آخر أيام أيلول الماضي، كان عشاق "السيرة الهلالية" يحتفلون بالذكرى الثالثة لوفاة شاعر وراوي السيرة الهلالية العم "سيد الضوي".
وكالعادة في الذكرى، تشارك عدد من الشعراء والكتاب والمستمعين المحبين "للملحمة الشعرية الأشهر شعبياً" تسجيلات الضوي، واصفين إياه "بآخر رواة السيرة الهلالية".
ربما كان الوصف الأخير هو ما دفع منظمة اليونسكو قبل عشر سنوات لتسجيل السيرة، التي يتجاوز تاريخها 900 سنة من شفاهة القول وفطرة الارتجال لآلاف الأبيات، في قائمة الصون العاجل للتراث.
وبينما كان حفظة السيرة القلائل اليوم يؤكدون مقولة "موت السيرة الهلالية" مع رحيل آخر "بحور السيرة "، وهو الوصف الذي يطلق أيضاً على الحفظة الكبار، مثل جابر أبو حسين والعم سيد الضوي، كانت "الملحمة" تبسط طياتها في فضاء جديد برواية لبدو سيناء وتحديداً بادية شمال سيناء.
فبعد أن اتخذ معظم شعراء ورواة "سيرة بني هلال" من جنوب مصر مستقراً، بحكم الهجرات القبلية القديمة، انسحب استقرار من نوع آخر على الملحمة الشعرية نفسها، لتصبح رواية منغلقة جغرافياً، ذلك لأن ارتجال شاعر السيرة ينبع في معظمه من تفاصيل الحياة ومفرداتها، مع الاحتفاظ بالسياق العام للرواية.
ولذلك أيضاً تبدو الرواية الحديثة المكتشفة في مسطح صحراء بادية سيناء على النقيض، بسب الترحال الدائم والحياة المتجددة في البادية، حيث تفاصيل النص تتباين بين حياة الفلاح المستقر على النيل وحياة البدوي الرحال في الصحراء.
"سيرة بنى هلال" لها منزلة كبيرة وعزيزة في بادية شمال سيناء تحديداً، والبدو لديهم شغف بها
في الحرب الأخيرة المعروفة بـ"العملية الشاملة " على الإرهاب، فقد الباحث مسعد أبو بدر كل التسجيلات والأشرطة عن السيرة الهلالية التي جمعها خلال سنوات سبع، بسبب عمليات التهجير، واضطر لكتابة ما جمعة مره أخرى من ذاكرته وذاكرة الأصدقاء، لأن الحفظة الكبار كانوا قد رحلوا عن الدنيا أو أجبروا على الهجرة
سيرة بني هلال هنا والآن
"سيرة بني هلال" هي الملحمة العربية التي تحكي هجرة قبائل بني هلال من نجد إلى بلاد الحجاز فتونس، وتبدأ بميلاد البطل "أبو زيد ابن رزق ابن نايل".
في الميلاد والنشأة، سجّل رواة بادية سيناء أبيات مختصرة، تعرج على معظم تلك المحطات.
تقول رواية البادية: كان "بنو هلال" ساكنين في "نجد" في "جزيرة العرب"، ومن ضمن القوم رجل ينقال له سرحان، ورجل ينقال له رزق، ورجل ينقال له غانم.
قال الراوي: "خرجت مرة سرحان، وراوي ثاني بيقول مرة غانم مع مرة رزق في نزهة على عين الميه، ومعهن خادمة بتخدمهن..
وكانت الحريم كلهن حوامل، حتى الخادمة كانت حامل، شافن سرب طيور، وشافن طير كبير أبيض بيقود الطيور كلها، إن طار طارت الطيور وإن حط حطت الطيور، قالت مرة سرحان، أو مرة غانم: "يا ريت ربي يرزقني بولد يقود ربعه؛ مثل ما هالطير الأبيض بيقود الطيور". ثم جاء طير أسمر كاسر هجم على الطيور خلى ريشهن فطاط، قالت خضرا مرة رزق: "يا ريت ربي يرزقني بولد مثل هالطير الأسمر، يخوف الطيور كلها". قالت الخادمة: "وأنا يا حبابات؟" قالن: "وأنتي ربنا يرزقكي".
تختلف طقوس رواية أهل البادية للسيرة عن سابقتها، فهي تبدأ بدون الاستهلال الشهير الذي يقول "بعد المديح في المكمل أحمد أبو درب سالك، بنحكي في سيرة وأكمل عرب يذكروا قبل ذلك". فبحسب إجماع الباحثين تبدأ الرواية بدون مقدمة، أيضا تبدأ القصص بمقولة "قال لك وقال خير".
رواي السيرة الرحال من التاريخ إلى الجغرافيا
تحتوي رواية السيرة المنشورة مؤخراً ضمن مطبوعات وزارة الثقافة بعنوان "السيرة الهلالية رواية من سيناء"، على الكثير من هذه التفاصيل، بداية من النطق أو اللهجة، مروراً بالتاريخ وأخيراً الجغرافيا والموسيقى المصاحبة.
يقول كاتب الرواية الباحث السيناوي مسعد أبو بدر: "سيرة بنى هلال" لها منزلة كبيرة وعزيزة في بادية شمال سيناء تحديداً، والبدو لديهم شغف بها، وقد بدأت رحلة تسجيل السيرة والبحث عنها منذ عام 2007، من خلال مقابلات مع رواة من عائلة العوامدة، وهي فرع من قبيلة الرميلات التي تسكن مدينة رفح".
كانت قصة جمع السيرة نفسها تحيطها صعوبات تشبه كثيراً في تفاصيلها الصعوبات التي اقترنت دائماً بتاريخ وجغرافيا منطقة هامة ومنسية مثل سيناء.
حيث ظلت سيناء مرتبطة بتاريخ طويل من الحروب المصرية القديمة إلى العربية الحديثة، وكانت الفنون في المنطقة دائماً ما تتأثر بهذا الوضع غير المستقر وغالباً بالسلب.
في الحرب الأخيرة المعروفة بـ"العملية الشاملة " أي الحرب المفتوحة على الإرهاب، فقد الباحث مسعد أبو بدر كل التسجيلات والأشرطة التي جمعها خلال السنوات السبع الماضية، بسبب عمليات التهجير، واضطر لكتابة ما جمعة مره أخرى من ذاكرته وذاكرة الأصدقاء، لأن الحفظة الكبار كانوا قد رحلوا عن الدنيا أو أجبروا على الهجرة.
يعيش سكان البادية في جوٍّ صعب بسبب الطبيعة الجغرافية، لكنهم يحولون هذه الصعوبة لفن وفلسفة حياة، فتصبح الصلابة والحرارة والجبال والرياح والنار طريقة حياة ومنبعاً للفن.
عن هذه الصعوبة وعلاقتها بالسيرة يقول الأستاذ مسعد: "إن السيرة الشعبية هي نتاج الحياة"، ويكمل: "من الرواة الكبار في رفح عيد أبو عبد الكريم الذي قال لي إن عرب سيناء هم باقي قبائل الهلالية. فسألناه كيف؟ قال: حياتهم هي حياتنا، لذلك نحن من صنع الهلالية من شكلنا بما يوافق حياتنا وتفاصيلنا، وهي كثيرة، كشكل المنزل "بيت الشعر" والسامر والخيل والسيف.
يشير الباحث لأحد النصوص التي تشرح هذه التفاصيل بقول أبو زيد الهلالي:
أنا عبدهم يوم يشدوا ويرحلوا
وأنا سيدهم يوم البلا والنكايب
كان البيت الشعري قد ذكر في قصة مفاوضات أبو زيد الهلالي مع خليفة الزناتي التي تشرح قيم الكرامة المتمثلة بقوة في مجتمع البادية.
رواة قليلون ورواية مبتورة ومسطح لانهائي من الفن
قبل ثلاثين عاماً تقريباً كان شباب البادية في سيناء يستمعون إلى الرواة في مجالسهم قبل أن يرحلوا أو يهجروا من موطنهم، وكان أشهر هؤلاء الرواة في ذلك الوقت عيد عبد الكريم.
يقول أبو بدر: "استمعت إلى عيد عبد الكريم وأنا صغير، وكان آخر الشعراء الذين يحكون السيرة على الربابة، وكان يبدو عليه الحزن والألم، وعلمت فيما بعد أن هذا الألم بسبب كبره في السن وعدم مقدرته على إتمام السيرة الكبيرة جداً، حيث أنها تحتاج جهداً كراوي وشاعر".
يفرق الباحث أبو بدر هنا بين راوي السيرة، الذي ينقلها نصاً كما هي في معظم روايات أهل البادية المكتشفة اليوم في سيناء، وبين شاعر السيرة، الذي يمكنه الارتجال بفضل موهبته لأبيات جديدة في نفس المعنى، فمعظم رواة السيرة في سيناء وهم بعدد الأصابع، لم يكونوا سوى رواة لا يزيدون عن النص المنقول أو ينقصون منه.
كما أن السيرة من بعد عيد عبد الكريم لم تروَ على الربابة لكن ظلت كحكاية متناقلة فقط، ولا أحد يعلم حتى لحن المربع الأساسي لها.
يقول الباحث أبو بدر: "رواية بادية سيناء للسيرة ناقصة، دائماً كنا نسمعها مبتورة، وهذا في نفس الوقت يمثل مصدر الجدة في الرواية، فالجدة تكمن في تفاوت الرواة في الحفظ، ما يعطيك إحساساً دائماً بعدم الشبع، والرغبة في إكمالها عند شاعر آخر".
لا يوجد تسجيل صوتي لشاعر السيرة في سيناء حتى الآن، إلا أن البعض يرجح أنها كانت تغنى على لحن مختلف تماماً عن اللحن المتعارف عليه في التسجيلات الشهيرة، وربما يكون لحن الهجين، لحن المربعات المغناة لحث الإبل على السير.
يتذكر مسعد ثلاثة رواة هم الأشهر في تاريخ السيرة برفح هم: زكريا أحمد حفيد عيد عبد الكريم وسلمي أبو جبيل وعيد أبو بدر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...