تختصر مدينة جرش الأردنية معاني السياحة الثقافية، بأوجهها المتنوعة وتمثلاتها المتعددة، عبر خرائط المكان والزمان، في آن واحد. فالرحلة إلى هذا المقصد الخاصّ المتميز، شمال غرب الأردن على مسافة 48 كيلومتراً من العاصمة عمّان، هي غوصٌ في التاريخ العريق، وتلاحُم مع الآثار الحيّة، وإطلال على الحضارات المتعاقبة، ونبش في التراث المتجذّر، وتفاعل مع الطبيعة المنسجمة، ثرية الألوان والمذاقات.
ومن جانب آخر، فإن الرحلة الواحدة ذاتها، لن تخلو من انفتاح على ثقافات العصر الراهن، وإبداعات الإنسانية في طابعها الفلكلوري، وكذلك في أحدث تجلياتها المبتكرة الطليعية، وذلك من خلال ما يجود به كل عام "مهرجان جرش للثقافة والفنون" من أعمال لافتة، فردية وجماعية، في سائر مجالات الفنون والآداب، التقليدية والمعاصرة والتجريبية، بمشاركة مبدعين من مختلف الأرجاء، تمكّنوا حتى هذه اللحظة من تقديم خمس وثلاثين دورة خصيبة للمهرجان البارز، وضعت اسم جرش في الواجهة بين المدن الفاعلة والمؤثرة في ما يتعلق بالمدّ الإشعاعي التنويري للقوة الناعمة في العالم العربي ككل.
تتيح جرش، أو "جراسا" باليونانية، مجالاً واسعاً لتلاقي التفوّق التاريخي والجغرافي والطبيعي والبشري معاً، في حالةٍ لا تتكرر كثيراً على هذا النحو الفريد، وربما الاستثنائي. فجرش، أو "جرشو" كما أطلق عليها العرب بمعنى "المدينة كثيفة الأشجار"، أو مدينة الألف عمود، كما تشتهر، والتي تعود إلى أكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد، لا تزال محتفظة بشواهدها القديمة جنباً إلى جنب مع مستجداتها كمدينةٍ حديثةٍ يسكنها مئات الآلاف من الأردنيين والوافدين، خصوصاً الفلسطينيين والسوريين، ويعتبرونها من أفضل المدن والأمكنة المحببة للزيارة والإقامة داخل الأردن.
تيح جرش، أو "جراسا" باليونانية، مجالاً واسعاً لتلاقي التفوّق التاريخي والجغرافي والطبيعي والبشري معاً، في حالةٍ لا تتكرر كثيراً على هذا النحو الفريد
يشق المدينة نهر الذهب التاريخي، وكأنه يشير إلى ذلك الالتقاء بين العصور، والتزاوج بين الحضارات والثقافات، وقد بُنيت فوقه الجسور الرومانية للربط بين شرق المدينة وغربها. وتعد جرش من أكثر المدن في العالم، خارج إيطاليا، التي تحافظ على ملامح العمارة الرومانية، كما هي؛ فالشوارع مليئة بالمسارح والقصور والأعمدة والحمّامات والنافورات والساحات والأقواس والأسوار والبوابات، إلى جانب المعابد الشاهقة على رؤوس التلال، وكذلك منشآت العهد الإسلامي من مبانٍ ومساجد وقباب وأسواق ودكاكين وآثار وزخارف.
جرش، القديمة الحديثة، ذات الطبيعة المفتوحة الخلابة والتلال المشجرة والأحواض المائية والمحميّات البريّة والطقس المعتدل الصحو، تكاد تبدو بمستوطناتها الجامعة لعهود اليونان والرومان والبيزنطيين والأمويين والعباسيين والمماليك وغيرهم، بمثابة مملكة أثرية بمزاراتها العتيقة، ولكن هذه المزارات لم تقطع الصلة بحركة الحياة الآنية، وهذا ما تنفرد به المدينة، فالمعالم التاريخية لا يزال لها حضورها واستعمالاتها حتى يومنا هذا.
من ذلك، على سبيل المثال، شارع الأعمدة الذي يبقى هو الشارع الرئيسي في المدينة، ويضم قرابة ألف عمود على امتداد 800 متر، وكذلك "المسرح الجنوبي"، الذي يعد أضخم مسارح مدينة جرش، وقد تم بناؤه في القرن الأول الميلادي، ويتسع لأكثر من خمسة آلاف متفرج، ويراعي في هندسته الصوتية جميع الزوايا، ويعمل في المناسبات الثقافية والفنية الحالية، وعلى رأسها مهرجان جرش، بالقدرة ذاتها التي كان يعمل بها عند تأسيسه، وأيضاً "المسرح الشمالي"، الذي تم تشييده في القرن الثاني الميلادي، ويتسع لقرابة ثلاثة آلاف متفرجٍ، ويحتفظ بحضوره ووهجه حتى هذه اللحظة.
نهضت السياحة الثقافية في جرش على جناحين متكاملين؛ هما: المدينة القديمة بمزاراتها الحيوية النابضة، والمدينة الحديثة بإفرازاتها الإبداعية الجديدة
ومن المعالم الإسلامية الحية المهمة في جرش، المسجد الأموي، الذي يعود إلى القرن الثامن الميلادي، وغيره من المباني والمزارات الدينية الكثيرة.
عُرفت جرش جيّداً، بفضل معطياتها البشرية الواعية الفطنة، بأنه كيف يمكن هذه التوليفة النادرة من معطيات التاريخ والجغرافيا والآثار والحضارات والطبيعة في صناعة الحاضر وتطويره، ليس فقط باسترجاع ما مضى من أرضيات، وإنما بالبناء عليها، وتنميتها، لاسيما في الشأن الثقافي. فنهضت السياحة الثقافية في جرش على جناحين متكاملين؛ هما: المدينة القديمة بمزاراتها الحيوية النابضة، والمدينة الحديثة بإفرازاتها الإبداعية الجديدة، التي يجري ضخها في مسارح المدينة وقاعاتها وساحاتها وأبنيتها الأثرية الشهيرة.
ويعد مهرجان جرش للثقافة والفنون، الذي انعقدت مؤخراً دورته الخامسة والثلاثون (22 أيلول/سبتمبر - 2 تشرين الأول/أكتوبر 2021) تحت شعار "مدينة مزينة بالفرح"، هو الحدث الثقافي/السياحي الأبرز، الذي تنهض عليه التدفقات الإبداعية والجمالية للمدينة في العصر الحديث، بتمظهراتٍ معاصرةٍ، على خلفيةٍ من إشعاعات الماضي، وجذور التراث الأصيل.
ويضم المهرجان نشاطات متشعبة، بحضورٍ محليّ وعربيّ ودوليّ كبير، حيث تحتضن حفلاته وندواته وأمسياته ذات الحضور الجماهيري الحاشد ثيمات وألواناً متنوعة من الفنون والآداب، منها: القصة، والرواية، والشعر الفصيح والعامي والنبطي، والمسرح، والموسيقى، والغناء، والأوبرا، والفنون الحركية والأدائية والجسدية والتشكيلية والبصرية، والمشغولات اليدوية، والحرف التقليدية، وغيرها.
ما يميّز جرش/المهرجان، هو نفسه ما يميّز جرش/المدينة، وهو نبذ التعالي والفوقية والنخبوية، فالجماليات من حق الجميع، والثقافة ليست حكراً على فئةٍ دون أخرى أو جماعة دون غيرها، والفنون هي ملك للشارع الواسع، والعروض الكبيرة هي للهواء الطلق والأمكنة المفتوحة، وليست للغرف المعزولة الضيقة. ومن ثم، فإن اسم جرش قد صار له صدى رنّان لدى أغلبية المواطنين في العالم العربي، حال التحدث عن الحضور الثقافي والفني للمدن المضيئة، وللمهرجانات المسموعة، ما يشكّل نموذجاً يُحتَذى به، لكيف أن تكون للمكان شخصيّة مستقلة، وهويّة منفردة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...