شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"أصبح متاحاً لكل من اشتهاه"... كيف يرى أردنيون "المنسف بالكاسة"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 14 ديسمبر 202001:40 م

"إلا المنسف!"، "إلا هيبة المنسف!"، "المنسف لا يؤكل على عجل"، وغيرها من "التابوهات" التي فرضتها الغيرة الشعبية الأردنية تلك التي "تحرم" المساس بالشكل والمضمون، لأهم وجبة شعبية تشكل رمزاً من أهم الرموز الأردنية لا تقل أهمية عن مدينة "البتراء" ألا وهي وجبة المنسف.

لا يحتاج قراء رصيف22 من العرب، إلى تعريفهم/ن على وجبة المنسف الأردنية، فهي وجبة مرت على خارطة دول العالم وتركت بصمتها في كل مكان، وحجزت مكاناً لسلسلة التعريفات السياحية أو الرمزية أو المتعلقة بالهوية الأردنية، لكن من خلال هذا التقرير، نرمي ضوءاً على وجه جديد ظهر مؤخراً على وجه المنسف، وهو المنسف بـ "الكاسة" (الكأس).

"حتى أحدهم أقسم أن منسفي بالكاسة أطيب من منسف والدته!"

العبارات التي استخدمتها في بداية التقرير، المتعلقة بالممنوعات التي يرفضها الأردنيون/ات للمساس بـ"هيبة" المنسف، هي عبارات حقيقية ودارجة باستمرار، ظهرت على سبيل المثال عندما خرجت بعض مطابخ فنادق الخمسة نجوم قبل فترة بأفكار "مسّت" هيبة المنسف، مثل "شاورما المنسف"، الأمر الذي لاقى رفضاً شعبياً حد الغضب ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي التي نددت بـ "تشويه" منسفهم/ن، لكن بالمقابل عندما ظهرت فكرة المنسف بـ "الكاسة"، لم تلق اعتراضاً عليها، لماذا؟ لأنها سدت ظمأ فقراء لتناول وجبتهم الأساسية، التي تحرمهم الظروف الاقتصادية من تناولها بالوجه الحقيقي المكتمل للمنسف.

نعم، وهو ما سيظهر خلال هذا التقرير في حديث مع أصحاب مطاعم "منسف بالكاسة"، أن وجبة المنسف تعد الطبق الرئيسي في المطبخ الأردني، لا غنى عنها لا في الأفراح ولا في الأتراح ولا على طاولة السفرة يوم الجمعة، لكن في المقابل هي وجبة دسمة في الطعم ودسمة في السعر أيضاً، إذ لا تقل تكلفة "سدر" واحد من المنسف عن 20-30 ديناراً (حوالي 45 دولار)، لما يحتاجها السدر من خبز "شراك"، لبن "جميد"، أرز، مكسرات، وأحياناً بقدونس، والأهم اللحم، أو بالأحرى كميات كبيرة من لحم الخروف حتى يكون السدر في أبهى صورة، تلك التكلفة لا تتناسب مع جيوب عائلات أردنية مرهقة وفقيرة.

الفكرة لم تبدأ من عمّان

في جولة لرصيف22 على منطقة وسط البلد في العاصمة عمّان، حيث مطاعم المنسف بالكاسة، تلك المطاعم التي أكبر مساحة فيها لا تتجاوز الأربعين متراً، تحدثنا مع صاحب فكرة المنسف بالكاسة، وهو محمد داود أبو الطاهر، حيث نشتم رائحة لبن الجميد قبيل الوصول إلى باب مطعمه، ونجد في كاسة كرتون صغيرة أرزاً فوق خبز شراك، ولبناً، ولحماً تزينه المسكرات، كل هذا بدينار واحد فقط بحسب ما قاله أبو الطاهر.

كيف جاءت الفكرة؟ سألت أبو الطاهر، وفاجأني بأن الفكرة لم تبدأ من العاصمة عمّان بل من محافظة جرش شمال الأردن حيث يعيش مع عائلته، وقال: "أنا شخص لديه إدمان على المنسف، وطبيعة عملي الوجود في الميدان وقضاء وقت طويل في السيارة، وكما تعرفين لدينا عادة في الأردن أن نصطحب معنا في جولاتنا في الطريق بالسيارة قهوة، وشاياً، وغيرهما، لكن لم يخطر على بالي أن أصطحب معي في يوم من الأيام وجبة منسف أتناولها في الطريق".

لكن المنسف لا يؤكل على عجل؟ سألت أبو الطاهر، وأجاب: "تماماً، فالمنسف لدى الأردنيين/ات من الممنوع المساس بهيبته، لكن بصدفة ما كانت عائلتي وقبيل خروجي إلى عمل في وقت الظهر تطبخ المنسف، وبصراحة لم أستطع مقاومة الرائحة فطلبت من ابنتي أن تضع لي في كاسة جزءاً من سدر المنسف المطبوخ، حتى لا يبقى في نفسي وحتى أستطيع التركيز في عملي بدلاً من أن أفكر متى سأنتهي وأعود للمنزل وأسد شهيتي لطبقي المفضل".

عندما خرجت بعض مطابخ فنادق الخمسة نجوم قبل فترة بـ "شاورما المنسف"، لاقى الأمر رفضاً شعبياً أردنياً حد الغضب ندد بـ "تشويه" المنسف، لكن بالمقابل عندما ظهرت فكرة "المنسف بكاسة" لم تلق اعتراضاً عليها، لماذا؟

من هنا جاءت فكرة المنسف بالكاسة، كما يضيف أبو الطاهر، ويقول: "وجدت أنها فكرة لطيفة، وسألت نفسي لماذا لا أحولها لمشروع؟ وبالفعل أنشأت أول مطعم بالكاسة في محافظة جرش، وعندما لقيت تجاوباً واسعاً، خصوصاً من الطبقة الفقيرة، قررت فوراً نقلها إلى العاصمة عمّان".

وبالفعل حجز "المنسف بالكاسة" مكاناً لأبو الطاهر، وسحب معه عدوى لمطاعم أخرى في منطقة وسط البلد. وعن تفاصيل ما هو موجود داخل الكأس يقول أبو الطاهر: "ما أقبله على نفسي وما أكون حريصاً عليه عندما أتناول وجبة المنسف بحيث يجب أن تكون مكتملة المذاق، وضعته في كاسات المنسف، فأنا (أكيل) منسف ومثلي كثر، فهذه أكلتنا وهذا تراثنا ويجب أن يكون في أجمل صورة حتى لو في كاسة صغيرة، ففي هذه الكاسة أجود خبز شراك ولبن جميد ولحم ومكسرات، بما فيها الكاجو، وكل ذلك بدينار واحد فقط".

هنا أوقفت الحديث عن الدينار الواحد فقط، وسألت أبو الظاهر كيف "المنسف بالكاسة" سد ظمأ المشتاقين/ات لتذوقه. وأجاب: "صح لسانك، فالقيمة العظمى من فكرة "منسف بالكاسة"، أنها سدت شهوة فقراء لها، بل ساهمت في ردم التفاوت الطبقي، فالغني والفقير في الأردن يستطيع اليوم تناول المنسف، سواء في السدر أو في الكاسة".

ومن المواقف التي تعرض لها بعد إنشائه مطاعم منسف بالكاسة، قال: "لن أنسى وجوه فقيرة متعبة، عندما وقفت أمام مطعمي وبدت علامات الفرح عليها لأن القدر أو الصدفة منحتها فرصة تناول أطيب أكلة شعبية أردنية، لن أنسى أدعية كثيرة ما تزال ترن في أذني".

ماذا سمعت من أدعية؟ سألته، فأجاب: "الله يجبر بخاطرك ابني كان مشتهي ياكل المنسف من زمان، الله يباركلك، الله يعلي مراتبك"، ويختم مازحاً: "حتى أحدهم أقسم أن منسفي بالكاسة أطيب من منسف والدته!".

"المنسف ليس فقط وجبة شعبية أردنية، هو رمز أردني، لكن الفقر حرّم من يشتهيه منه، فوجبة سدر منسف واحد أو وجبة منزلية لا تقل تكلفتها عن 20-30 ديناراً، اليوم من معه 30 ديناراً كي يشتري به منسفاً؟"

"المنسف يؤكل على الواقف"

بعد أن انتهيت من حديثي مع أبو الظاهر، تجولت في نفس الشارع حيث مطعمه، وعدت واشتممت رائحة لبن الجميد، وجعلت الرائحة تقودني إلى مكانها، وعندما وصلت المكان، وجدت رجلاً في الخمسين من العمر يقف أمام مطعم آخر "منسف بالكاسة"، ويأكل وجبته بنهم لا يقل عن ذلك النهم الذي نشعر به عندما نكون أعداداً كبيرة أمام سدر منسف كبير"المنسف يؤكل على الواقف"، سألته قبل أن أسلم عليه؟ كيف الوجبة طيبة؟ أجاب: "الوجبة وأصحاب فكرة المنسف بالكاسة طيبون جداً".

اسم ذلك الخمسيني هو مراد أبو حليمة، وخلال حديثه مع رصيف22، بين أنه من الرواد الدائمين لذلك المطعم، خصوصاً أنه يعمل في أحد المحال القريبة منه في وسط البلد، وقال: "أبدع من ابتكر فكرة المنسف بالكاسة، أناس كثر ارتاحوا لها، خصوصاً الفقراء منهم، والحمد لله أن وجبة المنسف أصبحت متاحة لكل من اشتهاها".

كلمة "اشتهاها" تكررت كثيراً على لسان أصحاب مطاعم "منسف بالكاسة" أو من روادها، تكررت في سياق إدراجها للفقراء في الأردن الذي يشتهون هذه الوجبة لكن ضيق الحال يحرمهم منها، وهو ما أكده صاحب المطعم الذي تناول أبو حليمة وجبته منه، طلال الخضري، الذي قال: "المنسف ليس فقط وجبة شعبية أردنية، هو رمز أردني، لكن الفقر حرّم من يشتهيه منه، فوجبة سدر منسف واحد أو وجبة منزلية لا تقل تكلفتها عن 20-30 ديناراً، اليوم من معه 30 ديناراً كي يشتري به منسفاً؟" يسأل الخضري.

طلبت من الخضري الحديث عن مواقف تعرض لها، بعد إنشائه مطعم منسف بالكاسة، قال: "هناك موقف أثر في نفسي كثيراً، عندما جاء رب عائلة مصطحباً معه خمسة من أفراد أسرته، تناولوا المنسف بخمسة دنانير، بعد أن انتهوا من أكل وجبتهم، قال لي: روح الله يجبر بخاطرك زي ما جبرت خاطر أولادي".

وأيد الخضري فكرة أن المنسف بالكاسة لقيت ترحاباً شعبياً رغم كل أشكال الرفض السابقة لتغييرات أو تشوهات مست المنسف في مطاعم الخمسة نجوم، وقال: "كل ما يسد شهوة فقير في بلدي هو أمر مرحب به"، لافتاً إلى أن التشجيع الشعبي لهذه الفكرة حمسته على أن يضع في "أجندة" مشروعه في المستقبل، وجبات أخرى بالكاسة مثل القدرة وفتة الحمص، لأنها وجبات ذات تكاليف عالية أيضاً.

قاطعنا طفل في ختام الحديث مع الخضري، عندما سأل: "عمو قديش المنسف؟"، أجابه الخضري: "بدينار"، هز الطفل رأسه من ثم حناه وشارف على الذهاب من المكان، قبل أن يشد الخضري يده ويعطيه "كاسة منسف".

"عدم المؤاخذة الناس بطلت قادرة تدفع حق سدر منسف واحد"، أجابني خالد بحيص، وهو صاحب محل آخر لمنسف بالكاسة، وقال: "وفق عاداتنا الأردنية أن المنسف يؤكل بالسدر، وفكرة أكل منسف بسرعة وفي كاسة وبدينار، درجت لأنها تسد شهوة الفقراء"، ويضيف: "من حق الفقراء أن يأكلوا المنسف!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image