تستفزّ هبة شريف، مُترجمة كتاب "سياسة الإذلال-مجالات القوة والعجز" الصادر مؤخراً عن دار ممدوح عدوان، اللغةَ العربية لتُحيط بموضوع الكتاب الذي ترجمته، لنرى أنفسنا أمام ما يشبه معجماً مصغراً لـمفردات الإذلال، إذ تتدفق كلمات عار، خزي، تجريس، توبيخ، مهانة، ازدراء، تحقير، تشهير، فضح، بين الصفحات، لرصد تقنيات واستعراضات الذل وتاريخها الأوروبي، سواء على المستوى السياسي والدبلوماسي (دولة ضد دولة، دولة ضد مواطن) أو ذاك المجتمعي (مدرس ضد طلاب، طلاب ضد طلاب، الجميع ضد فرد، وسائل الإعلام ضد فرد... الخ)، لتعتري قارئ الكتاب في نهايته لسعة من القشعريرة، إذ لا توجد لحظة في التاريخ خالية من الذُلّ.
القصة التي تُفضي إلى التاريخ
تفتح مؤلفة الكتاب، أوتا فريفرت، الفصل الأخير المعنون بـ"لا نهاية"، بالعبارة التالية: "بدأ هذا الكتاب بالقصص وانتهى بالتاريخ"، يأتي ذلك بعد أن افتتحت الكتاب بحكاية البوعزيزي، بائع الخضار التونسي الذي أشعل نفسه عام 2010، في ذات الوقت أشعل شرارة الربيع العربي.
المرعب حين نقرأ تاريخ الإذلال أننا لا نتحدث عن موضوع غامض، فتوثيق ممارسات الإهانة والقهر حاضر دوماً بالأسماء والتواريخ، حتى لو تجاوزنا الكتاب وفكّرنا بزمن أقدم، الإذلال العلني وكسر الكرامة مرافق لتاريخ البشرية (ألا تثير موسوعة العذاب لعبود الشالجي القشعريرة حين تصفحها فقط؟)، وكأن شغفنا بهذه الحكايات قديم قِدَم اللغة التي تتداول "الإذلال" وتدعونا أحياناً للمشاركة به، كحالة المتفرّجين على من يتم ربطهم على "أعمدة التشهير"، لا لتأديبهم فقط بل لنشر فداحة جرمهم، أو كحالتنا نحن حين يقودنا الفضول لمشاهدة ومتابعة الفضائح والإهانات حتى لو لم يكن هناك جمهور يشهد معنا ما حصل.
تستفزّ هبة شريف، مُترجمة كتاب "سياسة الإذلال-مجالات القوة والعجز" اللغةَ العربية لتُحيط بموضوع الكتاب الذي ترجمته، لنرى أنفسنا أمام ما يشبه معجماً مصغراً لـمفردات الإذلال
الرغبة بالفضيحة و إظهار انكسار الضحية أمام "الجمهور" لإذلالها، أداة سياسية وسلطة اجتماعية ووسيلة للربح توظّفها وسائل الإعلام، لكن أيضاً، وهذا ما تعجز عنه اللغة العربية، هناك كلمة ألمانية مثيرة للاهتمام ننقل هنا تعريفها و ترجمته حرفياً chadenfreudeهي اسم، وهي المتعة المكتسبة من "مشاهدة مشاكل الآخرين"، وهي مؤلفة من مقطعين معانيهم "متعة" و"عطب"، المعجم هنا لا يوضح معنى كلمة "مشاكل"، لكن بحث صغير، يشير إلى أن المقصود هو "الذل" و"الفضيحة".
لا تصلح كلمة "شماتة" لوصف ما سبق، فهي "فرح ببلاء يصيب العدو"، والاختلاف واضح، لا عداوة في المعنى الألماني ولا فرح، بل متعة، أي يمكن أن نستمتع بـ"ذل" الغرباء الذين لا يجمعنا معهم شيء، فالمعنى الألماني أشد قسوة من ذاك العربي، خصوصاً أنه يلغي التعاطف، أي أن الأعداء والأصدقاء، الغرباء والأقرباء، قادرون على توليد هذا الشعور فينا إن تمت إهانتهم علناً.
تترسّخ قوة الإذلال عبر الجمهور أو وجود آخرين مشاهدين أو مستمعين، خصوصاً أنه سلطة وممارسة اجتماعية قبل أن يكون أداة سياسية، سلطة تبدأ بالإحراج وتنتهي بتهديد الكرامة الإنسانية، المفهوم الذي تتناول الكاتبة تاريخ ظهوره الأوربي والتنويعات عليه، بين كرامة الدولة، كرامة المواطن وكرامة الإنسان التي "تُهدر" دوماً بالرغم من كل الاتفاقيات والقوانين، وهذا ما يتضح في الكتاب.
هل توجد لحظة في التاريخ خالية من الذُلّ؟
"الحكايات" لا تتوقف، وما زالت مستمرة حتى الآن، مهما اختلفت تقنيات الإهانة والتجريس، كأستاذ يذلّ طالبه في الصف، أو زملاء جامعة يذلون صديقاً لهم، أو عنصريين يشتمون أحدهم لاختلافه، محوّلين إياه إلى فُرجة للمارة أو المشاهدين إن كان الأمر مصوّراً، أو شرطي يكسر كرامة أحدهم لأن "تشكيلة وجه المواطن لم تعجبه".
المرعب حين نقرأ تاريخ الإذلال أننا لا نتحدث عن موضوع غامض، فتوثيق ممارسات الإهانة والقهر حاضر دوماً بالأسماء والتواريخ
المثير للاهتمام هو كلمة "تهدر" التي تُذكر في ترجمة الكتاب، وكأن الكرامة كمية محددة يمتلكها كل شخص، لكن، سواء كانت الكرامة كمية أو لا متناهية، هي صفة جوهرية في الجسد الإنساني حسب اتفاقيات حقوق الإنسان، وكلمة تهدر تشير إلى أن الكرامة بُذلت دون جدوى، أي بُذّرت، وكأنها تصلح لوصف السفهاء (السفيه من يصرف بغير طائل أو حساب)، ما يعني أن الكرامة لا تحتمل الإسراف في الصرف أو الإذلال، وهنا المفارقة: لا حد للإذلال، لكن هناك حد للكرامة، ربما هناك لحظة يفقد فيها الفرد "كُل" كرامته، سواء بسبب قوة سياسية أو نتاج سلطة اجتماعية.
أهمية الكرامة تشتد حين الأخذ بعين الاعتبار السياق والجمهور والمساحة العلنية، فالكرامة ليست فقط اتفاقاً سياسياً أو جزءاً من الروح الوطنية، بل شعور داخلي لا يجوز المساس به، ولا يليق بـ"البشر" أن تهدر كرامتهم، فهي شديد الهشاشة، في ذات الوقت، هي طاقة محركة تشعل الثورات.
وهنا يظهر أثرها التعاطفي، فبعكس الشماتة أو الكلمة الألمانية، التعاضد ووقوف الناس "معاً" يعطل أثر الإذلال عوضاً عن ترسيخه، مثلاً، هل يمكن أن نعتبر من سُجن بسبب آرائه "بلا كرامة" أو "مهدور الكرامة" بسبب كلماته، وهذا ما يشير له الكتاب في أهمية التعاضد الاجتماعي والثقافي والتربية لمواجهة سياسات الإذلال، بالطبع هذا ضمن سياق ديمقراطي، لا ضمن دول قمعية لا تأخذ بالأصل كرامة مواطنيها بعين الاعتبار.
الكرامة ليست فقط اتفاقاً سياسياً أو جزءاً من الروح الوطنية، بل شعور داخلي لا يجوز المساس به، ولا يليق بـ"البشر" أن تهدر كرامتهم، فهي شديد الهشاشة، في ذات الوقت، هي طاقة محركة تشعل الثورات
بالرغم مما سبق، نتلمّس في الحكايات والحوادث المذكورة آثار مُتعة منحرفة تولدها مشاهدة "إذلال" الآخرين، قد تكون هذه المتعة سرية الآن، لكن المرعب أن هناك منتجات مخصصة لإشباعها لم تذكر في الكتاب، كسلاسل الفيديو متنوعة الطول التي تعنون بأشهر السقطات على التلفاز، أو أشهر لحظات الحرج والذل الملتقطة على الكاميرا.
وكأن الشعور بـ schadenfreudeشديد الآنية وسريع التلاشي، ولابد من منتج ثقافي من أجل إشباعه أو الحفاظ عليه داخل الجسد لفترة طويلة، منتج مصمم كالبورنو لخلق المتعة من ذلّ الآخرين، وهذا بالضبط المخيف حين الحديث عن الكرامة والحرج والخزي، البيئة التقنية الجديد أباحت لأي أحد، لا فقط أن يمارس "الإذلال" و يشارك به، بل أيضاً أن يصنع منتجات وتسجيلات مخصصة لإشباع المتعة الناتجة عنه، متعة يحركها من لا نعرفهم ولن نعرفهم.
حديقة الكرامة اللامتناهية
يتحرك لدى القارئ سؤال، إن كان "التاريخ" يتدفق على شكل حكايات عن الإذلال، هل من مكان لا تهدر فيه الكرامة الإنسانية؟ يبدو السؤال رومانسياً بل ميتافيزيقياً، إذ لا يوجد فردوس (حديقة مسوّرة) لا تهدر فيها الكرامة أبداً، خصوصاً أن وجود هكذا مساحة محمية، يعني أن هناك "خارجاً" من فيه "أقلّ" ويمكن أن تكون كرامتهم أيضاً أقلّ، هذا الحلم الفانتازي بجنة حقوق الإنسان يبدو عصياً على التحقيق لعطب فينا نحن البشر، ألم يقل الحلاج في شطحة "أذلّ الله آدم بخلقه"؟
هل من مكان لا تهدر فيه الكرامة الإنسانية؟ يبدو السؤال رومانسياً بل ميتافيزيقياً، إذ لا يوجد فردوس (حديقة مسوّرة) لا تهدر فيها الكرامة أبداً
أي مجرد خلقنا كان ذلّاً حتى لو خلق أوّلنا في الفردوس، نتحاذق هنا خارج السياق، كون حكايات الخلق الأولى نفسها تحوي إذلالاً، ألم تخلق حواء "أنقص"؟ ألم يقترح الربّ تحدّياً على قابيل وهابيل، تحدياً يذلّ أحدهم و ويرفع شأن الآخر؟
لا يخفى أن الانتقاص من الكرامة أحياناً واستعراض هشاشتها أسلوبان من أساليب القوة، (ألا يُذل الحبيب أمام محبوبه؟ ألا يُوظف "ذل" الذات لأسباب دينية)، وهنا الغريب بالأمر: توظيف القوى السياسية على مدى التاريخ لتقنيات الإذلال لا يعني أنها خارج الطبيعة البشرية، بل هناك سياقات يوظف فيها الـpowerless هدر كرامتهم لاكتساب قوة ما، قوة قد تكون عمياء، تتلخص بعبارة: "لم أعد أمتلك ما أخسره".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...