أثير جدل تاريخي حول العهدة النبوية التي منحها الرسول لرهبان دير سانت كاترين وأمّنهم فيها على أرواحهم وأموالهم وبيعهم، إذ شكك فيها باحثون قالوا إن الرهبان اختلقوها بعد فترة من وفاة الرسول خوفاً من الحكام المسلمين.
ما هي هذه العهدة؟
توجد عدة صور من العهدة النبوية في مكتبة دير القديسة كاترين. وروى مدير إدارة البحوث والنشر العلمي في الوجه البحري وسيناء في وزارة الآثار عبد الرحيم ريحان أن السلطان العثماني سليم الأول أخذ النسخة الأصلية إلى الآستانة بعد سيطرته على مصر. ولكن رهبان الدير احتفظوا بصور عن هذه العهدة، بعضها منسوخ في كتاب صغير وبعضها على رق غزال. وأشار ريحان لرصيف22 إلى أن كل صورة تختلف عن الأخرى قليلاً، وفي كل منها أخطاء تدل على أن النُسّاخ الذين نسخوها كانوا أعاجم أو عرباً يجهلون قواعد اللغة العربية، إلا أن أصح هذه النسخ وأقدمها ثلاث مكتوبة وتحمل رموز A وB وC، وذلك حسب أقدميتها. وشرح أن النسخة الأولى تعود إلى عهد السلطان العثماني سليمان الثاني سنة "923-974هـ/ 1520-1566م"، والثانية غير مؤرخة وإن كانت قديمة، أما الثالثة فقد عُرفت بالنسخة الطورية وتعود إلى سنة "968هـ/ 1561م".سجال حول صحتها
وحول صحّة هذه العهدة، قال مدير آثار منطقة رأس سدر في جنوب سيناء أسامة صالح إنه لا يستطيع الجزم بها، فالاختلاف في تاريخ هذه الصور التي نُقلت عن الأصل وكذلك في تاريخ الصورة الأصلية التي قيل إنها أعطيت للرهبان عوضاً عن الأصل بواسطة السلطان سليم الأول عام 1517م أدى إلى إنكار بعض الباحثين للعهدة، ومنهم أحمد زكي باشا، سكرتير مجلس النظار الذي ذكر أن رهبان سيناء اختلقوها للاستعانة بها على دفع ظلم الحكام، ودلل على ذلك بعدة نقاط أهمها أن لغة العهدة تختلف عن لغة عصر الرسول، ففيها من التراكيب والألفاظ ما لم يكن مألوفاً في ذلك العصر. وتابع لرصيف22 أن بعض الشهود المذكورين في ذيل هذه العهدة، كأبي هريرة وأبي الدرداء، لم يكونوا قد أسلموا في السنة الثانية للهجرة وهي السنة المؤرخة بها العهدة، فضلاً عن أن مؤرخي الإسلام الذين أحصوا كل قول أو أثر للرسول لم يذكروا هذه العهدة ولم يأتوا بأقل إشارة تدل عليها. ولكن ريحان يشير إلى أنه برغم أهمية الأسباب المذكورة فإنها لا تنفي أصل العهدة وصدورها عن النبي لعدة أسباب، منها أن الرهبان لا يدّعون أن هذه العهدة هي الأصل الذي صدر عن الرسول ولا صورة طبق الأصل، بل يقولون إن الصورة التي بحوزتهم أعطيت لهم بعد أخذ العهدة منهم، كما أن السنة الثانية للهجرة ليست هي التاريخ الأصلي للعهدة، بل إن العهدة تذكر أن الأصل أعطي في السنة الثانية للهجرة. والظاهر أنه ثامن لا ثاني سنة للهجرة وحرّفه النُساخ، ومثل هذا التحريف كثير الاحتمال، لا سيما من النُساخ الأعاجم. ويبيّن ريحان أنه في السنة السابعة للهجرة 628-629م أرسل الرسول كتبه ورسائله إلى كسرى وقيصر والمقوقس نائب الرومان في مصر، ودعاهم فيها إلى الإسلام. ويشير إلى أنه ليس لرسول النبي سوى طريق سيناء المار بالدير، لذا فمن المعقول جداً أن يكون هذا الرسول قد مرّ بدير سيناء ذهاباً وإياباً وأن يكون رهبان سيناء قد احتاطوا لأنفسهم وأرسلوا معه وفداً يطلع النبي على حالهم ويطلب منه العهد تأميناً للطريق وصيانة لديرهم ومصالحهم.رواية رهبان الدير
وروى الراهب في دير سانت كاترين غريغوريوس السينائي أن هنالك رواية شفوية عن حلول نبي الإسلام ضيفاً على رهبان دير طور سيناء (المعروف باسم سانت كاترين) بل وزيارته للأماكن المقدسة في هذه المنطقة مثل جبل موسى. وبرأيه، من الممكن أن يكون الرسول قد منح رهبان الدير العهدة أثناء هذه الزيارة. وأشار لرصيف22 إلى أن حصول رهبان الدير على عهد الأمان تزامن مع حصول مسيحيي بلاد شتى افتتحها العرب آنذاك وخاصة مسيحيي أيلة (أم الرشراش الآن)، وكانت مع البتراء وفاران في نفس المكان الجغرافي كنسياً، فكيف لا يمنح نبي الإسلام عهد أمان لرهبان ونصارى هذا المكان المقدس لا سيما أنهم انقطعوا فيه ليعبدوا الله عز وجل؟ وأضاف أنه ليس أدل على صحة هذه العهدة النبوية من واقع أن عشرات الخلفاء والحكام والسلاطين والولاة المسلمين أكّدوا عليها حين حكموا مصر، وفعل ذلك أيضاً الفقهاء والقضاة الشرعيون المسلمون الذين تولوا زمام الأمور الدينية والفقهية في مصر. وأردف أن قوة هذا الدليل تمكن في أنهم حافظوا على وصايا الرسول بشأن الرهبان ومسيحيي البلاد العربية رغم أنهم كانوا من سلالات حاكمة تعاقبت في أغلب الأحيان على الحكم بإبادة ومحو كل منها لمَن سبقتها وطمس آثارها. وتابع أن قوة هذا الدليل تكمن أيضاً في استحالة أن يضع الخليفة أو الحاكم أو الرهبان أنفسهم تحت طائلة الإعدام بأن يشهدوا على نبي الإسلام شهادة زور وينسبوا إليه ما لم يفعله. وتساءل: لو افترضنا أن أحد الحكام أو الرهبان أو المسيحيين قد دلّس، فهل يعقل أن تقوم بنفس الفعل أجيال منهم منذ قرون خلت دون التعرض حتى إلى المساءلة؟ ولفت غريغوريوس إلى أنه بحوزة دير القديسة كاترينا بالذات مئات المراسيم التي تستند في أحكامها حيال الدير ورهبانه وممتلكاته وشؤونه إلى العهدة النبوية بالدرجة الأولى. وأوضح أن المؤرخين والفقهاء المسلمين كإبن الأثير والبلاذري وابن حزم وابن القيم وغيرهم تناقلوا العهدة النبوية في كتاباتهم، وما كانوا لينقلوها لو كانت منحولة بل كان أجدر بهم التنويه فقط إلى كونها منحولة أو محرفة أو لتجاهلوها أساساً، لافتاً إلي أن العهدة التي بحوزة دير طور سيناء ذكرها المقريزي في كتابه "القول الإبريزي". وأرجع غريغوريوس مسألة الأخطاء اللغوية التي وردت في العهدة إلى أن النُساخ العرب والأعاجم لم يكونوا يجيدون قراءة الخط الكوفي القرآني الذي كتبت به العهدة آنذاك. لذا تنوّعت بعض القراءات لبضع كلمات، ومما يؤكد هذا أيضاً تنوع الأخطاء من نسخة إلى أخرى مما يثبت صحة الأصل. أما مسألة ورود كلمات أعجمية أو خاصة بالديانة المسيحية في بعض العهد النبوية فإن هذا ليس دليلاً يعتد به على عدم صحتها، إذ من المنطقي أن يقوم الطرف المعني بالعهدة بتوضيح بعض التفاصيل لكاتب العهدة كي تكون شمولية بحيث لا يحصل لبس أو يقع ظلم أو تعد جزئي كون العهدة لم تتطرق إلى جزئية أو مسمى معين كقلاية أو صومعة أو إسقيط، لذا كان من حق أهل الكتاب توضيح كل الجزئيات بالمصطلحات المعروفة آنذاك كي تكون العهدة المعطاة جامعة مانعة مما يضمن إحقاق الحق بين الطرفين على الدوام، حسبما أشار راهب الدير. ولفت أيضاً إلى أن عدم ورود كل العهدة المعطاة لأهل الكتاب عند بعض المؤرخين المسلمين ليس دليلاً على زيفها أو عدم وجودها، فقد لا يرى هؤلاء من داع لذكرها لسبب ما، كما أن نصها قد لا يكون متوفراً لهم رغم توفره لدى أهل الكتاب، ومن الممكن أن تكون بعض أو معظم النصوص الأصلية للعهدة قد فُقدت نتيجة الغزوات والحرائق أو الإهمال أو عوامل الزمن أو غيرها. وقال: ليس لدينا أي شك في أن السلطان العثماني سليم الأول قد استحوذ على العهدة الممنوحة لنصارى سيناء كونه كان يجمع كل المتعلقات الخاصة بالرسول ويستودعها الباب العالي للتبرك بها، وما يؤكد ما فعله بهذه العهدة بالذات أنه هو ومَن خلفه قاموا باستنساخ عدد لا بأس به من النسخ عن الأصل باللغتين العربية وبالترجمة التركية العثمانية، وأن جميع هذه النسخ ممهورة بتوقيع وختم القضاة الشرعيين في القاهرة على اعتبار أنها نسخ طبق الأصل كما يرد بجوار الختم. علماً أن هذه النسخ كانت بالفعل تؤدي نفس الغرض كلما لجأ الرهبان للاستعانة بها في قضية من القضايا ولم يكن أي من الخلفاء أو الولاة أو الفقهاء يعترض أو يطعن عليها البتة، بل في أحيان كثيرة كان الرهبان يستخدمونها كما نستخدم جواز السفر أو الإعفاء الضريبي والجمركي اليوم بكل أشكاله كلما تنقلوا وزاولوا نشاطاتهم في سائر الدول الإسلامية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...