قالوا في معاهدة أوسلو للسلام، إنها دمرت الفلسطينيين، وأنهت الأمل الذي أشعلته الانتفاضة، وحولت القضية الفلسطينية إلى لعبة بيد أطفال، لا يفقهون شيئاً في المفاوضات والنقاشات مع الطرف الآخر. أظهرت أن من يرأس الفلسطينيين، هم ثلة من الأشخاص غير الناضجين، يفكرون في مصلحتهم الخاصة، ولا يدركون أنهم يقررون بالنيابة عن شعب بكامله، وغير ذلك من سيل الشتائم، والغضب، على هذه الاتفاقية.
لا يتوقف الإنتاج السينمائي والمسرحي والأدبي الذي يتحدث عن هذه الاتفاقية، حتى بعد مرور عقود على توقيعها. تارةً من وجهة نظر الفلسطينيين، وتارة أخرى من وجهة النظر الإسرائيلية. وفي بعض الأحيان، من وجهة النظر الدولية أيضاً، وآخرها فيلم يحمل اسم "أوسلو"، وهو من إنتاج HBO الأمريكية، التي عُرفت سابقاً بإنتاجاتها الضخمة لأحداث شكلت نقطة تحول في العالم، مثل كارثة تشرنوبل.
يقدم الفيلم التفاصيل التي سبقت توقيع الاتفاقية، منذ الوقت الذي بدأ فيه تيري رود لارسن، وزوجته، بمحاولة تقريب وجهات النظر بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، مروراً بالعقبات التي مرت بإبرام هذه الاتفاقية، وانتهاءً بإعلانها على الملأ. لكن انتقادات كثيرة وُجهت إلى الفيلم، من بينها أن الفلسطينيين يبدون كالمهرجين على طاولة المفاوضات، ما يهمهم كله، هو سرد النكات، والاستمتاع بطبق من "الوافل"، واستقبال كبير في المطار يليق بمراكزهم. يصرخون، ويتجادلون، ولا يمتلكون أدنى المعلومات المفيدة، والوثائق الضرورية، لإتمام مهمة المفاوضات بالنيابة عن شعب كامل. بالإضافة إلى أنهم يتحدثون في الفيلم بشكل شاعري جداً، عن الأرض والوطن، بينما هم في تلك اللحظات كانوا في حاجة إلى الوثائق، والحقائق، والمعلومات.
انتقادات كثيرة وُجهت إلى الفيلم، من بينها أن الفلسطينيين يبدون كالمهرجين على طاولة المفاوضات، ما يهمهم كله، هو سرد النكات، والاستمتاع بطبق من "الوافل"
أفكر وأتأمل وأقول في نفسي: "أليست تلك الوقائع حقيقية كلها؟".
نحن عادة نصنع الأفلام حتى نمجد انتصاراتنا، ونجاحاتنا، واللحظات التاريخية التي شكلت تحولاً في حياتنا. وعلى عكس كثيرين غيري؛ ممن لم يعجبهم هذا الفيلم، أنا وبكل صراحة أعجبني جداً؛ ربما لأنني رأيت فيه توثيقاً لجزء مهم من التاريخ الفلسطيني الحديث؛ الجزء الذي كان بداية الفشل، وكان بداية العودة إلى الوراء. هذا الفيلم سيبقى شاهداً على أن الوفد الفلسطيني الذي ظهر بهذه الطريقة، كان هو سبب هذا الفشل. ليست مهمة السينما أن تجمّل الواقع، لأننا بذلك نكذب على الأجيال القادمة، ونكذب على أنفسنا. في ما يتعلق بأوسلو، نحن في حاجة إلى أن نواجه أنفسنا، ونعترف (أو يعترفوا هم) بأننا فشلنا، وأن هذه المعاهدة لم يكن من الصحيح أن تتم. قد تكون هناك الكثير من التفاصيل التي تم إقحامها بشكل أو بآخر في الفيلم، ربما للضرورات الدرامية، لكن، من مقارنة أحداث فيلم "أوسلو" مع بعض الوثائقيات، والكتب التي تحدثت عن الموضوع، يبدو من الواضح أن البهلوانية والسطحية كانتا السمة الأساسية للوفد الفلسطيني. وإن كان ذلك صحيحاً، فلا أريد لأي فيلم أن يخفي ذلك، بل أن يقول لنا الواقع كما كان.
لطالما كانت أمي تعلّق على المفاوضات بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي، خصوصاً تلك المتعلقة بالمياه بالقول: "الإسرائيليون يجلسون على طاولة المفاوضات، وفي جعباتهم الخرائط، والوثائق، ونقاط النقاش، ونحن نذهب بلا أي شيء، سوى عواطفنا ومشاعرنا". يبدو أن جذور المشكلة داخل الوفد الفلسطيني لم تبدأ من أوسلو، وإنما قبل ذلك بكثير. شاهدت الفيلم، وأنا أتساءل: كيف يجرؤ مسؤولان فلسطينيان على الدخول في مفاوضات تحدد مصير شعب كامل، من دون الرجوع إلى القيادة، أو التنسيق مع الوفد الآخر الموجود في واشنطن؟ كيف يرضى مسؤولان في منظمة التحرير الفلسطينية ببدء هذه المفاوضات مع إسرائيليين، وهما ليسا عضوين في جهة رسمية؟ وأسئلة كثيرة أخرى، ليس من واجب الفيلم الإجابة عنها، إنما يجب أن تبقى تساؤلات مشروعة، ففي نهاية الأمر المنتصرون هم من يكتبون التاريخ.
سقطت بعض أجزاء الفيلم في فخ "الكليشيه"، أو الصور النمطية، وبالتحديد المواجهة المباشرة بين الفتى الفلسطيني، والجندي الإسرائيلي، إذ تتلاقى الأعين، فيقرر الجندي الإسرائيلي ألا يقتل الفتى
نشاهد في الفيلم مشهداً يطلب فيه الجانب الفلسطيني من الإسرائيليين الحديث عن القدس، وعن كونها عاصمة الدولة الفلسطينية. الإجابة بالتأكيد من الطرف الإسرائيلي هي: لا! (بصوت مرتفع وصارم). رد الفعل هذا يثير فيّ الشفقة، والحزن، على وضعنا. هذه المدينة التي كانت ملكاً لنا في يوم من الأيام، أصبحنا اليوم نرجو أن يكون جزء منها لنا، وممثلنا الذي يطالب بها، لا يستحق أبداً أن يكون في هذا الموقع. تظهر القدس في الفيلم مدينة صفراء، خالية من مظاهر الإنسانية والأصالة. ربما لرسم شعور من الضبابية في المدينة المتنازع عليها، وربما لأنها عادةً ما تشهد غلياناً بسبب النزاع عليها. هذه الضبابية تعطي شعوراً غريباً بعدم الارتياح، وتالياً ما كان يجري من مفاوضات ومحاولات لتقريب وجهات النظر في إطار أوسلو، كله كان أيضاً يدعو إلى عدم الارتياح. للأسف، سقطت بعض أجزاء الفيلم في فخ "الكليشيه"، أو الصور النمطية، وبالتحديد المواجهة المباشرة بين الفتى الفلسطيني، والجندي الإسرائيلي، إذ تتلاقى الأعين، فيقرر الجندي الإسرائيلي ألا يقتل الفتى، الذي يقتله لاحقاً جندي إسرائيلي آخر. هذه الصور، وإن كانت موجودة، فإنها أصبحت مستهلكة بشكل كبير في الصراع بين الطرفين.
مزيج من الألم والأسى يخالجني كلما تذكرت انتفاضة شعبنا التي كانت قريبة من أن تحقق جزءاً من أحلامنا، وتهزم المحتل، فأتت أوسلو ودمرت هذه الأحلام بشكل كامل، بشكل لا زلنا نعاني من تبعاته حتى اليوم. حتى أن تلك الثلة من المفاوضين والقياديين من تلك المرحلة، لا يزالون هم أنفسهم يحكمون، ويقودون الشعب والقضية، حتى اليوم.
السؤال الأخير هنا هو: هل كل إضاءة على اتفاقية أوسلو، وما جرى في كواليسها، وما حدث من بعدها، هو صفعة في وجه كل من يؤمن بالسلام غير المتكافئ؟ أعتقد ذلك. لا تنتقدوا الفيلم، ولا تنتقدوا شخصياته، فالواقع الذي نقله الفيلم هو الذي أوصلنا إلى هنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت