إذا احتاج مدلّسٌ له قوة إرهاب الدولة إلى حجةٍ للسطو على تاريخٍ فقد يزوّر عُملة معدنية، ويكتب عليها مثلاً: "سكّت هذه العملة سنة 48 قبل الميلاد". طرفةُ عبثيةٌ؛ لأن أحداً قبل ميلاد المسيح ما كان يعلم بميلادٍ سيؤرّخ في العالم بما بعدهُ. ولم يتحقق للكيان العنصري الصهيوني شيءٌ يدلُّ على أن له في فلسطين تاريخاً أو أثراً، وإن أكسبته القوة كل ممارسات إرهاب الدولة. لكن هذا الإرهاب تهزمه حقائق بسيطة، ومفرداتُ معيشةٍ تتناثر هنا وهناك، وتنتمي إلى فلسطين التاريخية تحت الانتداب البريطاني.
هناك تفاصيل صغيرةٌ تتوارى في الزحام، ويمكن الاشتغال عليها، ووضعها في أُطرها اللائقة، والإلحاح بها على الضمير البشري، حتى تصير جزءاً من الذاكرة الإنسانية. وتستطيع هذه الإشارات هزيمة محاولات تهويد تاريخ فلسطين.
لم يتحقق للكيان العنصري الصهيوني شيءٌ يدلُّ على أن له في فلسطين تاريخاً أو أثراً، وإن أكسبته القوة كل ممارسات إرهاب الدولة، لكن هذا الإرهاب تهزمه حقائق بسيطة
من هذه العناصر الصور الفوتوغرافية، وقد يجادل العدو بأنها تتعرّض للتزييف، أما العناصر المادية في اللقطة السينمائية المتحركة فهث دالٌة جداً، تتحدى وتستعصي على التزوير. مناسبة هذا الكلام مصادفة رؤيتي للافتة إشارية في الطريق بين مصر وفلسطين، في الفيلم المصري "الطريق المستقيم"، قصة وحوار وبطولة يوسف وهبي، وإخراج وسيناريو ومونتاج وإنتاج توجو مزراحي. لم يفكر صناع الفيلم، الذي عرض في 17 أكتوبر 1943، في أن هذه اللافتة أقوى من جهاز دعاية الكيان العسكري الاستعماري.
ينتمي الفيلم إلى القصص التقليدية لتلك الفترة. موظفٌ كبيرٌ يقع في حبائل امرأةٍ تشغله عن أسرته، فيختلسُ أموالاً، ويدبران السفر إلى بيروت. هناك يتعرض لإذلال المرأة اللعوب، وتسوء أحواله، فيقتلها، ويهرب عائداً بالقطار عبر معبر "القنطرة" على قناة السويس، ويتم البقض عليه وترحيله إلى القاهرة، ويموت برصاص الشرطة.
في الفيلم مشهد ربما حزن على وجوده مزراحي، فعند عبور قناة السويس توجد لوحة "جمرك الإسماعيلية"، وغرفة تفتيش حقائب المغادرين إلى سيناء ومنها إلى الشام. ويوجّه البطل سؤالاً إلى المرأة: "أخوكِ علّم على الباسبورتات؟". هنا إشارةٌ إلى السفر من دولةٍ إلى دولةٍ حرةٍ ذات سيادةٍ، حتى لو كانت تحت الانتداب. ويظهر كادرٌ يبدو عابراً، فلا يستغرق إلا ثانيتين اثنتين، ولكنه مهم، في تقسيمه الحروفي، وفي ثقله الرمزي. على يسار الكادر "القاهرة"، ومن اليسار ينطلق سهمُ إلى أقصى الشرق، حيث كتبت "فلسطين" بالعربية والإنكليزية، وبين الحروف العربية والإنجليزية خطان مستقيمان؛ فلسطين على بعد 114 كيلومتراً.
في هذا الفيلم، وفي غيره من الأفلام المصرية، لا إشارة إلى إسرائيل. على حدود مصر الشرقية توجد فلسطين، ومنذ وعد بلفور عام 1917 تشهد فلسطين ثوراتٍ واحتجاجاتٍ على ممارسات عصابات صهيونية ترعاها قوات الانتداب البريطاني. وفي فلسطين مدنٌ وكيبوتزات أنشأتها العصابات المسلحة. وبصعود هتلر ونشوب الحرب الأوروبية العظمى نشأ تواطؤ بين النازي وزعماء الصهيونية. وكان السفر إلى القدس وإلى فلسطين ميسوراً بالقطار، من القاهرة عبر نقطة القنطرة على قناة السويس.
يذكر محمد التابعي في كتابه "أسمهان تروي قصتها" أنه أقام خمسة أيامٍ في القدس، في أكتوبر 1941. وبعد أيامه الخمسة في القدس، قال التابعي لأسمهان إنه سيعود غداً إلى مصر، وكانت ستعود في الغد إلى بيروت، وسألته: "هل سبق لك أن زرت تل أبيب؟"، وأجاب بالنفي. شجعته على الذهاب، على أن يستقل القطار في اليوم التالي عائداً إلى القاهرة. كتب التابعي عن تل أبيب: "والأثر الذي تركته هذه المدينة أنها أشبه بالمدن التي تشيدها ستوديوهات السينما في هوليوود ليلتقطوا فيها حوادث فيلم سينمائي معين فإذا ما انتهوا من التقاط المناظر... هدموا المدينة وما فيها! أي أنها مدينة ولكنها لا توحي إلى النفس بشعور الثبات والاستقرار!".
في ذلك الوقت، كان الراعي الرسمي البريطاني للكيان الدامي يرتب للتخلّي وإنهاء الانتداب ليلة 15 مايو 1948، تاركاً فراغاً للعصابات الصهيوينة. وكان الراعي الرسمي الإرهابي الجديد يقدم أوراق دعمه، وتجسدت الرعاية في إعلان الرئيس الأمريكي هاري ترومان، في 14 مايو 1948، اعترافه بإسرائيل: "تم تلبيغ هذه الحكومة (الأمريكية) أن دولة يهودية قد تم إعلانها في فلسطين، وقد تم طلب الاعتراف بها من قبل الحكومة المؤقتة؛ لذلك تعترف الولايات المتحدة بالحكومة المؤقتة بصفتها حكومة أمر واقع للدولة اليهودية الجديدة". كان اعتراف ترومان قراراً شخصياً فاجأ البريطانيين، كما فاجأ أيضاً أعضاء الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة.
في ذلك الوقت لم يكن في فلسطين أثر يدل على وجود لظلالٍ عبريةٍ أكثر من الآلة العسكرية. يسهل أن تجد تحت كل حجرٍ في فلسطين أثراً. في عام 1931 تأسست شركة "سكْب الحديد" الفلسطينية في يافا. منتجات الشركة الوطنية سدّت احتياجات الفلسطينيين من المكابس والطواحين ومضخات المياه، وأدت إلى تطوير عمليات الري، كما أسهمت في تنمية القدرات الفنية لحرفيين وفنيين انتموا إلى الشركة تحمل بعض آثارها الباقية هذه البيانات، بالعربية والإنكليزية فقط: "شركة السكب الفلسطينية المحدودة الأسهم. بلدية يافا". في حيفا أيضاً تجد غطاءً لبلوعات المجاري تحمل بالعربية والإنجليزية فقط بياناتٍ للحكومة الفلسطينية.
هل ندم توجو مزراحي على المشهد الذي يقول إن البطل على مسافة 114 كيلومتراً من "فلسطين"؟ تقول سيرة مزراحي (1901 ـ 1986) إنه شارك بالتمثيل في أفلامه الأولى باسم "أحمد المشرقي"، وبين عامي 1930 و1945 أخرج 30 فيلماً، كان "الطريق المستقيم" رقم 24. وبداية من عام 1940 كان يخرج ثلاثة أفلامٍ في المتوسط سنوياً، فلماذا توقف وغادر مصر؟ هل انتهى دوره مع اقترب إعلان الدولة فآثر المغادرة؟
في هذا الفيلم، وفي غيره من الأفلام المصرية، لا إشارة إلى إسرائيل. على حدود مصر الشرقية توجد فلسطين، ومنذ وعد بلفور عام 1917 تشهد فلسطين ثوراتٍ واحتجاجاتٍ على ممارسات عصابات صهيونية ترعاها قوات الانتداب البريطاني
في كتابه "اليهود والسينما في مصر" يذكر أحمد رأفت بهجت أن مزراحي، عام 1946، قام "بالاتفاق مع يهود أمريكان بعمل دوبلاج لأفلامٍ دعائيةٍ صهيونيةٍ أنتجت في الولايات المتحدة"، منها "بيت أبي" و"أرض الأمل"، وقد عرض الفيلمان "لحياة يهود فلسطين ونشاطهم في أرض أجدادهم. ويضيف أن مزراحي لم يترك مصر إلا في مارس 1949، "وأنه لم يتعرض لأي اضطهادٍ"، وأن توقفه في تلك السن يرجع إلى أنه "كان قد أتم رسالته السينمائية لحساب الصهيونية وانسحب في الوقت المناسب".
أما عرفة عبده علي فيثبت في كتابه "يهود مصر... باروناتٌ وبؤساء" نشاطاً آخر لمزراحي آخر، هو ألبرت مزراحي. أسس عام 1946 "وكالة مصر للصحافة"، لتتولى إصدار ثلاث صحفٍ هي "التسعيرة"، ثم "المصباح"، و"الصراحة" التي ترأس مزراحي تحريرها، "ثم أصبح مزراحي أحد دعاة الصهيونية في مصر! ووجه سياسة الجريدة إلى شن حملاتٍ ضد الصحف المصرية التي تهاجم الصهيونية أو تحذر الحكومة من أطماع اليهود ومخططاتهم"، واتهم هذه الصحف بأنها ليست وطنية، "ولا تعرف واجب الولاء نحو عرش مصر ومليكها".
لو تأخر إنتاج "الطريق المستقيم" حتى وقوع النكبة، هل كان مزراحي سيترك لافتة "فلسطين 114 كيلومتراً"؟ أم كان سيضيف إليها بالعبرية اسم الدولة التي حلم بإقامتها؟ ربما افتعل مشهداً ليهوديٍ يحتفظ بشيكلٍ معدنيٍ، كتب عليه: "سكّت هذه العملة قبل 48 سنة من قيام دولة إسرائيل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري