شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"المشاهد كلها متكررة"... سكّان "خط التماس" بين ذكريات الحرب واشتباكات الحاضر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 19 أكتوبر 202112:00 ص

كانت لور (73 عاماً) خارج منزلها في عين الرمانة. تقول إنها كانت ترمي النفايات حين بدأت الاشتباكات، وصادفت صديقتها التي أخبرتها بضرورة العودة إلى المنزل. فعادت أدراجها وبقيت مع شقيقها المريض الذي لا يستطيع أن يتحرّك، واختبأت طوال النهار. تقول إنها لا تكترث، وإنهم "كلّهم ميليشيات" وهي تريد فقط أن تعيش حياة طبيعية، تلك التي لم تحظَ بها منذ الطفولة.

ترفص الإفصاح عن اسم عائلتها وعن توجّهاتها السياسية وتأبى أن يظهر وجهها في الصورة. وعند سؤالها عن أسباب رفضها الكشف عن كل هذه التفاصيل، قالت: "بخاف حدا يعرف إني قلت هيك، بركي رجع صار في حرب. وأنا ما فيي أطلع من بيتي".

الخميس، 14 تشرين الأول/ أكتوبر، عاد صوت الرصاص والقذائف ليسيطر على المشهد العام في بيروت، بعد إطلاق النار على تظاهرة لمناصري حركة أمل وحزب الله تطالب بإقالة قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار، وما تلا ذلك من عرض مسلّح وإطلاق الرصاص والقذائق في الهواء وعلى أبنية سكنية في ساحة الطيونة والأحياء المجاورة، من عين الرمانة وفرن الشباك والشياح وطريق صيدا القديمة.

سبعة قتلى سقطوا، بينهم مريم فرحات، الأم التي أودت رصاصة بحياتها حين اقتربت من نافذة منزلها، وهي بانتظار أولادها، والشاب علي إبراهيم الذي قتل وهو يعمل على نقل "طلبية" (دليفري) أثناء مروره في منطقة الطيونة. وفي اليوم التالي، راح أصحاب المحال ينظفون مداخل محالهم، والسكّان ينظّفون أمام مداخل أبنيتهم وأثار التخريب.

ما جرى أعاد إلى سكان المنطقة وإلى كل بيروت ذكريات معارك خطوط التماس، تحديداً بين الشياح وعين الرمانة. أبناء المنطقة تكوّروا على أنفسهم داخل منازلهم. الأهالي ركضوا نحو المدارس لإحضار أولادهم. كثيرون بقوا على قيد الحياة لأن الحظ كان إلى جانبهم ولأن الرصاص والقذائف مرّت بجانبهم وأخطأتهم.

كانت سيلفانا (37 عاماً) في منزلها بمنطقة فرن الشبّاك حين اخترق الرصاص غرفة نومها. ركضت نحو الحمام واختبأت فيه. تقول: "أصبت بحالة شلل تامّة، أولادي في المدرسة، زوجي خارج بيروت وأنا لا أريد أن أموت".

بعد حوالى النصف ساعة، جاءت قريبتها وتوجّهت معها إلى مدرسة أولادها ومن هناك انطلق الجميع نحو جبيل، تضيف: "في المساء، قرأت خبر وفاة مريم، الأم التي كانت بانتظار أطفالها وبكيت كثيراً. فأنا مثلها أم وربّة منزل ولم أستطع أن أتصرّف بطريقة منطقية بعد أن انهال الرصاص فوق رأسي وشعرت أنّي فاشلة لأنّي اختبأت ريثما جاءت قريبتي. في الحقيقة، لم أتصوّر أن أختبر موقفاً كهذا، وما كان يجب أن أختبره".

تقول الباحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام والأستاذة الجامعية ليلى شمس الدين: "حين نصبح داخل الأزمة، نختبر مشاعر واسعة تفرض نفسها علينا. ويتم طرح عدّة أسئلة دون الحصول على أجوبة تقلل من حجم القلق، وبالتالي يلجأ الذين يرضخون لضغط الأزمة إلى سبل حماية تجعلهم يعتقدون أنهم يتحكمون بالحالة التي تحيط بهم، مثل النزوح والعودة إلى البيئة الأولى، أو أي فعل قد يُشعرهم بأنهم سينجون".

اللّعب على خطوط التماس

في منطقة الشياح، عاش عبدالله م. (57 عاماً) أغلب طفولته، بعدما نزح أهله من قريتهم الجنوبية إلى بيروت. هناك، عام 1975، وأثناء شرائه الطعام من مطعم أبو فؤاد الذي كان يبعد 200 متر عن بوسطة عين الرمانة، سمع صوت الرصاص.

يروي لرصيف22: "كنت في مكان مألوف لي، في يوم أحد عادي، وكنت أبلغ من العمر 11 عاماً. سمعت صوت الرصاص وركضت نحو منزل أهلي في الشياح دون أن أجلب الطعام الذي دفعت ثمنه. في تلك الليلة اندلعت الحرب الأهلية".

جلست الشابة دانا، الحامل في شهرها التاسع، لمدّة ثلاث ساعات وهي تسمع أخباراً عن ارتفاع عدد القتلى، وقرأت عن وفاة مريم فرحات في منزلها. والفكرة الوحيدة التي راودتها طوال هذا الوقت، هي: "لا أريد أن أموت برصاصة طائشة داخل منزلي"

الخميس الفائت، تلقّى عبد الله اتصالاً من زوجته تطالبه فيه بالعودة إليها وإلى ابنتهما لأن المعارك بدأت تحت المنزل في منطقة الطيونة. يقول إن المشاعر التي راودته هي نفسها التي راودته في 13 نيسان/ أبريل عام 1975، والفرق الوحيد هذه المرة هو أنه لم يكن شاهداً على الرصاصة الأولى. يقول: "عادت مشاهد الفوضى والرعب، وأعادتني إلى الحرب... عادت صورة الأطفال الخائفين والأفراد المتوتّرين لدرجة عدم قدرتهم على قيادة السيارة. هذه المشاهد كلّها متكرّرة. لم أشعر أن الحرب قادمة، لكنّني استعدت أحداثها، من ناحية الشكل، التحضيرات والقتل والأطراف المشاركة، التي حتى لو اختلفت تسمياتها تبقى هي ذاتها بالمضمون".

الفكرة التي سيطرت على عبد الله وهو أستاذ، طوال الطريق، هي كيفية التعامل مع ابنته البالغة من العمر 13 عاماً وإيجاد أفضل الطرق لتخفيف أثر الأحداث عليها "كي لا تتشكّل لديها حالة قلق قد تستمر في المستقبل"، بحسب قوله.

عن العيش على خط تماس في الماضي واختبار معارك الحاضر، يقول: "أن تعيش على خط تماس يعني أن تعيش ظروف الحرب تماماً كالمقاتلين، أي أن تتصرّف وتتحركّ مثلهم، تؤمّن متطلباتك خلال فترات الهدوء، وتحتمي في فترات المعارك. الهدف اليومي يصير السعي للحفاظ على البقاء. تفتقد جزءاً أساسياً من طفولتك، أو بالأحرى تعيش طفولة مختلفة عن تلك البعيدة عن خطوط التماس. يوجد تأقلم طبعاً لكن حتّى اللعب يصير مختلفاً ومرتبطاً بالظروف. كنا نلعب مع الحرب. لكن بسبب التأقلم لا تشعر أن حياتك مختلفة إلا في مرحلة لاحقة، حين تكتشف أن النمط الذي رسّخته في الطفولة، هو طفولة حرب وخط تماس".

وعن وصفه للتجربة القديمة وعلاقتها بالحاضر المعيوش، يقول: "عشت التاريخ بدلاً من قراءته بسرديات ذاتية. التجربة ليست إيجابية ولا سلبية، لكنّها بهدف البقاء على قيد الحياة، جعلتني أتعلّم تفاصيل ما كنت سأتعلّمها بغيابها. الخميس الماضي، بسبب تجربة الحرب وخط التماس، ولأن الأمور لم تكن واضحة قرّرت البقاء في المنزل مع عائلتي، بدلاً من الخروج إلى المجهول ومحاولة الهرب والتعرّض للرّصاص".

لا يعتبر عبد الله أن العيش على خط تماس في بيروت أثّر على حياته بشكل مباشر، لكنّه كوّن جزءاً كبيراً من شخصيته، واكتسب بسبب فرضه عليه وعلى عائلته قدرة على رؤية المسائل بطريقة مختلفة وأشمل. يشرح: "لم تكن لدينا القدرة المادية للانتقال إلى منزل بعيد عن خط التماس، ووالدي رفض أن يحتل منزلاً هجره أصحابه كما فعل العديد من سكان المدينة، وبالتالي بقينا، وشاهدت مع عائلتي كل المعارك والاجتياح. جزء من وعيي الحالي هو نتاج الأحداث التي عشتها على خط التماس، لكن هذا الجزء لا يحدّد شخصيتي بل يشكّل قسماً منها أنا طوّرته بتصالحي مع كل ما جرى، وعدم نسيان الماضي الذي كثيراً ما أربطه بالحاضر".

"بركي رجعت الحرب؟"

ترى شمس الدين أن مشاهدة أفراد من مجموعة معيّنة يمارسون أفعالاً عنيفة على الأرض تترك عند الآخرين ارتدادات سلبية تجعلهم يكوّنون فكرة مؤكّدة عن الطرف الآخر. تقول: "لسنا مواطنين في وطن موحّد، والغالب هو الأقوى. المجموعات المسلحة هي فارضة سيطرتها، وبالتالي كل من هو خارجها سيحاول أن ينجو بممتلكاته وبروحه، ويبحث عن جهة أخرى تؤمّن له الحماية"، مضيفةً: "هناك شعور بالعجز ومواجهة مع الموت، بالإضافة إلى مشاعر الحقد التي ستطغى".

وعن منشأ هذا الشعور الممزوج بالخوف والتوتر والقلق، تقول إنّه بالإضافة إلى الأحداث الخارجية، فإن "منشأه اجتماعي، يتداخل مع الذاكرة عند الفئات الأكبر سناً الذين اختبروا الحرب الأهلية وحالات الاضطراب التي رافقتها. والجيل الجديد يختبره في فترات متّصلة أو متقاطعة. وهذه المشاعر تحوّلهم جميعاً من جديد إلى ضحايا".

صباح الخميس، أطلّت دانا عقيل (31 عاماً) من شرفة منزلها في بدارو، الشارع المطلّ على الطيونة وأطراف عين الرمانة، لتجد شباباً من حزب القوات اللبنانية يقفون في الشارع بانتظار قدوم التظاهرة المتوجّهة إلى قصر العدل، والتي تضم أنصاراً وأعضاء في حركة أمل وحزب الله. تقول: "شباب حركة أمل وصلوا من على يساري بقمصانهم السود وهم يردّدون ‘سمير جعجع صهيوني’، ومن هذه اللحظة بدأت المشكلة بين الأطراف. في بادئ الأمر لم أعتقد أن الحادثة ستتطوّر إلى معركة، ولم أخف. لكن حين بدأت أسمع صوت الرصاص لم أستوعب الأحداث لأني لم أتعرّض لها في السابق. في ذاكرتي حرب تمّوز (يوليو 2006) لكن لم أختبر يوماً الرصاص وقذائف على هذه المقربة".

تقيم دانا في منزلها المصنوع من واجهات زجاجية مع زوجها منذ ثلاث سنوات. في البدء، لجأت إلى غرفة نومها لتختبئ دون أن تنتبه إلى أنها تواجه عين الرمانة. جلبت خزانة ابنتها التي لم تولد بعد، واستخدمتها متراساً تحتمي خلفه في إحدى الزوايا. تروي: "لم أكن أعلم أن الزاوية التي قرّرت الاحتماء فيها ليست آمنة إلا حين عاد زوجي إلى المنزل وأخبرني أن الرصاصة أو القذيفة بإمكانها أن تخترق الحائط المقابل لعين الرمانة. في النهاية، انتقلت مع الفتاة التي تساعدني في المنزل إلى زاوية أخرى وحين توقّف إطلاق النار هربت من المنزل. في الشارع لا أدري إلى من ينتمي المسلّحون لكنني وجدت نفسي داخل ساحة الحرب".

أكثر ما أخافها هو عدم قدرة أحدهم إلى الوصول إليها. جلست كامرأة حامل بالشهر التاسع ثلاث ساعات وهي تسمع أخباراً عن ارتفاع عدد القتلى، وقرأت عن وفاة مريم في منزلها. والفكرة الوحيدة التي راودتها طوال هذا الوقت، هي: "لا أريد أن أموت برصاصة طائشة داخل منزلي".

"الانسان العاقل إذا تم تخييره بين الحياة والموت يختار الحياة، إلا في لبنان يختارون رموز الموت"

تقول شمس الدين إن لبنان بلد ممسوك وليس متماسكاً، من قبل أطراف مناطقية وجهوية وحزبية. وبالتالي نحن نعيش في مكان هش، يساهم في هشاشته النظام التربوي والمجتمعي والقيمي والمنظومة القائمة، بالإضافة إلى وسائل الإعلام. وتضيف أن الخوف الطائفي والمذهبي مترسّخ بذاكرتنا الاجتماعية وينعكس عند كل حالة توتّر، خاصّة أنه لا يوجد نظام سياسي قادر على فرض نفسه وتعزيز مفهوم المواطنة عند الأفراد.

تتحدث شمس الدين عن تأثير المعركة على الناس، تقول: "توجد خطوط تماس جغرافية وخطوط تماس مجتمعية ونفسية، وعملية إعادة إحياء بلبلة عند الخط نفسه تعيدنا إلى الدائرة الأولى التي خرجنا منها، وتعيد إحياء الوصمة، ومنسوب الخوف يرتفع من الآخر الذي يصير قادراً على اختراق مساحاتنا. هذه الأحداث تغيّر الناس بشكل سلبي فتزيد التعقيدات. وفي ظل وجود فرز قديم في الذاكرة يعود ويظهر خطاب نحن وهم، أو نحن نشبه بعضنا بعضاً. واستناداً إلى ذاكرتنا الجماعية يعود الخوف الكامن فينا إلى الواجهة".

سلطة ميليشيات

في منزله الذي يبعد عشرة أمتار عن طريق صيدا القديمة من جهة عين الرمانة، يجلس الفنان التشكيلي حيدر حيدر ويراقب الشارع. تردّد بشأن إجراء مقابلة في البداية، لكنّه عاد ودعاني للجلوس في شرفته الملأى بلوحاته، وقال: "هذه الأحداث ليست سوى نتيجة تراكمات في ظل غياب الدولة وحكم الميليشيات ونحن فقط الذين نتضرّر. منذ الحرب الأهلية حتى اللحظة العدالة مفقودة، مع الجرحى والقتلى والمفقودين وصولاً إلى انفجار بيروت الذي ينبغي أن نعرف من تسبّب به. منظومة الفساد متماسكة وتقسّم الناس. وما حصل يوم الخميس يدل على انقسام واضح ومحاولات شد عصب ما قبل الانتخابات".

وأضاف: "يقع منزلي على خط تماس تاريخي. من حسن حظّي أن المعركة لم تطلني عكس ما يحصل في العادة، أنا من جيل الحرب، أصدقائي قتلوا ودفعت الثمن غالياً، لديّ رعب من الحرب وآثارها، هذا الرعب استعدته يوم الخميس، وعدت وأدركت أن البلد لا يضمن لي يوم غد. منذ أن ولدت حتى اليوم المأساة تتكرّر، تنتهي أزمة لتبدأ أخرى، والسبب ليس خارجياً بل داخلي تقع مسؤوليته على الحكام والشعب اللبناني الذي ينتخب الميليشيا، وكلّهم ميليشيا".

وختم حيدر: "الانسان العاقل إذا خُيّر بين الحياة والموت يختار الحياة، إلا في لبنان فيختار رموز الموت".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard