شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لاهوت التحرير... تجربة مفتقَدة في العالمين العربي والإسلامي

لاهوت التحرير... تجربة مفتقَدة في العالمين العربي والإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 29 أكتوبر 202111:40 ص

في تجربة لاهوت التحرير، وهي واحدة من أبرز تجارب الإصلاح الديني، بدأت في أمريكا اللاتينية الكاثوليكية، أعاد رواد هذا التيار قراءة الدين قراءة ثورية، وربطوه بالاشتراكية عموماً، وبالأفكار ذات النزعة الماركسية.

أما العالم العربي والإسلامي، وبشكل عام، فلم ينجح سوى في إفراز نماذج متطرفة من الدين، وتيارات لا ترى في التفاوت الاجتماعي الحادّ أي عيب.

ما هو لاهوت التحرير؟

بحسب الأب وليم سيدهم، في كتابه "لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية/ نشأته، تطوره، مضمونه"، ظهر لاهوت التحرير لأول مرة في البيرو، عام 1968.

ومصطلح اللاهوت، بحسب القديس توما الإكويني، يعني "العلم الذي يبحث في جميع المواضيع من وجهة نظر الله، سواء أكانت هذه المواضيع الله نفسه، أم تفترض وجود الله كمبدأ وغاية".

أما "لاهوت التحرير"، فهو هو تيار ديني اجتماعي كاثوليكي ظهر في أمريكا اللاتينية تحديداً، آواخر ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته، وربط بين الدين والاشتراكية، متوسلاً بمنهجيات العلوم الإنسانية، وكذا بالماركسية.

يُعتبر عام 1930 تاريخاً لدخول أمريكا اللاتينية عصر التصنيع بالكامل، وهو عصر كانت قد بدأت بولوجه في القرن التاسع عشر، خصوصاً في كل من المكسيك، البرازيل، الأرجنيتين، الأورغواي، تشليي وكولومبيا. وأدى التصنيع إلى تحلل الأوليغارشيات القديمة، أي الأقليات المتكوّنة من أصحاب الإقطاعات الزراعية التي تعتمد على التصدير أساساً في جني الأرباح، وحلّت مكانها برجوازية صناعية وطنية قوية.

كانت هذه البرجوازية الجديدة ذات توجهات ليبرالية، وعُرفت في أدبيات التحليل في أمريكا اللاتينية بـ"ديزاروليسْتا" Desarrollista، أي "التطوّريين" الذين اعتبروا أن على الدول الطَرَفية أن تتبنى سياسات تعزّز التصنيع لكي تنجح في تحقيق التنمية، ولفك الارتباط بالدول المتطورة التي تريدها أن تبقى زراعية ومستوردة للصناعات، ولكن دون التفكير في الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذه الخطوة.

وترتب على ذلك اتساع الطبقة المتوسطة، ظهور الدولة الديمقراطية، وبروز حركة عمالية أكثر تنظيماً ووعياً.

هذه التطورات أو لنَقُل التناقضات ألقت بظلالها الكثيفة على الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية التي كانت مرتبطة بالأوليغارشية القديمة (الإقطاع الزراعي)، ثم ارتبطت منذ الثلاثينيات بالبرجوازية الصناعية الجديدة، فظهر ما عُرف باللاهوت التنموي ولكن بقي العداء للاشتراكية، حتى بين التنويريين الجدد، كما ظهر تيار المسيحية التقدمية الذي تأثر ببعض مفكري الغرب مثل جاك ماريتان، وعمانوئيل مونييه.

في المجمع الفاتيكاني الثاني في الفترة من 1962حتى 1965، تكوّن جنين لاهوت التحرير، وذلك إثر انتصار الثورة الكوبية عام 1959، وظهور الثائر الأممي تشي غيفارا، وما صاحب ذلك من جملة أزمات مجتمعية في دول القارة اللاتينية، بسبب آلة القمع التي مارستها "دول الأمن الوطني" المنقلبة على الديمقراطيات، والنهب الإمبريالي لخيرات الشعوب، عبر الطبقات المحلية (رأسمالية الوكلاء أو الكمبرادور).

في ظل تلك الظروف، بدأ ظهور لاهوت التحرير، وبدأت تظهر قراءات مغايرة للمسيحية والإنجيل، فنشأ تيار ارتبط بالقاعدة الشعبية الفقيرة للكنيسة، ووظّف العلوم الإنسانية والماركسية في بناء تأويلاته اللاهوتية. "اقترَحوا نمطاً جديداً من التبشير بالإنجيل مبنياً على تكوين لاهوتي جديد، يكون أكثر انتقاداً للواقع، وأكثر التزاماً به، يختلف عن اللاهوت المدرسي التقليدي الجديد، الذين تكونوا هم أنفسهم عليه"، بحسب سيدهم.

ظهر لاهوتيو التحرير في عدة دول لاتينية، وتأثروا بالتجربة الكوبية، وكان من أبرزهم كاميلو توريز، وهو راهب كولومبي درس علم الاجتماع وشارك في حرب العصابات وقُتل عام 1966، وغوستافو غوتيريز من البيرو، ويُعَدّ أبا لاهوت التحرير، ونشر كتابه لاهوت التحرير عام 1971.

تجارب اليسار الإسلامي

يُعَدّ اليسار الإسلامي واحداً من الاتجاهات السياسية المعاصرة التي حاولت أن تقدّم رؤية للإسلام من منظور ثوري ينحاز إلى الطبقات الشعبية والطبقات المستضعفة.

ويختلف اليسار الإسلامي عن لاهوت التحرير في أن الثاني تحوّل إلى تيار شعبي جارف، في حين بقي هو نخبوياً، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه قد يكون تبدد أو شبه تبدد.

هل يمكن ظهور يسار إسلامي يستند على جذور شعبية قوية وتكون له قاعدة جماهيرية واسعة، بحيث يحقق نقلة ثورية في الإصلاح الديني البائس في مجتمعاتنا؟

يرى الشيخ خليل عبد الكريم، وهو مصري انضمّ إلى حزب التجمع اليساري، في كتابه "الأسس الفكرية لليسار الإسلامي"، أن اليسار الإسلامي يقوم على عدة اعتبارات هي: تاريخية النصوص المقدسة؛ كل مَن نطق بالشهادتين مسلم؛ مدنية ودنيوية منصب الخلافة؛ تفكيك التراث وإعادة فهمه وفق المناهج الحديثة؛ الانفتاح على ثقافات الآخرين وتجاربهم وبالتالي رفض مقولة الغزو الفكري؛ الانفتاح على العلوم الحديثة وتوظيفها في فهم النصوص المقدسة؛ خطأ الوقوف عند حَرفية القرآن لأنه مليء بالمجازات والرموز والكنايات؛ الدين ثورة ضد العقائد الفاسدة والأوضاع المتردية؛ الشعب هو مصدر السلطات جميعها؛ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

وظهر اليسار الإسلامي في دول عربية وإسلامية مثل مصر، وإيران، والسوادن، وتونس.

ففي إيران، ظهرت جماعة الاشتراكيين الذين يخشون الله، والتي أسسها محمد تقي شريعتي، والد المفكر الإيراني علي شريعتي، ثم ظهرت قبيل الثورة الإيرانية حركة "مجاهدي خلق" (مجاهدي الشعب).

وفي مصر تبنّت مجموعة في حزب التجمع فكرة اليسار الإسلامي، وأهم رموزه المفكر الدكتور حسن حنفي، والشيخ خليل عبد الكريم. وفي تونس ظهر ما يعُرف بالإسلاميين التقدميين، وفي السودان ظهر حزب الإخوان الجمهوريين الذي تزعّمه المهندس محمود محمد طه، والحزب الاشتراكي الإسلامي الذي يمثله بابكر كرار.

التجربة المصرية

حاولت مصر تطبيق النموذج الاشتراكي في الحقبة الناصرية، ولكن برأي العديد من الباحثين والمحلليين الماركسيين، كانت تجربتها لا علاقة لها بالاشتراكية، بل هي رأسمالية دولة، كا يقول سمير أمين في كتابه "حول الناصرية والشيوعية المصرية" (كتبه باسم مستعار هو حسن رياض)، ومحمود حسين في "الصراع الطبقي في مصر 1945-1970".

وكانت هناك رؤية سطحية حاولت أنْ تقدمها الأيديولوجية الناصرية لربط الإسلام بالاشتراكية من خلال قراءة ميكانيكية وعاطفية للظاهرة الدينية، وتسطيح الفكرة الاشتراكية، وفي مسعى لسحب البساط من تحت أقدام الإخوان المسلمين.

يُعَدّ اليسار الإسلامي واحداً من الاتجاهات السياسية المعاصرة التي حاولت أن تقدّم رؤية للإسلام من منظور ثوري ينحاز إلى الطبقات الشعبية والطبقات المستضعفة

وتجلّى ذلك في خطاب لعبد الناصر بتاريخ 22 تموز/ يوليو 1961، قال فيه إن "الدولة التي أقامها الإسلام والتي أقامها محمد عليه الصلاة والسلام كانت أول دولة اشتراكية"، وإن أبا بكر وعمر "سارا في طريق الاشتراكية"، وإن "محمد النبي أول مَن طبّق سياسة التأميم"، و"قاموا في أيام عمر وأمموا الأرض، ووزعوا الأرض على جميع الفلاحين".

وفي السبيعنات، تزامن التأسيس الثالث للحركة الشيوعية مع صعود الحركة الإسلامية. وارتبطت الحركة الإسلامية منذ البداية بمصالح سلطة أنور السادات لضرب اليسار الماركسي والناصري، وهو ما تكشفه عدة كتب من بينها مذكرات محمد عثمان إسماعيل الذي كان مسؤولاً للوجه القبلي في الاتحاد الاشتراكي، والذي طلب منه السادات تأسيس جماعة إسلامية عُرفتْ بشباب محمد، حسبما يكشف غالي شكري في كتابه "الثورة المضادة في مصر".

ما شهدته السبعينيات من توترات اقتصادية واجتماعية وطائفية أيضاً، ومن مظاهر الاستقطاب بين العلمانيين والإسلاميين، ساهم في بروز ظاهرة اليسار الإسلامي، وكان أبرز ممثليها أستاذ الفلسفة حسن حنفي والشيخ خليل عبد الكريم.

كان كتاب "من العقيدة إلى الثورة" لحنفي الكتاب الأكثر تعبيراً عن رؤيته ومحاولته ربط الإسلام بالاشتراكية، فهو حسب د. حمدي عبد المجيد الشريف، في كتابه "الدين والثورة بين لاهوت التحرير الميسحي واليسار الإسلامي": "أراد تحويل العقيدة إلى ثورة، أي تأويل العقائد، بحيث تتحول لطاقة ثورية تمد المسلمين المعاصرين بالدافع نحو التحرر".

مشروع حسن حنفي الفكري ومحاولة بناء جسور بين الإسلام والاشتراكية جاءت في سياق: صعود الحركات الإسلامية في السبيعينات؛ الانفتاح الاقتصادي وبداية التحولات الجذرية في بنية المجتمع المصري؛ الأزمة العميقة لحركات التحرر الوطني في مصر والعالم العربي والإسلامي؛ وبداية الحراك الثوري الذي أطاح بسلطة الشاه في إيران عام 1979.

كانت هناك رؤية سطحية حاولت أنْ تقدمها الأيديولوجية الناصرية لربط الإسلام بالاشتراكية من خلال قراءة ميكانيكية وعاطفية للظاهرة الدينية، وتسطيح الفكرة الاشتراكية، وفي مسعى لسحب البساط من تحت أقدام الإخوان المسلمين

هذه العوامل لم تكن جذرية كما في أمريكا اللاتينية، وتعرّض اليسار الإسلامي للنقد من قبل الماركسيين والإسلاميين على السواء. فعلى سبيل المثال، خصص الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "نقد الفكر الديني" فصلاً كاملاً عن اليسار الإسلامي بعنوان: "التراث بين التأويل والتلوين: قراءة في مشروع اليسار الإسلامي".

التجربة السودانية

في السودان لدينا تجربتان تنتميان إلى تيار اليسار الإسلامي، الأولى هي تجربة الحزب الاشتراكي الإسلامي، والثانية هي الحزب الجمهوري (الإخوان الجمهوريون).

بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الإسلامي، يرى الدكتور صبري محمد خليل، أستاذ فلسفة القيم الإسلامية في جامعة الخرطوم، أنَّ الحزب حدد أسسه الفكرية من خلال ثلاثية: الإسلام والقومية والاشتراكية.

ولخّص خليل خصائص الحزب في: نبذ الطرح الذرائعي والتبريري والاعتذاري والطائفي للدين؛ اعتبار أن الدين حاجة إنسانية وأنه يستمد أهميته وفاعليته من فطرة الإنسان؛ إزالة الحواجر الطائفية؛ وفتح باب الاجتهاد.

كان بابكر كرار، مؤسس هذا التيار عضواً في الحزب الشيوعي، ثم تركه ليؤسس حركة التحرير الإسلامي عام 1949، ثم انفصل وأسس الجماعة الإسلامية عام 1954، والتي تأسس من خلالها الحزب الاشتراكي الإسلامي عام 1964، وكان على خلاف حاد مع الإخوان المسلمين ونهجهم، وناقداً للنظام الرأسمالي ولنظام جعفر النميري، ما اضطره إلى مغادرة البلاد ثم العودة عام 1978، بعد المصالحة الوطنية، وقبيل وفاته عام 1981.

كان كتاب "من العقيدة إلى الثورة" لحنفي الكتاب الأكثر تعبيراً عن رؤيته ومحاولته ربط الإسلام بالاشتراكية، فهو "أراد تحويل العقيدة إلى ثورة، أي تأويل العقائد، بحيث تتحول لطاقة ثورية تمد المسلمين المعاصرين بالدافع نحو التحرر"

كان الطابع الإسلامي يغلب بشكل كبير على رؤية الحزب وخطه من خلال أطروحات مؤسسه ومفكره، وهو ما حدا بالدكتور صبري محمد خليل إلى توجيه انتقادات له من قبيل: ضعف الفكر الاشتراكي العلمي، ضعف وعي التيار بضرورة توطيد الديمقراطية وحكم القانون.

أما التجربة الثانية في السودان فكانت تجربة محمود محمد طه، وهي تجربة مهمة وثرية في ما يتعلق بتثوير وتحديث الإسلام. وبحسب الباحث الفلسطيني سامي الذيب، في كتابه "محمود محمد طه بين القرآن المكي والقرآن المدني"، كان منطلق طه الأساسي هو أنًّ القرآن المدني كان مؤقتاً، ولا يمكن العمل به في عصرنا، لذا ينبغي الرجوع إلى العمل بالقرآن المكي الذي عدّه طه أكثر تسامحاً وقبولاً للاختلاف.

طرح محمود محمد طه المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الميراث، وقال إن الحجاب ليس بفريضة على المرأة، وتحدث عن بطلان فكرة الجهاد، وهي أفكار راح ضحيتها، إذ أعدم عام 1985.

خلاصة

فشل اليسار الإسلامي في التحول إلى تيار جماهيري واسع، كالتيارات الإسلامية التقليدية، ويمكن إرجاع ذلك إلى أزمة عميقة في المجتمعات الطَرَفية، وضعف بنيتها الصناعية، ما حال دون تجذر أفكار أكثر حداثية تستطيع أن تواكب التطور.

أيضاً، فإن ضعف الحوامل الاجتماعية التي تمتلك مصلحة في التغيير الثوري، جعل المجتمعات العربية عرضة لاختراقات الأفكار الرجعية التي تقف عقبة أمام تقبل أي أفكار مغايرة للموروث في ثقافتنا، وهي نفس المشكلة التي يعاني منها اليسار العلماني.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن ظهور يسار إسلامي يستند على جذور شعبية قوية وتكون له قاعدة جماهيرية واسعة، بحيث يحقق نقلة ثورية في الإصلاح الديني البائس في مجتمعاتنا؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image