"عودتي إلى اللغة العربية كانت أشبه بميلاد جديد لم يتحقق إلا بالموت... أو التظاهر به"؛ هكذا أعلن الكاتب، والموسيقي، والمغنّي البحريني علاء غوّاص، عن ألبومه الجديد "بروفة موت"، الذي شارك جمهوره ثلاث أغنيات مفردة منه، وسيطرحه بالكامل في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
أصدر الفنان البحريني غوّاص، على مدار أكثر من 15 عاماً، ثمانية ألبومات كلها باللغة الإنكليزية، قبل أن يقرر إصدار ألبومه التاسع باللغة العربية. وفي حديث لرصيف22، قال: "أكتب منذ سنوات طويلة باللغتين، ولكنني لم أجرؤ على نشر أي من كتاباتي العربية، أو تلحينها، إلى أن جاء ذلك اليوم في العام 2019، عندما رأيت إعلاناً لحفلة للفنان البحريني خالد الشيخ، في مهرجان البحرين للموسيقى، فحجزت ثلاث تذاكر، لأمي ولأختي ولي، وخلال الحفل غّنيت مع خالد أغانيه كلها، مع أنني لم أسمع له منذ أكثر من عشر سنوات، وكأن خالد الشيخ كان يعيش داخل رأسي، طوال هذه السنوات الطويلة، وظهوره على المسرح أنعش ذاكرتي، فتساءلت: لماذا أحفظ أعمال خالد كلها؟ هل من المعقول أنه باقٍ في ذاكرتي، ومركونٌ جانباً؟".
"كأن خالد الشيخ وجدني تائهاً في بوسطن، حيث كنت أدرس، وبعد إصدار ألبومي الأول، فأمسك بيدي، وأعادني إلى البيت".
أيقن غوّاص أن خالد الشيخ جزء من تركيبة غالبية البحرينيين، وبنيتهم الوطنية، ويضيف: "غنّى الشيخ يومها 15 أغنية، غنّيتها معه وكأنني أسمعها كل يوم، وعندما عدت إلى المنزل، جمعت ألبوماته كلها، وبدأت بالاستماع إليها من جديد، وإعادة اكتشافه، وبدأت بدراسته، وتمعّنت في اختياراته الفنية وكلماته، مدة عام كامل، فكانت الجمرة الأولى للعودة إلى اللغة العربية، وكأن خالد الشيخ وجدني تائهاً في بوسطن، حيث كنت أدرس، وحيث أصدرت ألبومي الأول، فأمسك بيدي، وأعادني إلى البيت".
البدايات
تربّى علاء في منزل تصدح فيه الموسيقى الكلاسيكية العربية؛ فيروز، وعبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وخالد الشيخ؛ "هذه الأسماء سمعَتها أذني للمرة الأولى في سن الثامنة، ثم اكتشفني مدرّس موسيقي مصري اسمه معني عبد العزيز، في مدرسة ابن سيناء الابتدائية في الثمانينيات من القرن الماضي، وعلّمني العزف على آلة الأكورديون، ووثق بموهبتي، ودفعني للمواصلة. البذرة التي زرعها الأستاذ معني، وصلت جذورها إلى مكان عميق في شخصيتي، فواصلت تعلّم الموسيقى، وشجع ذلك والديّ اللذان اشتريا لي آلات موسيقية، لأكمل العزف في المنزل"، يقول غوّاص.
في العشرينات، بعد تخرج علاء من الجامعة، بدأ يكتب، ويضيف: "الكتابة هي التي قادتني إلى الموسيقى. لو لم يكن لدي ثقة بكتاباتي، لكان من المستحيل أن تكون لدي الثقة، والحافز لأن أنتج موسيقى تحمل اسمي، فأنا حتى اليوم أرى أنني موسيقي جيد، ولكنني لست متفوقاً كثيراً، ومن ناحية الغناء لا أملك مساحة صوتية هائلة، ولكن لدي ثقة بكلماتي وكتابتي، وهي التي حفزتني للإيمان بهذا المشروع الموسيقي".
سحر الغرب
ذهب علاء، في بداية مشواره، نحو الموسيقى الغربية، وأرجع ذلك إلى "ما فيها من تحرر، فالأغنية تتحدث عن الكثير من الموضوعات، بينما الأغاني العربية محصورة في الشوق، والحب، وربما بعض الأغاني الوطنية التي تمجّد الملوك والرؤساء، فتمردت على هذا كله، ووجدت في الأغنية الغربية توثيقاً عميقاً للتجربة الإنسانية، من إسقاطات سياسية، واجتماعية، ودينية، وجنسية… أي التابوهات كلها التي نهرب منها، ونخاف من الحديث عنها باللغة العربية. لذا هربت إلى الغرب، ومع الوقت تطورت لغتي الإنكليزية، واخترتها للغناء، لأنها أعطتني المساحة لأن أكون حراً من غير مسائلة من المجتمع، واستطعت أن أكون على الدرجة نفسها من الصدق والشفافية، مختبئاً وراء اللغة الثانية".
"الأغاني العربية محصورة في الشوق، والحب، وربما بعض الأغاني الوطنية التي تمجّد الملوك والرؤساء، فتمردت على هذا كله، ووجدت في الأغنية الغربية توثيقاً عميقاً للتجربة الإنسانية، من إسقاطات سياسية، واجتماعية، ودينية، وجنسية"
ومن الموضوعات التي استطاع علاء، في تلك الفترة، التعبير عنها بلغته الثانية، براحة أكثر، موضوع التفرقة بين السنة والشيعة، وعن هذا يضيف: "استطعت أن أتطرق إليه في أكثر من أغنية، ومن أكثر من زاوية، ففكرة الكتابة عن هذا الموضوع كانت مخيفةً، وأصبحت أكثر صعوبة بعد الـ2011، بالإضافة إلى موضوع حديثي مع الله الذي أراه منطقياً جداً، فيما يراه البعض فكرة ملحدة. أعطتني الإنكليزية حرية ألا أغربل ما أودّ قوله".
وأوضح غوّاص لرصيف22، من أين جاءت هذه الثقة بالكتابة، قائلاً: "بدأ تعلّقي وثقتي بالكتابة، منذ الصغر. جدي كاتب، وأمي كاتبة، فالأمر لم يكن غريباً عليّ، وكنت أكتب باللغتين، إلا أنني عندما كنت أدرس في الولايات المتحدة الأمريكية، كنت محظوظاً بالتعرف إلى أصدقاء لغتهم الأم هي الإنكليزية، وكانوا على درجة كبيرة من الثقافة؛ صديقي الدكتور برات غامبوا، حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، خاصةً أدب شكسبير، من جامعة هارفرد، وقد شاركته كتاباتي لألبوماتي الأولى، فآمن بي، وشجعني على الكتابة، ومن ثم أصبح المدقق اللغوي لألبوماتي باللغة الإنكليزية كلها، ومن هنا جاءت ثقتي".
الموسيقى هويتي
يُعرّف غوّاص بنفسه على أنه موسيقي بحريني، وقال: "دائماً أرى أن الموسيقى هي حياتي. الموسيقى تعطيني هوية، وأنا من غير الموسيقى لن تكون لدي القدرة على التعريف بنفسي. الموسيقى أعطتني هدفاً وهوية".
"أرى أن موضوع حديثي مع الله منطقي جداً، فيما يراه البعض ملحداً. أعطتني الإنجليزية حرية ألا أغربل ما أودّ قوله".
واستطرد: "أما بالنسبة إلى اللغة، فأنا منذ زمن في صراع مع هويتي. كنت أرى أن هويتي الموسيقية مرتبكة، فأنا بحريني وأغنّي باللغة الإنكليزية، وجمهوري عربي، واختياري للآلات الموسيقية فيه روح شرقية، وأعيش في البحرين. منذ الألبوم الأول وأنا أتساءل: هل أعبّر عن نفسي بشكل صادق؟ هل هذا هو أنا؟ وبقيت هذه الأسئلة 15 عاماً".
"بروفة موت"
يضم ألبوم "بروفة موت" أغنيات ثمانية، منها أغنية واحدة باللهجة البحرينية البيضاء (الجامعة بين أبناء وبنات البحرين من مختلف الطوائف)، وعن ذلك قال علاء: "من المخزي، في المشهد الثقافي البحريني، أن هناك لهجة واحدة فقط تُستخدم في الإعلام، والأغاني، والتلفزيون، تعكس مكوّناً واحداً فقط في المجتمع. أما اللهجة الأخرى إن وُجدت، فهي للسخرية والتهكم، لذلك كنت حذراً في الغناء بالعامية، للبقاء في منطقة محايدة ترضيني، وترضي تطلعي إلى الأغنية".
ويضيف غوّاص: "مشروع بروفة موت، عمره عشر سنوات، وعندي أكثر من مئة قصيدة في هذا الموضوع، فموضوع الموت مثير بالنسبة إلي، وأجد فيه رومانسيةً، وأنا مولع بطريقة التعبير عن الموت، ليس الموت الجسدي، بل استعارة الحديث عن الموت، للحديث عن أمور كثيرة. كان المشروع ذاهباً في هذا الاتجاه، إلا أن ما حدث في 2020، هو أنه بينما كنت أعمل على هذا المشروع وأفكر فيه، توفيت جدتي أم عدنان، والدة أمي، فاقتربت من التجربة جداً، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها جسداً مسجى أمامي، واقتربت جداً من الموت، فأثر هذا الحدث في بروفة موت، بالتأكيد، ولكنني لا أستطيع أن أقول أين، أو في أي أغنية. أم عدنان أشعلت الجمرة الصغيرة التي كانت تدفعني للعمل على الألبوم، لتجعلها ناراً ضارية".
"موضوع الموت مثير بالنسبة إلي، وأجد فيه رومانسيةً، وأنا مولع بطريقة التعبير عن الموت، ليس الموت الجسدي، بل استعارة الحديث عن الموت، للحديث عن أمور كثيرة"
ويواصل: "بعدها بفترة بسيطة، فقدت البحرين الشاعر والكاتب والروائي البحريني فريد رمضان، وهو شخص مؤثر في الوسط الثقافي البحريني والخليجي، وأعدّه بمثابة أب روحي لي، وقريباً من العائلة، وله دور كبير في تكويني الثقافي، وقد وثّقت موته في أغنية 'آلهة المحرق'".
وعن اختيار كلمة "بروفة"، لتكون في عنوان الألبوم، أوضح غوّاص: "ليست لكلمة بروفة الإيطالية ترجمة دقيقة باللغة العربية، وكان اختياري لها متعمداً، لأنني أريد أن أقول إن اللغة موضوع في غاية التعقيد، والتعبير عن الأفكار قد لا تحتويه لغة واحدة فقط، وأنا مؤمن أن الكثير من الأغنيات يستحيل أن أستطيع التعبير عنها إلا بالإنكليزية".
ماذا بعد؟
هل العودة إلى اللغة العربية نهائية؟ أجاب الفنان غوّاص: "اليوم أيقنت أنني متمكن من اللغتين، فأصبح عندي خياران، والفكرة هي التي ستجعلني أختار اللغة، ولكنني ضد فكرة ألبوم، أو أغانٍ، بلغة مختلطة، وأعدّها أفكاراً تجارية لا تحترم النص".
وأضاف: "لدي رغبة في أن أترك الموسيقى لفترة، واتجه نحو الكتابة بشكل حصري، لأن الكتابة هي الأحب إلى قلبي. الكتابة تعطيني مساحة كبيرة في التعبير، أكثر من مشروع ألبوم. لدي مشروع كتاب، أو اثنين، قبل أن أموت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون