كان يوماً غير اعتيادي، في صيف 1998، في الليلة التي توجهت أنظار العالم فيها نحو فرنسا. أمسيةٌ حافلة بكل ما فيها من استعراضات موسيقية، وابتهالات غنائية، ولا صوت يعلو فوق صوت ريكي مارتين، في أرضية ملعبStade de France، حيث يردد الآلاف أغنيته الشهيرةLa Copa de la Vida.
وبينما يصل إلى ذروته، في المقطع القائل go go go alle alle alle، ركض والداي مسرعَين، ليس لمشاهدة باكورة مباريات المونديال، وإنما سعياً لإنقاذي، إذ كنت طفلاً شقياً، يراقص العملة المعدنية العريضة من فئة الليرة، والتي تهدّج بسببها صوتي، وأُغلق مجراي التنفسي، وصرت حانقاً أبحث بشعور الجائع بعد حين من الحرمان، وراء لُقيمة، لكنّي كنت أسعى بشعور الفطرة وراء نفسٍ يتجاوز قطر الليرة التي ابتلعتها. نصف ميت صرت، ونصف حي. لعلّها كانت لحظة تنبّئية بما قد يجري لمعظم شبان هذي البلاد، بعد أعوام ليست بعيدةً، خلال الأعوام المقبلة، حين تحولوا إلى أنصاف بشر، بحقوقهم المستحقة، أو لربما كانت رسالة ضمنية من القدر، ولكنها جاءت عبر طفلٍ عادي، وليس عبر رسول مبشرٍ، ولا منذر!
لعلّها كانت لحظة تنبّئية بما قد يجري لمعظم شبان هذي البلاد، بعد أعوام ليست بعيدةً، خلال الأعوام المقبلة، حين تحولوا إلى أنصاف بشر، بحقوقهم المستحقة، أو لربما كانت رسالة ضمنية من القدر، ولكنها جاءت عبر طفلٍ عادي، وليس عبر رسول مبشرٍ، ولا منذر!
نقودٌ تسدُّ النفس لا الرمق!
ضجيجٌ صوتيٌ هائلٌ في الحي الذي أقطنه، بفعل مكبرات الصوت القديمة، "البفلات"، التي اكتسى الشارع بها، وضجيجٌ بصريٌ غطّته أعلام الدول التي تشارك في المونديال، و"الشاطر" الذي لن يُفوّت صافرة بداية "المهرجان العالمي". تكدّست السيارات على أطراف الشارع، وشاحت الأنظار نحو أجهزة التلفزة اليابانية "المنتفخة الظهر"، في ما بدا وكأنه "نفيرٌ عامٌ صامت"، اخترقه صوت والدي الذي طالب إحدى مجموعات التشجيع في الحي، بإفساح الطريق له، ليسعف بنفسه نجله المختنق، ويصيح في الأثناء: "ما رح أنطر الإسعاف... بِموت الولد". حملني جثّةً هامدة إلى أحد مشافي دمشق، يجولُ في خاطره أنه ماذا إن أسعفته، ولم يسعفني الوقت؟ هل سأصلُ في الوقت المناسب؟ ترى كم سيستغرق الطريق نحو المستشفى؟ كم سيصبر الطفل الصغير؟ هل سيقوى على الزمن؟
يخبرني والدي أنه نجح في الوصول إلى المستشفى في وقت قياسي، وفيما كانت صافرة الحكم تعطي إشارة انطلاق المباراة الافتتاحية للمونديال، بين منتخبَي البرازيل وإسكتلندا، رُميتُ في ملعب الأطباء، من دون صافرة صاخبة، ومع الأماني والدعاء، بنجاة الطفل الذي فقد وعيه، بسبب ليرة قديمة!
الليرة الواحدة تفضح، وصاحب الملايين طليق
يروحان ويجيئان، ويضربان أخماسهما بأسداس، ويطالعان الساعة ألف مرة في الدقيقة: متى سيخرج من ينبئنا؟ كانا قد أضحيا بعيدَين عن منطق التفكير في ما قد يحدث فعلاً. ثمة خبر واحد كانا ينتظرانه. جملة واحدة تروي عطش انتظارهما: "الحمد لله على سلامته... أجت سليمة"، لكن هل ستأتي فعلاً؟
لم يبرحا مكانيهما وقتاً طويلاً، وقوفاً وجلوساً وانحناءً، وفيما تسود السكينة أرجاء مستشفى، هزّها صوتٌ غير منتظر؛ الهدف الأول لمنتخب البرازيل، والمعلّق يصيح بأعلى صوته: "غووووول"، ويستطرد: هدف ولا في الأحلام. في الأثناء، خرج الطبيب مبشِّراً، ليس بهدف، وإنما بنجاة الطفل، ليعلو صوت الفرح، وتتبدد الملامح الحزينة. يا له من هدف غالٍ في غرفة الأطباء، عاش الطفل مجدداً، وفي تصريح العتاب الأول من الطبيب المشرف لوالديّ: "كيف غفلتوا عنو؟!".
أمسك مستعرضاً الصورة الشعاعية، وامتزجت ابتسامته مع تساؤلٍ تهكمي اعتلته نظرة استنكار، وقال: "الولد بلع ليرة، وبينت بالصورة... غيرو عم يبلع ملايين، وولا مين شاف أو عرف"!
يخبرني والدي أنه نجح في الوصول إلى المستشفى في وقت قياسي، وفيما كانت صافرة الحكم تعطي إشارة انطلاق المباراة الافتتاحية للمونديال، بين منتخبَي البرازيل وإسكتلندا، رُميتُ في ملعب الأطباء، من دون صافرة صاخبة، ومع الأماني والدعاء، بنجاة الطفل الذي فقد وعيه، بسبب ليرة قديمة!
ماذا لو بقي المقص للطبيب فحسب، دون الرقيب؟
أيامٌ تلت الحادثة، التي اختصرت سنين من عمرِ والدي، بفعل قلق ليلة واحدة. لكن ثمة نبأ أضحى حديث الساعة في دمشق آنذاك؛ فضيحة اختلاس بطلها أحد أطباء المستشفى ذاته الذي شهد قصة الطفل الناجي. وفي تفاصيل التحقيق الذي نُشر في إحدى الصحف الرسمية، فإن الطبيب الذي أشرف على عملية الإنقاذ السالفة الذكر، لعب الدور المحوري في كشف القصة. لعلّه خبر عاديٌ للسامعين، ممن لا تربطهم بذلك المستشفى قصة أو ذكرى، إلا أن أحداً ممن عرف قصتي، وسمع الخبر، علّق بطريقة ساخرة بالقول: "يبدو كل مين بِفوت على هاي المشفى ببين أديش بالع". تعليقٌ وإن بدا قاسياً لذكرى صعبة، إلا أنه شبّه حال البلاد بمستشفى، ولعلّه أكمل حديثه في نفسه: ليت حالة تلك المستشفى تنتشر في عموم البلاد، فلا سارقاً يمر، ولا مختلساً يمضي. إلا أن ما ينقص مراده ليتحقق، هو طبيب بمثابة صحافي، وكاميرا ليست من نوع طبقي محوري، أو رنين مغناطيسي فحسب، وإنما تلك التي لا تحتاج إلى موافقات، ولا تسير في دوائر البيروقراطية، وإلغاء لدور مقص الرقيب، فمكان المقصّات في غرف الأطباء، وورش الخياطة، لكنّه حلمٌ صعب المنال، فليس في كل ليلة مونديال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...