قبل أيام، ورد أن لجنة الميزانيات التابعة للاتحاد الأوروبي أجرت تعديلاً من شأنه أن يشترط أكثر من 23 مليون دولار أمريكي من التمويل الأوروبي لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بتغيير كتب مدرسية تابعة للسلطة الفلسطينية بذريعة أنها "تحرّض على العنف".
تباهت وسائل إعلام إسرائيلية بأن الخطوة أعقبت ضغوطاً على كل من نائب رئيس اللجنة أوليفيير شاستل ونائب الرئيس المشارك نيكلاس هيربست، من قبل معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي (IMPACT-se).
وIMPACT-se هو هيئة مراقبة إسرائيلية تركز على المناهج الفلسطينية وأحياناً تتوسع إلى المناهج العربية، في ما يتصل بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد تأسس عام 1998 لمراقبة تحقق مبادئ اتفاقات أوسلو من "تقبل واعتراف متبادل وسلام" في المناهج الفلسطينية.
لكن الأثر المباشر لأنشطة هذا المعهد هو تقليص أو قطع التمويل عن وزارة التعليم الفلسطينية أو المدارس التي يتعلم فيها الطلاب الفلسطينيون بشكل عام. العام الماضي، قلّص البرلمان النرويجي مساعداته المقدمة إلى وزارة التعليم الفلسطينية إلى النصف، متذرعاً بـ"تحريض المناهج على العنف ومعاداة السامية"، فيما اشترطت الولايات المتحدة الأمريكية "إصلاح التعليم" لإعادة تمويل الأونروا.
يحارب سِيَر "المناضلين"
في تقرير عن الدور الذي يلعبه المعهد، أفاد موقع "متراس" الفلسطيني أن مهمة الهيئة الإسرائيلية هو "مراقبة محتوى مناهجنا العربيّة كلمةً كلمة للتّأكّد أنّ أطفالنا يتعلّمون ‘السلام والتسامح الثقافي‘ على مقاعد الدراسة، وذلك "كجزءٍ من جهود الاحتلال المُمَأسسة لتطبيع وجوده وخنق أي نَفَس نضالي". وتابع "متراس" أن المعهد "يضغط لنزع أي طابع سياسي مناهض للاحتلال في الكتب المدرسية ويرفع تقاريره إلى الحكومات والمانحين الدوليين".
الموقع الفلسطيني قال إن المعهد "اشتكى" من ورود مفهوم الصهيونية في كتاب التاريخ السعودية، ومن ورود ثورة الشيخ عز الدين القسام في كتاب التاريخ القطري، في إشارة إلى ثورة فلسطين الكبرى بين عامي 1936 و1939.
لـ"تفتيت أي شعور بالقدرة والقوة والفخر لدى الفلسطينيين"… معهد IMPACT-se الإسرائيلي وجهوده من أجل مناهج عربية وفلسطينية "على المسطرة الإسرائيلية" وخلق "جيل جديد" أكثر تقبلاً لإسرائيل
في المناهج الأردنية أيضاً، حرّض المعهد ضد بعض الأجزاء ومن بينها ذكر المناضلين الأردنيين محمد الحنيطي وكايد العبيدات في كتاب للغة العربية، وتناول حريق الأقصى عام 1969 في كتاب للتاريخ.
أما بالنسبة للمناهج الفلسطينية، فمن الأمور التي احتج عليها المعهد وجود نص عن واحدة من أشهر الفدائيات الفلسطينيات وهي دلال المغربي في كتاب للغة العربية، وكذلك وجود نص عن حق الشعوب في المقاومة المسلحة ونص آخر عن الصحابية سمية بنت خبّاط، أول شهيدة في الإسلام، في كتاب للتربية الدينية.
حتّى تلك المناهج التي تُدرس في مدارس الأونروا لم تسلم من ملاحقة المعهد الإسرائيلي إذ بيّن "متراس" أن المعهد اعترض على وجود قصيدة "تقدّموا" للشاعر الفلسطيني سميح القاسم تتناول الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كتاب للغة العربية، وكذلك على الخريطة التي تُدرّس في منهج الدراسات الاجتماعية.
وبالتزامن مع التحريض، يحرص IMPACT-se على الإشادة بما يصفها بـ"تغيرات إيجابية" في المناهج الإماراتية وأيضاً السعودية في السنوات الأخيرة.
ما خطورة دوره؟
عن الدور الذي يلعبه المعهد، قال لرصيف22 مصطفى ريناوي، الناشط السياسي الفلسطيني ومدير جمعية الثقافة العربية: "مسؤولو المعهد صرحوا سابقاً أن التطبيع الفعلي مع السعودية قد بدأ فعلاً حين تمكنوا من إلغاء مواد معينة في المنهاج السعودي. هذا هو العنوان الرئيسي لمشروعهم: مراقبة المناهج العربية ودراسة تأثيرها على تقبّل إسرائيل ومشروعها الاستيطاني في فلسطين لدى الجيل الجديد في المنطقة العربية، والتدخل فيها بغية التطبيع".
وأوضح ريناوي أن التطبيع الذي يقصده ليس حول قبول دين أو فئة عرقية في منطقة ما، وإنما "قبول مشروع احتلال يحاصر الفلسطيني ويسرق ممتلكاته وأرضه وتاريخه وحاضره، ويتعامل معه كواقع مرغوب فيه سياسياً وثقافياً واجتماعياً".
ورأى أن المعهد أبعد ما يكون عن الهدف الرئيسي المزمع من إنشائه. قال: "هذه دولة عنصرية تربّي أبناءها على العنصرية منذ الصغر على الأرض وفي المناهج. هذا ما يدفعنا للشك في أي مشروع إسرائيلي يزعم أنه يستهدف العنصرية"، مستدركاً "هو مش جاي يحارب العنصرية هو جاي يسيطر على الشعوب العربية ويدفع شعبه أكثر للعنصرية بطرد ومحاصرة الفلسطينية".
ونوّه ريناوي بأنه ضد التحريض على اليهود كيهود وضد التحريض على أي مجموعة بشرية تبعاً لقوميتها أو دينها بشكل عام، مبرزاً أن اعتراضه ينصب على المشروع الذي يصادر حق شعب محتل ومحاصر في مقاومة محتلّه والنضال لاستعادة أرضه وحقوقه الشرعية. "أنا أدعم حذف أي مواد تحرض على العنصرية ضد اليهود كيهود في المناهج العربية والفلسطينية لكن ليس تلك المواد التي تعزز الرواية الوطنية الأخلاقية وتشدد على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني"، استطرد.
غرض آخر يسعى إليه "IMPACT-se" الذي يراقب مناهج التعليم الفلسطينية والعربية بوتيرة أكبر منذ اندلاع الانتفاضة الثانية (2000-2005)، هو "تفتيت أي شعور بالقدرة والقوة والفخر لدى الفلسطينيين في الضفة وغزة والداخل المحتل أيضاً"، وفق ريناوي.
وشرح الناشط الفلسطيني ذلك: "منذ النكبة، أدرك الإسرائيلي أن مشروعه الاستيطاني لن يكتمل إلا بنسف رواية أهل البلاد الراسخة منذ آلاف السنين وخلق رواية بديلة للمنطقة، تركز ذلك على تصوير الفلسطينيين كغزاة قتلة لا يُمكن العيش معهم، وهو ما يدرسونه لطلابهم. هناك باحثون إسرائيليون يناهضون هذه المناهج الإسرائيلية وما تزعمه عن الفلسطينيين، لذا منعت الأكاديمية الإسرائيلية منصاتها من البحث والحديث أصلاً في الموضوع".
في سياق تحقيق هذه الأهداف، عملت إسرائيل -والكلام لريناوي- على تفتيت الهوية الجامعة للفلسطينيين في الداخل المحتل من خلال خلق نموذج تعليمي يُفرق بين الديانات والشرائح المتنوعة في النسيج الفلسطيني، ما يعكس أن "الإدراك الصهيوني لأهمية المناهج ومحاولة التأثير منذ الصغر على الشباب العربي تاريخياً وحاضراً هو في مركز عمل المعهد".
دور المعهد ليس التمهيد لجيل عربي جديد يقبل إسرائيل كدولة فقط وإنما أيضاً "قبول مشروع احتلال يحاصر الفلسطيني ويسرق ممتلكاته وأرضه وتاريخه وحاضره، ويتعامل معه كواقع مرغوب فيه سياسياً وثقافياً واجتماعياً"
"أسرلة" مناهج القدس
وهناك مخططات إسرائيلية لـ"أسرلة" مناهج التعليم في القدس المحتلة، بما يثير مخاوف حول "الهوية الوطنية". تناول هذه المخططات القديمة الأمد علناً وزيرُ التعليم الإسرائيلي آنذاك ورئيس الحكومة الحالي نفتالي بينيت عام 2016. عماد هذه المخططات هو فرض تدريس المنهاج الإسرائيلي في مدارس المدينة.
صرح بينيت: "يجب تقديم المساعدة والدعم لكل من يُعلّم المنهاج الإسرائيلي، أريدُ المساعدةَ في عملية الأسرلة".
وكانت سياسة أسرلة المناهج التي يدرسها الطلاب الفلسطينيون في القدس قد بدأت منذ الأيام الأولى لاحتلال المدينة في حزيران/ يونيو عام 1967. فرضت السلطاتُ الإسرائيلية مناهجها على المدارس التي انتقلت من الإشراف الأردني إلى إشرافها، لكنها فشلت في جعل ذلك أمراً واقعاً، فاضطرت للتراجع عنه عام 1974 بالعودة إلى المنهاج الأردنيّ.
وظل الطلبة المقدسيون يدرسون المنهاج الأردني حتى أتمت السلطةُ الوطنية الفلسطينية إعداد أول منهاج فلسطيني بعد "اتفاقية أوسلو" التي كانت تشترط مبدأ "التعليم من أجل السّلام ووقف التحريض" في المناهج الجديدة.
بدأت دراسة كتب المنهاج الفلسطيني في المدارس الفلسطينية، بما في ذلك مدارس القدس، تدريجياً منذ عام 2000. واكتمل تطبيقها عام 2004. لكن منذ عام 2010، دأبت السلطات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية معركة التحريض ضد المناهج الفلسطينية والضغط لأجل تغييرها.
"لا أعرف جسماً أو جهداً فلسطينياً منظماً لمواجهة أنشطة المعهد".
وفي خطة نُفذت تدريجياً على مدار سنوات، أُدخل المنهاج الإسرائيلي من جديد. في العام الدراسي الحالي، يدرس نحو 13 ألف طالب فلسطيني في المراحل التعليمية المختلفة بالقدس الشرقية المحتلة، المنهاج الإسرائيلي مقارنةً بخمسة آلاف طالب قبل خمس سنوات، وفق تقرير حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.
وفي خطابه أمام الأمم المتحدة الشهر الماضي، استنكر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "المعايير المزدوجة" المطبقة على الفلسطينيين وحدهم بمعزل عن الإسرائيليين. وخصّ في هذا السياق استهداف المناهج الفلسطينية شارحاً: "نضطر إلى شرح وتبرير ما يظهر في موادنا التعليمية، على الرغم من أنها تفسر روايتنا وهويتنا الوطنية. في غضون ذلك، لا أحد يطالب بمراجعة المناهج ووسائل الإعلام الإسرائيلية حتى يرى العالم التحريض الحقيقي من قبل المؤسسات الإسرائيلية".
لا "جهد فلسطينياً منظماً" لمواجهته
بالعودة إلى ريناوي، فقد عبّر عن اعتقاده بأن معهد "IMPACT-se" أضاف إلى المخططات الإسرائيلية المركزية للتأثير على الهوية الوطنية الفلسطينية ودحض رواية الشعب الفلسطينية التاريخية "التحول إلى زيادة مساحة التأثير والاستفادة من التحكم بالمناهج المدرسية على نطاق عربي أوسع خارج فلسطين بغية السيطرة على النفس الشعبي العربي المناصر لفلسطين كونه لا يكفي أن تسيطر سياسياً على الأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي، وذلك بحسب تصريحات محلليهم".
وأعرب الناشط الفلسطيني عن أسفه لعدم وجود "جهد فلسطيني منظم لمجابهة أنشطة المعهد الإسرائيلي وفضح العنصرية والكراهية اللتين تفوحان من المناهج الإسرائيلية.
وأضاف: "لا أعرف جسماً أو جهداً فلسطينياً منظماً لمواجهة أنشطة المعهد، وإن كانت كافة المنظمات المناوئة للاحتلال في فلسطين وحول العالم تسعى إلى نشر الرواية الأخلاقية لشعب مغتصبه أرضه ومحتل ومحاصر".
كما تحسّر على أن السلطة الفلسطينية كقيادة عليا في البلاد لا تقوم بأي دور ضد هذه السياسات الإسرائيلية بينما يضغط هذا المعهد ومن خلفه إسرائيل ومؤسساتها الأخرى على المانحين الدوليين ومنها الاتحاد الأوروبي لأجل "تمويل منظمات فلسطينية ‘على هواهم‘ تقبل بوصم الفلسطينيين الذين يرفضون محتلهم ويحاولون مقاومته بالعنف والتطرف وعدم تقبّل الآخر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...