شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
لماذا دخلت، أنا الحمصي، إلى مقبرة ألمانية؟

لماذا دخلت، أنا الحمصي، إلى مقبرة ألمانية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 21 أكتوبر 202104:09 م

لحظات مرّت، قبل أن أتّخذ قراري بالدخول. لماذا أدخل إلى مقبرة ألمانية من الفترة البروسية؟ الدخول يحتاج إلى قرار يسبقه الكثير من التفكير غير المنطقي، ثم الوصول إلى قرار يبدو منطقياً. كنت "غير الأبيض" الوحيد، في تلك المقبرة الجميلة. الناظر من بعيد، لن يفهم ماذا كنت أفعل، وحتى الناظر من قريب لم يكن ليفهم.

أتجول بين القبور الرخامية، وأقرأ أسماء الموتى، وأحاول تخيّل قصصهم. فهيرمان، وزوجته، وابنهما، وحفيدهما، يعيشون موتى في قبر قديم يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر. ربما يتناولون عشاءً كثير البطاطا، وبعضاً من النبيذ الأحمر. نظروا إليّ بابتسامة لطيفة، فالموتى لطفاء، حتى وإن ماتوا أشراراً. سألتهم: أين ذاك القبر؟ أشار الابن إلى جهة الشرق. شكرته وتابعت المسير بين القبور اللطيفة.

أحد القبور القديمة كانت ضخامته تشير إلى أن أصحابه كانوا أغنياء، أو نبلاء. أب وزوجته، وابنهم الذي مات بعمر الست سنوات، وشقيق الميت، وزوجته، وبضعة أطفال. لم أحدّثهم، فقد كانوا مشغولين بأمور مزارعهم، وحرّاسهم، ومالهم، وجنودهم. في الطريق للبحث عن ذلك القبر المحدد، وجدت قبراً لرجلٍ مات وحيداً، من دون تاريخ ميلادٍ، أو وفاة.

"مرحباً"، بلهجتي الحمصية. فالأموات يفهمون اللغات واللهجات كلها، ويجيبون بلغتك ولهجتك نفسها، كأنهم من حارتك ذاتها. "عما تبحث؟"، سألني الرجل الوحيد. "أبحث عن قبر جدي الذي أحمل اسمه". ابتسم وقال: "أظنّك تبحث عن قبر كارل هاينز، فهو ينتظرك منذ زمن طويل"

"مرحباً"، بلهجتي الحمصية. فالأموات يفهمون اللغات واللهجات كلها، ويجيبون بلغتك ولهجتك نفسها، كأنهم من حارتك ذاتها. "عما تبحث؟"، سألني الرجل الوحيد. "أبحث عن قبر جدي الذي أحمل اسمه". ابتسم وقال: "أظنّك تبحث عن قبر كارل هاينز، فهو ينتظرك منذ زمن طويل".

أسرعت الخطى باحثاً عن كارل هاينز، مع أني لا أعرف كنيته. حاولت أن أجد قبراً آخر يحمل تاريخ مولدي، سواءً كيوم ميلادٍ، أو كيوم وفاة، فلم أجد. استمر البحث عن كارل هاينز، فالقرار كان واضحاً: سأجعل قبر كارل هاينز قبراً لجدي الذي توفي وأنا بعيد عن حمص.

أمهات أصدقائي لهن قبورٌ جميلة، تناسب جمال حب أولادهن لهن، فأستطيع زيارتهن في قبورهن، وهن أحياء. وجدت قبر رجل اسمه كارل، مع زوجته، فكان من حظه أن أجعله قبراً لصديق لي مع زوجته التي لم ألتقِ بها، لأنهما تزوجا بعد سفري. صديقي وزوجته أحياء، وأصغر مني سناً، ولكن قراري كان أن أهدي إلى كل شخص أعرفه، وأحبه، قبراً جميلاً عتيقاً، فالحياة التافهة علمتني أني لن أرى من فقدتهم كلهم عبر المسافات. فحين أريد زيارته، أذهب إلى قبره البديل في برلين، عاصمة كل بديل.

كارل هاينز ما زال مختبئاً، فهو يعرف أني سأحضر اسماً جديداً لقبره، هو اسمي أنا.

أمهات أصدقائي لهن قبورٌ جميلة، تناسب جمال حب أولادهن لهن، فأستطيع زيارتهن في قبورهن، وهن أحياء.

لماذا كل هذه القبور محفوظةٌ؟ هذا الرجل القليل الظرافة الذي توفي عام 1885، لماذا له قبر جميل؟ من يزوره؟ من يذكر اسمه؟ الأكيد أن لا أحد يزوره، وربما لم يزره أحد حين كان حياً. أولاده ماتوا، وأحفاده ماتوا، فمن سيذكره غيري؟ لماذا ندفن الموتى، ونؤرخ أسماءهم، في حين أن من عرفوهم ماتوا كلهم! من هذه الكاتارينا؟ لماذا اسمها محفوظ؟ لا أفهم الفائدة من ذلك. المقبرة جميلة مليئة برخام قليل الوجود في عمارات هذا البلد.

نحن الذين لا وطن لنا، نحتاج قبوراً جميلة لأحبائنا كلهم؛ لزوجاتنا وأزواجنا، لطلقائنا وطليقاتنا، لأجدادنا وجداتنا. هذه القبور، حتى وهي فارغة، أو تحمل اسماً هانزياً، أصبحت أوطاننا الجديدة، هنا، بعيداً عن البحر المتوسط صاحب الحكمة المطلقة كلها، في أرضٍ لا يوجد فيها قبر لجدي، أو قبر لأم صديقي، أو قبر لكل صديقٍ فقد صديقاً بلا وطن.

على أحد المقاعد كان ذو شعرٍ أبيض جالساً، ينظر إلى قبرٍ أمامه. نظر إليّ، ولم نتبادل التحية، فكلانا مشغول بالحديث مع الموتى. للحظة أردت سؤاله عن ذلك القبر، وأنا المتطفل ذو فضول طفلٍ يحب لمس كل شيء بسبابته، لكني امتنعت. هل هي حبيبته؟ أمه؟ جدّه؟ خذلني فضولي لإحساسي بالخجل من اقتحام خلوته مع ذلك المَيِّت اللطيف الذي غادر، وترك هذا الرجل وحيداً.

نحن الذين لا وطن لنا، نحتاج قبوراً جميلة لأحبائنا كلهم؛ لزوجاتنا وأزواجنا، لطلقائنا وطليقاتنا، لأجدادنا وجداتنا. هذه القبور، حتى وهي فارغة، أو تحمل اسماً هانزياً، أصبحت أوطاننا الجديدة

لأكسر خجلي، بدأت أطلق نكاتٍ تضحكني، ساخراً من البشر. حين أموت، لماذا سأقلق على من سيتذكر اسمي وأفعالي. حتى ونحن أموات، نقلق على سمعتنا، ونخاف من أن نكون وليمة لنميمة على جلسة قهوة في أحد الصباحات الرمادية.

استمريت بالنقاش معي، مدّةً لا بأس بها. لم أخرج بنتيجة. مشيت، ومشيت، حتى وجدته. وجدت كارل هاينز في انتظاري. كان لطيفاً إذ ترك بيته، وقدّمه لي، ليكون قبراً لجدي الذي أحمل اسمه...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard