"السوري وين ما زتّيته بيجي واقف".
أحدّق في وجه صديقي، بعد أن رشقني بهذه العبارة، ونحن في طريقنا من مطار بودابست إلى منزله هناك، لتتوارد إلى رأسي مع صدى هذه العبارة، مئات الحكايات والسوالف التي سمعناها في الماضي، عن محطاتِ إبداعٍ يسجّلها السوريون في الخارج، وعن أفكار خلّاقة، وأعمال مبدعة، تُذيَّل بأسمائهم.
وصلت إلى أوروبا... أنا الآن على موعد مع اختبار حقيقة هذه "البروباغندا" السورية التي صدّرها المغتربون إلى الداخل، ومتّنوا حجّتها ببراهين عن انعدام البيئة الخصبة للإبداع في البلاد، وبأن أي سوريّ مُبتكِر في الداخل، سيضرب يوماً موعداً مع إجراء بيروقراطي ساذج، أو إقصاء تعسفي من أشباح السلطة والنفوذ.
أي مغامرة هذه!؟ أي ثمن باهظ سيدفعه هذا المغترب الجديد، إذا تم ضبطه بجرم التزوير؟
نمضي في طريقنا، وأنا أرى جمال أعرق عواصم أوروبا... تتناوب هاتان الفكرتان في الاستيلاء على ذهني المتعب من مشقة السفر، تارةً أتلذذ برؤية حضارة البلاد الحلم، وتارةً أعود إلى الدعاية السورية المنيعة، والتي أسست لجيل يزرع بذور هذا الحلم منذ يفاعته، حتى يقطف ثماره عند حلول موسم حصاد خدمة العلم!
أيام قليلة مرت عليّ في المجر، كانت كفيلةً باختبار حقيقة صكّ الإبداع السوري الذائع الصيت في العالم، والذي يخوض بدوره حرباً ضروساً مع النظرة الرديئة في عيون الغرب، تجاه السوري القادم من بلاد القتل والحرب. في داخلي وداخل كل سوري، يقين برجاحة كفتها لصالح بصماتنا المبدعة، أما الـ"غربي"، فلن يكلّف نفسه عناء البحث في حيثياتها، فيترك المهمة لما تصدّره إليه شاشات التلفزة، وصفحات الإنترنت، وفي حساباته تنتصر الحرب بالتأكيد.
بعد مضي قرابة شهر، أضع هذه الحرب على الهامش، وأنصرف عنها للبحث وراء أمر أصابني بالذهول!
"تخفش يا زلمة... منضربو!"، يأتي الحل على لسان صديقة أردنية. وتواصل الحديث بثقة: "إذا بدك تستعمل التحليل برا هنغاريا، مفيش مشكلة أبداً. حتى جوا البلد هون. بينتبهوش!" يتدخل طالب سوري ويقول: "كتير مرات زوّرنا الـ P.C.R على الـ"فوتوشوب"، ونفدنا!"
نزعةٌ وضيعة أكبحها أنا، وأقراني السوريين، كلّ يوم، تتجلى في محاولة الخروج عن القانون، وعدم الالتزام بالنظام، واللجوء إلى المحظور، والالتفات والتلاعب، وكأنها سلوكيات زُرعت فينا... ننجح أحياناً في لجم هذه النزعة، وأحياناً أخرى لا يُكتَب لنا النجاح!
تختلف وتيرةُ تجليات هذه النزعة، باختلاف الشخص، ومدى ثقته بحنكته الخبيثة، وباختلاف الغرض من توظيف هذه الملكة الرديئة التي ربما قررت أن تكون حيث نكون، فعبرت معنا أصقاع الأرض، لتلازمنا... لن تعتقنا إلا بعد زمن، وبعد صفعات "غير موضة"، سنتلقاها من قانون لا يرحم أحداً في هذه البلاد.
تزوير، وتلاعب، والتفاف على القانون، ومراوغة تطال إشارة المرور حتى... تنجح معظمها ليس بسبب ذكاء مقترفيها، بل لأن مخططها، وآلية تنفيذها غائبة تماماً عن ذهن الرقيب، فهو لم يعهدها، ولم تخطر في مخيلته حتى!
ما هو لافت أيضاً... أننا نقوم بهذه التجاوزات متلذذين بنشوة النصر، ثم نجول بها على ظهر سوالف "جمعات العرب" وحكاياتها، ونرويها بفخر
أذهب وصديقي للتسوق في مدينة صغيرة شرق هنغاريا. نستقل حافلةً عامة. يضع صديقي -المغترب العتيق هنا- تذكرة الحافلة في الختّامة بطريقة توحي للسائق والركّاب بأنها خُتمت! من دون أن تصل التذكرة إلى حجرة الحبر... أحاول لفت انتباهه، فيرشقني بغمزة تنضح بعبارة "لقد تحايلت عليهم، وركبت ببلاش"، وعندما نصل، ونغادر الحافلة، يقص عليّ سلسلة انتصاراته بحكاية تحايله على وسائل النقل، ويختتم حديثه: "بإمكانك ألا تدفع هنا... لا يوجد مراقب للباص في هذه المدينة!".
جاءت عطلة الخريف. يستعدُ الطلاب للسفر إلى خارج المجر، يسيح معظمهم متسلحين بشهادة تطعيم، وناعمين بإقامة "شينغن" الجديدة التي تفتح أمامهم أبواب القارة العجوز كلها، وكأنهم أطفال يجرّبون لعبةً جديدة اقتنوها. إلا أن بعض السوريين والعرب، يحتاجون إلى إجراء اختبار "كورونا"، لأن اللقاحات في بلدهم غير فعالة في أوروبا، وهذا يشكل عبئاً مادياً كبيراً على الطالب، فيحجم عن فكرة السفر... وأنا واحد منهم!
"تخفش يا زلمة... منضربو...!!"، يأتي الحل على لسان صديقة أردنية... وتواصل الحديث بثقة: "إذا بدك تستعمل التحليل برا هنغاريا، مفيش مشكلة أبداً... حتى جوا البلد هون... بينتبهوش...!" يتدخل طالب سوري غير مستجدّ، ويضع على مخطط التزوير هذا "علامةً مسجلةً"، ويقول: "كتير مرات زوّرنا الـ P.C.R على الـ"فوتوشوب"، ونفدنا...!".
أي مغامرة هذه!؟ أي ثمن باهظ سيدفعه هذا المغترب الجديد، إذا تم ضبطه بجرم التزوير؟ ألا يفكّر في كم كانت مشقة الوصول إلى هنا مضنيةً!؟ ألن تتبدد أحلامه وطموحاته كلها إذا تم اكتشاف خديعته!؟
أسئلة بالتأكيد ترِد على أذهانهم... لكنهم متسلحون بخبرة "تحايل" طويلة في بلادهم... ومتسترون خلف قناع "جهل المغترب الجديد" الذي يرتدونه فجأةً، عندما تقتضي الحاجة.
نحن في حاجة إلى فتح صفحة جديدة مع سيادة القانون، وسُلطوية النظام، وسحق تلك العلاقة الموروثة بين الفرد والدولة، والاستعاضة عنها بالفهم الحقيقي للقانون والنظام، وعدّهما صمامَي أمان للحقوق والواجبات، وليس رقيبَين قمعيَين
عند الوصول إلى الشارة الضوئية، ترى بعضنا من العرب، نتحقق من وجود الكاميرا، قبل التحقق من لون الإشارة! فإذا غابت الكاميرا الرقيب، أصبح النظر إلى لون الإشارة تحصيل حاصل، ويعبر البعض مخالفاً نظام السير، وأحياناً يصاب آخر أجنبي بالعدوى، ويسير معه، والإشارة حمراء.
والأمثلة تطول... فهنا من يدّعي المرض للظفر بغرفة مستقلة في السكن الجامعي، وهناك من يرسب في اختبار اللغة عمداً، ليستمر في الدورات، ويواصل كسب الراتب المخصص للاجئ إلى حين تعلمه اللغة، وقدرته على العمل، وآخر يستغل ميزة التعلّم "أونلاين" بسبب الجائحة، ويزاول العمل في بلد آخر، مع بقائه مستفيداً من راتب المنحة الدراسية.
ما هو لافت أيضاً... أننا نقوم بهذه التجاوزات متلذذين بنشوة النصر، ثم نجول بها على ظهر سوالف "جمعات العرب" وحكاياتها، ونرويها بفخر، فتتقاسم الجلسة مع المحطات المشرّفة التي يسجلها السوريون في الخارج، ونروي الاثنتين تباعاً... قصة احتيال هنا، وقصة نجاح هناك... والخاتمة واحدة: ضحكة، وابتسامة، وعبارة "سجّل أنا عربي".
أُجابهُ استيائي مما سبق كله، باستحضار أخبار وعناوين كثيراً ما تبجّحنا بها... سورية تخترع جهازاً للطاقة المتجددة في كندا، وسوري يفوز بجائزة السلام الدولية للأطفال في لاهاي، وآخر يفوز ببطولة العالم للوزن الثقيل، وأتذكر كيف نافس أربعة سوريين من بين ستة لاجئين، على جائزة "التميز"، في مؤسسة "UAF" الهولندية لعام 2021.
علّها لعنة التناقضات التي ارتبطت بهذه الجنسية... تناقضات في الداخل، ومثلها في الخارج.
لن أبرر لنفسي ولهم هذه التجاوزات، لكنني متيقّن من أن مهمةَ خلع وشاح البطل الذي اعتدنا ارتداءه في بلادنا، لن تكون مهمةً هيّنة. ذلك البطل الذي يتقلد وسام بطولته، في خروجه عن المألوف، وتجاوزه القانون... خصوصاً بعد حرب جعلت هذا السلوك -تجاوز القانون- بريستيجاً يقلّد صاحبه منزلة صاحب السلطة والنفوذ، القادر على تجاوز أصعب الأمور، ومن ثم يكون محط أنظار المجتمع.
نحن في حاجة إلى فتح صفحة جديدة مع سيادة القانون، وسُلطوية النظام، وسحق تلك العلاقة الموروثة بين الفرد والدولة، والاستعاضة عنها بالفهم الحقيقي للقانون والنظام، وعدّهما صمامَي أمان للحقوق والواجبات، وليس رقيبَين قمعيَين يلهثان وراء المواطن بسوطَيهما التعسفيين، وقناعتهما العدائية تجاه المواطن.
في الماضي، كانت الهجرة تتم بشكل فردي؛ مواطنٌ عربي يرحل عن وطنه، ليجد نفسه في مجتمع غريب، لا خيار أمامه سوى الانصهار في نمط حياة هذا المجتمع وسلوكياته! أما اليوم، في ظل التكتلات السورية-العربية التي تحتضن أي مغترب جديد، ستكون مهمة خلع ثوب البطل القديم، ومحاباة القانون الجديد، مهمةً شاقة جداً! لكنها في الختام سترضخ أمام سطوة معادلة عنوانها: "خيارك الوحيد هنا أن تكون مواطناً وإنساناً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين