سافرت سلمى من بلدها الأم غانا إلى منزل عائلة نصر في لبنان، مثلها مثل نساء عديدات قرّرن اتّخاذ العمل المنزلي مهنة لهن، بهدف تأمين مستقبل أفضل. قد يبدو هذا القرار جيّداً، لكن في لبنان، البلد الذي لا يحمي الوافدين إليه قانونياً، قد يتحوّل هذا الخيار المهني إلى تجربة ملأى بالعنف والعبودية والاضطهاد.
قبل أيّام، نشرت صفحة “هذا لبنان” التابعة لمنظّمة معنية بالدفاع عن حقوق العاملات الأجنبيات تحمل الاسم عينه، قصّة سلمى على الشكل التالي: “من أصل 14 شهراً أتمّت فيها كل واجبات عملها، لم تتلقَّ سلمى سوى راتب شهرين ونصف. وفي كل مرّة طالبت بحقوقها، تذرّع باسم نصر وهو ضابط في الشرطة بالأوضاع العامّة ولم يبد حتى ميلاً لإعادتها إلى بلدها. فهمت سلمى مع الوقت أن الأخير لا ينوي أن يدفع مستحقّاتها، وأن معاناتها اليومية مستمرة، تتمثّل بالعيش والعمل من دون أن يكون لها منفذ على العالم الخارجي، أو حتى وجبات طعام يومية وملابس ملائمة لفصل الشّتاء، وفوق كل هذا، ستتعرّض للتعنيف الجسدي والتحرّش الجنسي”.
في مقطع فيديو نشرته الصفحة نفسها، سجّلت سلمى، أثناء ذهابها إلى المطار حادثة تحرّش تعرّضت لها أثناء وجودها في السيارة مع نصر، الذي طلب منها لمس عضوه، ووضع يده على جسدها. وعلى الرغم من محاولاتها المتكرّرة للدفاع عن نفسها، بقي نصر مصرّاً على تنفيذ تحرّشه معلناً لها أن لا داعي للخوف، فهما في مكان مرتفع ولن يراهما أحد.
”التفاوض مع أرباب العمل صار صعباً جداً، إضافة إلى رفضهم إطلاق سراح العاملات. لذلك، نشعر أننا في حالة إجراء مفاوضات لإطلاق سراح رهائن”
صرّحت سلمى للمنظّمة أنه في إحدى المرات، حاول باسم أن يغتصبها، لكن بعد بكائها ومقاومتها له، أعلمها أنه سيكتفي بالجنس الفموي. وهذا هو السبيل الوحيد كي تحظى براتبها الشهري، وكي يضمن سكوتها هدّدها بالقتل واضعاً مسدّسه برأسها، وأخبرها أنها إذا تكلّمت عن تحرّشاته الجنسية أمام زوجته، فسيقتلها. في تلك الليلة، استطاعت سلمى أن تهرب إلى غرفتها، لكنّها في اليوم التالي واجهت غضبه. في هذه اللحظة، وبسبب انتشار قصّتها، سلمى موجودة في بلدها.
بحسب تقرير أعدّته الدولية للمعلومات، تراجعت أعداد العمال العرب (ما عدا السوريين والفلسطينيين) والعمال الأجانب في لبنان نحو 92 ألفاً في العام 2020 مقارنة بالعام 2019، وذلك نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان. فقد بلغ عدد إجازات العمل المجددة في العام الفائت 143,532 مقابل 203,263 في العام 2019، أما إجازات العمل الجديدة فبلغت 11,453 مقابل 43,825 إجازة، أي انخفض مجموع هذه العمالة من 247,088 عاملاً وعاملة إلى 154,985، بتراجع 92,103، أي بنسبة 37,3%.
والتراجع الكبير حصل في اليد العاملة المنزلية إذ انخفض عددها من 182,377 عاملة الى 117,869، أي بتراجع 64,508 عاملة.
تصرّح باتريسيا برادهان لرصيف22، وهي من مؤسّسي منظّمة “هذا لبنان”، أن المنظّمة تُجري دراسة موسّعة قبل نشر أي قصّة لتتأكّد أن المرأة المعنية لن تكون في دائرة الخطر. تقول: “في الدول التي تتمتّع بنظام عدالة فعّال وجاهز لحماية كل من يعيش ضمن حدودها، تجري محاكمة الجناة وتنتشر القضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. في لبنان، حيث لا يوجد نظام عدالة يحمي العاملات الأجنبيات، نجد أنه من الضروري مشاركة قصصهنّ بموافقتهن طبعاً، بهدف تأمين حماية بديلة، خصوصاً أن المنظومة اللبنانية غير جاهزة للتعاون ومحاسبة المنتهكين. فمثلاً، في حالة العاملة حليمة التي كانت تعيش ضمن نظام ظالم وعنصري أخضعتها له ابتسام السعدي طوال 10 سنوات، رأينا أن حالتها تحسّنت كثيراً حين خرجت قصّتها إلى العلن، وتداولها الرأي العام”.
ساجيتا وسالمو
خلال آب/أغسطس الماضي، اجتاحت قصّة العاملة النيبالية ساجيتا لاما (29 عاماً) مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما تبيّن أنها كانت تعمل لدى ريشارد خوري وزوجته رنا جيرمانوس منذ العام 2012 من دون أن تتلقى رواتب 110 أشهر، أي ما يعادل اثنين وعشرين ألف دولار أمريكي. حين شاركت صفحة “هذا لبنان” قصّتها، دُهم منزل العائلة المعنية وحُرّرت ساجيتا التي تعيش حالياً في منزل كاريتاس الآمن من دون أن تكون قادرة على التواصل مع العالم الخارجي .
عن مستجدّات قصّتها، تفيد باتريسيا أن العائلة لفّقت التهم وألقت اللوم على ساجيتا. لكن في الواقع بقيت الأخيرة طوال عقد من الزمن مُستعبدة، وسجينة في المنزل وتعمل بالمجان. تقول لرصيف22: “ليس لدينا تواصل مباشر مع ساجيتا لكنّ عائلتها أعلمتنا أنها تلقّت عرضاً للمساومة على قضيتها. بإمكانها العودة إلى النيبال وتلقّي رواتب 18 شهراً فقط لا غير، وتالياً خسارة أتعاب عدة سنوات بهدف أن تنال حريتها وجزءاً من حقوقها”.
تضيف باتريسيا أنه من حق ساجيتا أن ترفض العرض وتأخذ قضيتها إلى المحكمة. لكنّ العملية القانونية قد تستغرق مدة تراوح بين ثلاث وأربع سنوات، من دون وجود ضمانات ملموسة تعيد إليها حقوقها المالية. وتؤكّد أن ممثّلاً عن وزارة العمل زار ساجيتا في 9 تشرين الأول/نوفمبر بعد انتشار قصّتها. لاحقاً، حكم أحد القضاة بأن قضيتها ليست قضيّة اتجار بالبشر بل قضية رواتب غير مدفوعة.
”المنظومة اللبنانية تقف أمام معضلة واتجاهين: إما تبرير ارتكاب هذه الانتهاكات الانسانية وغض النظر عنها، أو احتجاز أصحاب العمل ومحاسبتهم على جرائمهم من خلال القضاء. من دواعي الأسف أن الدولة اللبنانية تختار إلى اليوم الاتّجاه الأوّل”.
أما سالمو مايا مكتان، المواطنة النيبالية، فهي، بحسب تعبير باتريسيا، استُعبدت من قبل السيد فاروق خضر، ولها نحو 18 ألف دولار رواتب شهرية غير المدفوعة. وهي مقيمة في منزل كاريتاس الآمن منذ خمسة أشهر في انتظار الحصول على حقوقها. أعلمها صاحب العمل أنه سيسوّي ديونه معها بعد إتمام عملية شراء منزل عرضه للبيع، لكنه الآن ينفي مسؤولياته عنها، معلناً أنها حين قدمت إلى لبنان، كانت تحت اسم زوجته التي توفّيت. تقول باتريسيا إنه لا يمكن معرفة المدّة التي ستمضيها سالمو هنا، وإذا أرادت الكفاح من أجل الحصول على حقوقها، فقد تستمر المعركة سنوات.
بحسب منظمة حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش”: “معظم العاملات المنزليات في لبنان لا تشملهنّ حماية قانون العمل اللبناني. ويتم تنظيم وضعهنّ عبر نظام الكفالة الذي يقيّد العاملات والعمال المهاجرين، ويربط الإقامة القانونية للعاملات المهاجرات بأصحاب عملهن. لا يمكن العاملات ترك عملهن أو تغييره بدون موافقة صاحب العمل، ما يضعهنّ في مواجهة خطر الاستغلال وسوء المعاملة. أما اللواتي يتركن أصحاب عملهن بدون إذن، فيخاطرن بخسارة إقامتهن القانونية في البلد، ويواجهن خطر الاحتجاز والترحيل”.
الإقامة في مواجهة التعنيف
تتعرّض بعض العاملات المنزليات في لبنان للتحرّش والتعنيف الجسدي ومحاولات الاغتصاب من دون وجود سبل قانونية تؤمّن لهنّ الحماية النفسية والجسدية. خلال نيسان/أبريل الماضي، عُثر بعد ظهر يوم سبت على حقيبة بداخلها أطراف بشرية في منطقة “الملا” بالعاصمة بيروت. وتبيّن لاحقاً أن الجثّة تعود لعاملة إثيوبية.
في بيروت، تحديداً في منطقة “طريق الجديدة”، تعيش ريما (26 عاماً) مع صديقاتها في منزل مستأجر. تقول إنها جاءت قبل سبع سنوات من بنغلادش للعمل في منزل عائلة لبنانية عاملتها بشيء من العنصرية، فحرمتها من الطعام ومن حقّها بالراحة ولو ساعات قليلة. حتّى أنها لم تتمكن من التواصل مع أفراد عائلتها. وتضيف: “بعد أشهر، طالبت بالعودة إلى بلدي فأخذتني صاحبة المنزل إلى المكتب الذي استقدمتني منه، وهناك تعرّضت لضرب مبرح ثم رُحلّت وخسرت إقامتي”.
بعد سنوات على هذه الحادثة، قرّرت ريما العودة إلى لبنان، لأن لديها طفلاً صغيراً تريده أن يحظى بحياة أفضل، لكن هذه المرّة عادت وفق شروطها. اتفقت مع كفيلتها على الاستقرار في منزل خاص بها، والعمل في عدّة منازل وليس حصراً في منزلها. تقول: “كفيلتي امرأة طيّبة تساعدني على النجاح في عملي. سأبقى هنا حتى العام 2022 ثم سأرحل كما يفعل الجميع”.
صرّحت سلمى للمنظّمة أنه في إحدى المرات، حاول باسم أن يغتصبها، لكن بعد بكائها ومقاومتها له، أعلمها أنه سيكتفي بالجنس الفموي. وهذا هو السبيل الوحيد كي تحظى براتبها الشهري، وكي يضمن سكوتها هدّدها بالقتل.
تكشف باتريسيا لرصيف22 عن أنواع الحالات التي تواصلت مع المنظّمة خلال العام المنصرم (2021)، وخصوصية كل حالة، وتقسّمها على الشكل التالي:
- عدد الحالات التي حُرمت من الطعام: 40
- عدد الحالات التي تعرّضت لعنف جسدي: 90
-عدد الحالات التي تعرّضت لعنف جنسي: 30
- عدد الحالات غير المدفوعة الأجر: 200
- عدد الحالات المصابة بأمراض جسدية: 20
تلفت باتريسيا إلى أن أعداد الحالات التي تصلهم انخفضت من 60 إلى 20 شهرياً، منذ العام الماضي، والسبب هو رحيل العاملات الأجنبيات عن لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي وشحّ الدولار. تشرح: “على الرغم من تدني نسبة طلب المساعدات فإن الحالات التي نتعامل معها ذات طبيعة أكثر خطورة، إذ تلقّينا في شهر واحد ثلاث حالات لنساء تم استعبادهن عقداً من الزمن. كما أن التفاوض مع أرباب العمل الذين يرفضون سداد المستحقات المالية صار صعباً جداً، إضافة إلى رفضهم إطلاق سراح العاملات. لذلك، نشعر أننا في حالة إجراء مفاوضات لإطلاق سراح رهائن”.
وتضيف أنه إذا نظرنا إلى الحالات على أساس أنها عبودية واتجار بالبشر، فإن المنظومة اللبنانية تقف أمام معضلة واتجاهين. ما هما؟ تجيب: “إما تبرير ارتكاب هذه الانتهاكات الانسانية وغض النظر عنها، أو احتجاز أصحاب العمل ومحاسبتهم على جرائمهم من خلال القضاء. من دواعي الأسف أن الدولة اللبنانية تختار إلى اليوم الاتّجاه الأوّل”.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...