادياً يتعلق بحماية الأمن القومي، ويعلو على ما عداه من قرارات، من أي جهات أخرى، وفقاً للبيان نفسه.
مواجهة دموية
وحسب الباحث السياسي إبراهيم نور الدين، في إفادة خصّ بها رصيف22، فإنّ القرار الأخير يُغلِق الباب تماماً، أمام المساعي الداخلية والخارجية الرامية إلى رأب الصدع بين قوى إعلان الحرية والتغيير، والمجلس العسكري، ويضع المدنيين، وأنصار الانتقال الديمقراطي، والثوار، ولجان المقاومة، وجهاً لوجه أمام جهات مسلحة عدة. فبالإضافة إلى الجيش ومليشيا الدعم السريع (الجنجويد)، تقف الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، في مواجهة الشعب أيضاً، بدعمها وتأييدها ومشاركتها الفعالة في الانقلاب، وعليه، فالأرجح أن تكون المواجهة أكثر دمويةً هذه المرة، ولربما أدّت إلى انقسامات أُفقيّة وعمودية على المستويات كافة، خاصةً الاجتماعية منها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحركات المتمردة السابقة، ومليشيا الدعم السريع، تتكون من مجموعات عرقية تنتمي إلى إقليم واحد (دارفور)، ولها صلات وامتدادات عائلية تصل إلى تشاد، والكاميرون، والنيجر، ومالي، ويشكّل دعمها للانقلاب وحيازتها السلاح خطراً وجودياً على القوات المسلحة، حتى في صيغتها التقليدية غير المُرضية، وعلى بقية المواطنين السودانيين العُزّل الذين يمارسون السياسة بأيدٍ خالية من السلاح.
ما لم تتمكن التجمعات المدنية والثورية من إسقاط الانقلاب، واستعادة الفضاء السياسي لصالح عملية الانتقال الديمقراطي، فإن السودان سيشهد حروباً أهلية طاحنةً، حتى بين الجهات المسلحة التي نفّذت الانقلاب، وحينها ستكون لغة السلاح سيدة الموقف
ووفقاً لنور الدين، فإنه ما لم تتمكن التجمعات المدنية والثورية من إسقاط الانقلاب، واستعادة الفضاء السياسي لصالح عملية الانتقال الديمقراطي، فإن السودان سيشهد حروباً أهلية طاحنةً، حتى بين الجهات المسلحة التي نفّذت الانقلاب، وحينها ستكون لغة السلاح سيدة الموقف، ما سيؤدي إلى تفكيك الدولة السودانية الهشة، وتحول البلاد إلى ساحة معركة ضروس بين لوردات الحرب.
معارضة موسعة وانهيار وشيك
بالنسبة إلى المحلل السياسي محمد إبراهيم، فإن القرارات الأخيرة الصادرة عن عبد الفتاح البرهان، ستؤدي إلى تقوية المعارضة، ومن المرجح أن ينشأ تحالف موسع يضم إلى جانب الأحزاب السياسية المدنية، كلاً من حركتَي جيش تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد محمد نور، والحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو، اللتين لم توقّعا على اتفاق جوبا للسلام، فضلاً عن تجمع المهنيين السودانيين، وقوى المجتمع المدني، ولجان المقاومة الثورية، وسيجد هذا التجمع في الغالب دعماً شعبياً كبيراً، وكذلك مساندةً دولية غير مسبوقة.
"القرارات الأخيرة الصادرة عن عبد الفتاح البرهان، ستؤدي إلى تقوية المعارضة، ومن المرجح أن ينشأ تحالف موسع يضم إلى جانب الأحزاب السياسية المدنية، كلاً من حركتَي جيش تحرير السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال فضلاً عن تجمع المهنيين السودانيين، وقوى المجتمع المدني، ولجان المقاومة الثورية، وسيجد هذا التجمع في الغالب دعماً شعبياً كبيراً"
يضيف إبراهيم، في حديثه لرصيف22: في الواقع، ومنذ الإعلان الانقلابي في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وعلى الرغم من بعض جهود الوساطات الداخلية والخارجية لإعادة الأمور إلى وضعها ما قبل الانقلاب، إلاّ أن لجان المقاومة الشعبية (الثوار)، وتجمع المهنيين، والحزب الشيوعي، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، قالت بعدم جدوى الشراكة مع العسكريين، ودعت الجماهير إلى احتلال الشوارع، واغلاقها، وتعطيل دولاب العمل في الخدمة المدنية، واستخدام وسائل الضغط السلمية كافة، ليس لإسقاط الانقلاب فحسب، بل لإزاحة العسكر من المجال السياسي تماماً، وإجبارهم على العودة إلى ثكناتهم، وممارسة عملهم في الجُنديّة، وإخلاء الساحة السياسية للمدنيين فحسب، وبناء على ذلك، يضيف إبراهيم، تم تنظيم مظاهرات ضخمة في 30 تشرين الأول/ أكتوبر، أعقبها عصيان مدني حقق مفاعليه بشكل كبير، ثم دعا تجمع المهنيين إلى ما سمّاها مليونية 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، السبت المقبل. وهذه كلها مؤشرات دالة على أن الانقلاب لم يطِح بالشراكة بين المدنيين والعسكريين فحسب، وإنما أوصلها إلى مرحلة اللا عودة التي ستعيد السودان إلى دولة معزولة، بعد إعادة فرض العقوبات عليه، وسحب مؤسسات التسليف العالمية، كالبنك والصندوق الدوليين، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وبعض الدول الغربية، تعهداتها بإعفائه من الديون، وإقراضه. ومع عودة الحصار، سيعاني الشعب السوداني أكثر مما يعاني الآن، ما سيجبره على المقاومة والصمود مجدداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا