"كنا أطفالاً نسكن في شارع صغير ضيق، تُزينه الأشجار الهرمة على الجانبين، وكانت الشمس تُزخرف أرض هذا الشارع بالظلال طوال ساعات النهار، وحين رأيتها، كانت ترتدي قميصاً أبيض طويلاً وينساب شعرها الأسود على كتفيها وتقف بعيداً داخل أحد مداخل البنايات".
"الدكتور أحمد خالد توفيق – أسطورة البيت"
غلاف أسطورة البيت - بريشة الفنان الراحل إسماعيل دياب
المشهد الذي يصفه هذا المقطع من سلسلة روايات الشباب الناجحة "ما وراء الطبيعة" يصف فيه الكاتب الراحل لقاء بطل سلسلته رفعت إسماعيل بمن ستسيطر على أحلامه؛ الطفلة شيراز، التي بعثت من جديد عندما أنتجت شبكة نتفليكس الجزء الأول من المسلسل المأخوذ عن "ما وراء الطبيعة" والذي صدر بنفس الاسم عام 2020.
ظهرت شيراز بصورة قريبة من وصف الدكتور أحمد خالد توفيق لها، بفستان أبيض، ووجه ملائكي شاحب، وشعر أسود حالك ينسدل على الكتفين. لكن شيراز المسلسل كانت مجرد نسخة من شيراز أخرى؛ قال الكاتب الراحل إنها ألهمته، وهي الفتاة التي تظهر لمدة ثلاث ثوان في نهاية تتر برنامج |نادي السينما| الذي كانت تقدمه شاشة القناة الأولى المصرية في مرحلة ما قبل الدِش حتى نهاية التسعينيات تقريباً.
الفتاة اللغز
مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، تكونت سريعاً مجموعات مغلقة لمحبي السينما، وفي الحوارات المتبادلة، كان الحديث يطول عن المرات الأولى لمشاهدة الأفلام التي تبتعد عن السينما التجارية المعتادة المعروضة في السينمات المصرية، واعتراف بفضل برنامج نادي السينما الذي تقدمه المذيعة وأستاذة الإعلام درية شرف الدين ويعده الناقد السينمائي الكبير الراحل يوسف شريف رزق الله، ولأن الشيء بالشيء يذكر، بدأ محبو البرنامج الكلام عنه لا عن الأفلام فقط وراحوا يتبارون في التعرف على الأفلام التي ترد لقطات منها في التتر الشهير وموسيقاه المميزة. لقطة واحدة مثلت لغزاً للجميع، هي اللقطة الأخيرة التي تخطو فيها طفلة ترتدي قميصاً أبيض طويلاً أمام بيتها تراقب شيئاً يبتعد في حزن وانكسار. وهنا وُلد لغز البنت "اللي في آخر تتر نادي السينما".
الصورة كما ظهرت في التتر مع إزالة عناوين البرنامج
مرتدياً البيجامة، جلس الطفل سمير أمام شاشة التلفاز في ليلة سبت أواخر السبعينيات، منتظراً عرض برنامجه المُفضل نادي السينما الذي بثت حلقته الأولى عام 1975. يبدأ البرنامج بموسيقاه المميزة، ويمرّ التتر سريعاً حتى يصل لنقطة النهاية عند القطة الشهيرة. يسأل سمير والده: "مين يا بابا البنت دي؟"، لكنه لا يجد رداً.
أكثر من 20 سنة، ظل سمير عمران (47 عاماً) يبحث عبثاً عن الفيلم الذي أخذت منه اللقطة الشهيرة. ليال تحولت إلى سنوات من البحث من دون فائدة، سوى أنها ألهمته فكرة كتاب عن هذا التتر بالذات واستعراض الأفلام التي ظهرت لقطاتها فيه. كتاب ظل مشروعاً معلقاً على حل اللغز الأخير.
20 عاماً من البحث انتهت بالصدفة فجر الإثنين 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، عندما تلقى سمير رسالة على الإنبوكس من صديقه عبدالرحمن هشام، وفيها: "لقيت البنت" مصحوبة برابط يحمل المشهد الذي اقتطعت منه اللقطة.
أعلن سمير الخبر عبر صفحته الشخصية ثم نشرته صفحة كان عدد معجبيها لا يتخطى الثمانين، اسمها "البنت في تتر نادي السينما"، فارتفع عدد متابعيها خلال ساعات محدودة إلى أكثر من ألف، قضوا قسطاً من حيواتهم مهووسين بمعرفة من هي البنت في نهاية التتر.
شيراز مسلسل "ما وراء الطبيعة" كانت مجرد نسخة من شيراز الحقيقية، التي قال الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق إنها ألهمته، وهي الفتاة التي تظهر لمدة ثلاث ثوان لا أكثر، في نهاية تتر برنامج نادي السينما
30 سنة حيرة
"عبدالرحمن لقاها النهارده الفجر، 8 نوفمبر 2021، بعد 40 سنة على ظهور اللقطة دي في التتر، اللقطة من فيلم فرنسي، والبنت اسمها جوديت فورنيه (Judith Fourny)".
كمن عثر على "الجادون" الذي حيّر جيل الثمانينيات أيضاً، أجاب سمير على مكالمة رصيف22 وقال: "النهاردة الطفل اللي جوايا حلمه اتحقق أخيراً، لما عرف مين البنت اللي في تتر نادي السينما". مضيفاً أنه بدأ رحلة البحث عن تلك الفتاة منذ اقتناء أسرته جهاز كمبيوتر متصلاً بشبكة الإنترنت.
سمير واحدٌ من أبناء أواخر السبعينيات. لم يكن يذهب إلى السينما في أيام العطلات الرسمية. نادي السينما الذي كانت تقدّمه درية شرف الدين ويعده الراحل الكبير يوسف شريف رزق الله كان نافذته الوحيدة على الأفلام الأجنبية، خصوصاً أن القنوات التلفزيونية كانت مقتصرة على ثلاث تبث هوائياً (التلفزيون الأرضي). ورغم ذلك، قدّم نادي السينما وجبات سينمائية دسِمة لكل مشاهديه لمدة 30 عاماً.
يقول سمير: "الطفل اللي جوايا كان متمسك بالبحث عن البنت دي، من الحاجات الحلوة الوحيدة اللي فاضله في حياتنا، عُمر ما حسيت بملل وأنا بادور".
جاء الانترنت ليفتح له فرصة جديدة، يقول: "لما الإنترنت وصلنا، بدأت أدور في كل الأفلام اللي قبل سنة 1975، بمرور الوقت، كنت بادور في أفلام المهرجانات العالمية، أي أفلام اتعرضت في مهرجان (كان)، دورت في أكثر من 500 فيلم، لكن مكنتش لاقي حاجة".
قبل عدة سنوات، كتبَ سمير على فيسبوك: "حد يعرف مين البنت اللي في آخر تتر نادي السينما؟". تخيّل حينها أنه يوجّه سؤاله للعدم، وأنه الباحث الوحيد عن فتاة تتر نادي السينما، لكنه فوجئ بمئات التعليقات من مواليد أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ممن تعلقوا أيضاً بظهور الفتاة وظلّوا يبحثون عنها مثله.
يومياً، كان يذهب سمير إلى عمله كمحاسب، ويعود ليفتح مواقع التواصل الاجتماعي ويبحث عن الفتاة، وخلال رحلة البحث، كان يتلقى مئات الرسائل من أشخاص يقولون: "إحنا لقينا البنت"، ويتذكّر: "ناس كتير كانت بتدور مش أنا بس، لكن للأسف محدش كان بيلاقي نفس البنت، يمكن شبيهاتها لكن مش هي".
في أحد الأيام، تلقى سمير رسالة يعلن صاحبها أنه عثر أخيراً على الفتاة، قائلاً إنها الممثلة الأمريكية سوزان سويفت، واستعان بصورٍ لها في فيلم "أودري روز"، إذ جسدت دور طفلة تعاني من كوابيس مروعة عن حرقها حتى الموت. ظنّ الكثيرون أنّ سويفت هي فتاة نادي السينما، خصوصاً أنها كانت تظهر في نهاية التتر بحرق في يدها اليمنى.
برغم تناقل وسائل الإعلام خبر العثور على فتاة نادي السينما في فيلم أودري روز، كان سمير ورفاقه يعلمون أنها ليست الفتاة، لذا استمرت رحلة البحث سنوات أخرى.
لم يكن التواصل مع عبدالرحمن، الفتى الذي حل لغزاً شغل الملايين سهلاً، ففي البداية طلب التواصل عبر صفحة فيسبوك التي تحمل اسم "البنت اللي في آخر تتر نادي السينما". رفض عبدالرحمن أن يكشف لرصيف22 عن هويته في البداية، وقال: "أنا تعبت جداً عشان ألاقي أي معلومة عن البنت دي، مش حابب الناس لما عرفت المعلومة خلاص، تبدأ تدور عليا أنا، هي بطلة الحدوتة".
بعد حديث مُستمر لساعات، لم يُمانع عبدالرحمن من رواية كواليس البحث عن فتاة نادي السينما، والمفاجأة أنه شاب حديث التخرّج من آداب جغرافيا، جامعة القاهرة، لم يتعد عمره 24 عاماً، الأمر الذي فاجأ سمير أيضاً: "اتفاجئت أن اللي حل اللغز شاب صغير، كنت متخيل أن الشغف بالعثور على البنت دي أمر يخص جيل الثمانينيات فقط".
ولكن إن كان مخرج "نادي السينما" قد صاغ التتر (شارة المقدمة) في عام 1975، فكيف ظهرت فيه الفتاة الغامضة بطلة الفيلم الذي أنتج عام 1979؟
ويفسر عبدالرحمن: "أنا اتعلقت بالبنت اللي بتظهر في التتر، كنت بتفرج على البرنامج وأنا طفل قبل ما يتوقف في 2009 (انتقل إلى شاشة إحدى الفضائيات بعد توقف عرضه في التلفزيون الرسمي)، شكل البنت علّق معايا، مكنتش عارف هي تايهه ولا بتدور على حد ولا شكلها مرعب".
بعد عام 2011، ظنّ عبدالرحمن أنه مهووس بمعرفة اسم الفيلم وهوية الفتاة. يقول: "شاب صغير يبحث عن فتاة ظهرت في نهاية تتر برنامج قديم. أصدقائي لا يشاهدون التلفزيون ولا يعرف أحد منهم نادي السينما"، دفعه هوسه بحل اللغز إلى إنشاء الصفحة التي حملت اسم "البنت في تتر نادي السينما" علهُ يجد في المهووسين باللغز مثله مساعدة في الحل.
ويكمل عبدالرحمن: "بدأت أدور زي الناس، عرفت أن أستاذ يوسف شريف رزق الله، الناقد السينمائي الراحل اللي شارك في إعداد البرنامج، قال إن الفيلم قبل 1975، وأنه ميعرفش الفيلم تحديداً، المخرج محمد قناوي هو اللي كان يعرف، لكنه توفى".
ويُضيف: "كنت باقعد ساعات أدور على الفيلم، قعدت أدور في أفلام المهرجانات، شُفت أكثر من 300 فيلم ظهر فيها أطفال من 1960 لحد 1981 على موقع اسمه childrenincinema.com، لحد ما لقيت فيلم اسمه les indiens sont encore loin دورت بعده، لحد ما قريت عن فيلم Félicité حسيت أنها يمكن نفس الفترة، قعدت أدور على الفيلم مكنش مُتاح، بس لقيت في الصور، صورة بنت صغيرة، شعرها أسود ناعم، وإيدها مربوطة زي التتر بالظبط، لكن لابسه فستان أحمر مش أبيض".
لغز جديد
بحسب رد الناقد السينمائي الراحل والمعد الرئيسي للبرنامج يوسف شريف رزق الله (الذي شغل كذلك منصب المدير الفني لمسابقة الأفلام الأجنبية في مهرجان القاهرة السينمائي)، فالتتر يعود إنتاجه إلى العام 1975، ومخرج البرنامج الأول الذي صنع هذا التتر، الراحل محمد قناوي، أخذ السر معه بعد أن قام باختياراته من اللقطات التي شكلت ذلك التتر بما فيها لقطة فتاتنا الغامضة.
ولكن إن كان قناوي قد صاع تتر البرنامج في عام 1975، فكيف ظهرت فيه الفتاة الغامضة بطلة الفيلم الذي أنتج عام 1979؟
هل هذا هو التتر الثاني للبرنامج، وهناك تتر أقدم سبق ما نعرفه؟ التصريحات التي وصلتنا من الراحل يوسف شريف رزق الله وشريكته في الإعداد ومقدمة البرنامج درية شرف الدين لا تعطي مصداقية لتلك الفرضية، ويظهر منها أن التتر أعد مرة واحدة من أفلام سبق إنتاجها قبل عام 1975، وبالتالي يكون ظهور ذلك المشهد من فيلم Félicité بمثابة لغز جديد جدير بأفلام الخيال العلمي والسفر عبر الزمن.
لكن التتر المتاح يحمل اسم المخرج طلعت محمد، ما يطرح احتمالية أنه ربما غير بعض الخيارات في التتر عندما أضاف اسمه عليه، ومنها الفتاة اللغز.
مقدمة البرنامج الدكتورة درية شرف الدين، فوجئت بالهوس المرتبط ببرنامجها وحقيقة أن كثير من مواليد السبعينيات والثمانينيات لا يزالون مرتبطين بمحتواه: "حاسة إني قدمت رسالة وهفضل أحصد ثمارها"
الكنز في نهاية التتر
يقطع سمير كلمات عبدالرحمن، مؤكداً أنه رغم الاقتراب من العثور على الفتاة اللغز، كانت الرحلة نفسها ثرية، ويتفق معه عبدالرحمن الذي أكمل البحث ولم يكتف بالمعلومات التي وجدها.
عند الدقيقة 41:00 وجد، عبدالرحمن هشام فتاة تتر نادي السينما بفستانها الأبيض أمام أحد الأبواب.
في الكوابيس، كان عبد الرحمن هشام يرى نفسه في صحراء يبحث عن البنت، ويعلق لرصيف22: "أنا نفسي مش عارف، كنت بدور بشكل جنوني، لدرجة كنت بحلم أني أدور".
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وجدّ هشام الفيلم على أحد المواقع الروسية للمشاهدة المباشرة، وربما انتقل الفيلم من خلال منصة موبي MUBI المختصة بعرض الأفلام المادرة وذات القيمة الفنية المتميزة.
راح هشام يستعجل المشاهد سريعاً، وعند الدقيقة 41:00 وجد فتاة تتر نادي السينما بفستانها الأبيض أمام أحد الأبواب، لم يُكمل الفيلم فذهب فرحاً ليُخبر والدته، وطلب إلى سمير أن يُخبر رفاقه: "أخيراً لقينا البنت اللي في آخر تتر نادي السينما"، لتسيطر دموع الفرح.
لم يتوقّع عبدالرحمن وسمير ردود الفعل على حل لغز نادي السينما، يقول: "لقينا أن في غيرنا كتير اتعلقوا بالبنت دي، ذاكرتهم وثقافتهم السينمائية اتشكّلت من نادي السينما".
اعتراف بالفضل
في اتصال هاتفي، قالت الإعلامية درية شرف الدين لرصيف22: "وقت ما كُنا بنعمل البرنامج، كُنا متوقعين أنه يحقق نجاح بس مش للدرجة دي، مع الوقت لقينا أن شباب وأطفال بيتفرجوا، والبرنامج أثرى تذوق الفن عند جميع المصريين، خصوصاً أن كان بيبقى معاه تحليل".
وعندما علمت شرف الدين أن هُناك من خاض رحلة بحث عن الفتاة التي ظهرت في التتر، غمرتها السعادة، وقالت: "اللى حصل ده بيدينا رسالة مهمة، أن ده كان نوع من البرامج، إحنا افتقدناه وفعلاً محتاجينه في مجتمعنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...