شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أوضة نومي" عرض تفاعلي يورّط جمهور القاهرة في الحميمية والعنف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 24 سبتمبر 202101:32 م

نتسلل بهدوء، وفي صفّين. من كل باب يدلف صفّ إلى قاعة العرض المستطيلة، أو "أوضة النوم". في الطريق أرى الممثلَين يعيشان دوريهما على الفراش، فأشعر أننا داخلون في هيئة غير مرئية، مثل أشباح نتلصص على البطل والبطلة، وأن هذا ليس من حقنا. في ركن قصي من القاعة، أجلس فوق وسادتين مريحتين على الأرض، تشاركني إياهما متفرجة أخرى. أحاول ألا ألمسها وأنا أبحث عن وضع يريحني، لكن التلامس يحدث دون إرادتي.

منذ عام، وعلى فترات متقطعة، يقدم المخرج المصري محمود سيد، أربع قصص في عرض واحد هو "أوضة نومي". نتجت القصص عن ورش عمل ولقاءات بين الممثلين استعرضوا خلالها تجاربهم الشخصية أو تجارب آخرين كانوا على اطلاع عليها، وطوّروها بالكتابة حتى تخيّل مشهد مسرحي متماسك يقدمونه في العرض. تستغرق كل قصة تقريباً ثلث الساعة، ويفصل بينها أغنية بالإنجليزية يؤديها كل من أيمن جميع وآن إميل.

منذ عام، وعلى فترات متقطعة، يقدم المخرج المصري محمود سيد، أربع قصص في عرض واحد هو "أوضة نومي". يصف المخرج مسرحيته على أنها "عرض مسرح موقع-محدد تفاعلي"، وهو نمط من المسرح حديث العهد في مصر، يقوم على هدم البعد الرابع، والتخلي عن خشبة المسرح بمفهومها التقليدي

 يصف المخرج مسرحيته على أنها "عرض مسرح موقع-محدد تفاعلي"، وهو نمط من المسرح معروف في العالم وحديث العهد في مصر، يقوم على هدم البعد الرابع، والتخلي عن خشبة المسرح بمفهومها التقليدي، أي أن المسرحية تحدث وسط الجمهور وليس أمامه، ولا تطالبه بالجلوس في ثبات، بل تحثّه على حرية الحركة حولها. هنا لا توجد حصانة للممثلين، بل إن المتفرج مدعوّ للاقتراب منهم، وفحص أشيائهم الخاصة، إذا تطلّب فهم الموقف المسرحي ذلك.

تقول ورقة الإرشادات التي وزّعت علينا قبل الدخول: "ممكن تقعد في أي مكان جوا المشهد أو على الأرض مع مراعاة حركة الممثلين جوة أوضتهم". العرض من تقديم فرقة المسرح المصرية المستقلة "نمط"، وهو نفس الفريق الذي عرض من قبل مسرحية "النجاة" المأخوذة عن نص مسرحي غير شهير لنجيب محفوظ.

خلال عروضها المتقطعة، حققت "أوضة نومي" إقبالاً جماهيرياً كبيراً، وبالأخص في الثلاثة عروض الأخيرة من شهر سبتمبر، حيث نَفدت التذاكر. ومن المنتظر أن تستأنف العروض مرة أخرى الشهر المقبل، مع وعود بالتوسع في أماكن أخرى والسفر بين المحافظات. لكن كيف ستكون تجربة مشاهدة البرفورمانس؟

"سيجارة قبل ما نقوم"... شد وجذب

 جلوسنا في "أوضة نوم"، شبه متلاصقين -مع اتخاذ الإجراءات الاحترازية ضد كورونا- يشيع نوعاً من الحميمية بين الأجساد، سواء بين الممثل والمتفرج أو بين المتفرجين فيما بينهم. أحياناً كنت أتأمل أحذية جيراني، ثنيات ثيابهم، أوضاع جلوسهم، ونظراتهم وهي غارقة في الفرجة.

هناك حميمية أخرى كانت تدور بالقرب منّا، حيث يقف ممثِّلا القصة الأولى، عمرو جمال وندى نادر. المشهد على هذا النحو: امرأة في قميص نوم أسود ورجل عاري الصدر، يتبادلان البوح في لحظة ما بعد الحب على سرير عابر، إذ بعد قليل سينسحب الشاب مغادراً إلى بلد أجنبي حيث يعيش ويدرس. نفهم من سياق الحوار أنهما قد تعارفا عبر تطبيق "تندر" للمواعدة وقضيا ثلاثة أيام معاً، هي الأيام الأخيرة من عطلة الشاب.

مسرحية "أوضة نومي" تحدث وسط الجمهور وليس أمامه، ولا تطالبه بالجلوس في ثبات، بل تحثّه على حرية الحركة حولها. هنا لا توجد حصانة للممثلين، بل إن المتفرج مدعوّ للاقتراب منهم، وفحص أشيائهم الخاصة، إذا تطلّب فهم الموقف المسرحي ذلك

ويصوّر العرض الذي لا يتجاوز زمنه النصف ساعة، الساعات الأخيرة من عمر اليوم الثالث، في هذه الرابطة التي يتعارض طموح طرفيها. هي تقول: "أول مرة يطلع لي فيها شعرة بيضا، عاوزة حد يكون معايا". وهو يقول: "انتي مختلفة قوي عن كل اللي قابلتهم". تغرق المتفرجات الجالسات على الأرض في الضحك من العبارة التي مللن سماعها في الحياة الحقيقية، ويكرّرها الرجال حتى أفرغوها من كل معنى.

يقدم المشهد صورة عن علاقاتنا كما تنتجها وسائل التواصل الاجتماعي، وتنهيها الحياة الحقيقية والمسافات بين البلدان، والأحلام والتوقعات. في النهاية لا يريد الشاب أي علاقة جادة، لأنه كما يقول "خارِج من علاقة مش سهلة"، استمرت ستة أعوام ثم انتهت، وتعترف البطلة أنها شبه جاهزة للاستثمار في علاقة مع أي شخص: "خوفي من الوقت اللي بيعدي بقى بيتهيألي إني ممكن أحب أي حد".

"الفستان الأبيض"... جثة أم وابن مثليّ

في القصة الثانية، نتلمس الجرأة التي تسعى إليها فلسفة أو ربما روح هذا العرض. منذ الدخول الأول للممثل ناجي شحاتة، الذي يلعب دور خال البطل، بصوته المرتفع وحضوره الخاص... يشغّل تشغيل كاسيت القرآن الكريم بصوت مرتفع، ويتبعه شابان سمر البشرة، يحملان جثة ملفوفة في كفن أبيض، تحقق تأثير الصدمة على المشاهدين.

الشاب أشرف (كريم بسطا) وهو خيط مشترك في القصتين التاليتين، يعاتب جثة أمه التي عنّفته وألقته في الشارع قبل عشرة أعوام حين كان بعمر السابعة عشر، عقاباً له على شيء لم يختره. هي نفس الأم التي كانت تصرخ في وجه ابنتها ذات الإعاقة الذهنية (تؤدي طيفها في العرض أريج ملش).

نستشف أن للمسألة علاقة بميول الشاب الجنسية، قبل أن نسمعها صراحة في القصة الثالثة: "أشرف gay"، كما تقول البطلة بالإنجليزية لرفيقها. أما الآن، فنراه يبكي طويلاً ويتبدل موقفه من أمه الميّتة عدة مرات، من كراهيتها لأنها تخلّت عنه، إلى عتابها على أفعالها معه ومع شقيقته، وصولاً إلى التعاطف غير المشروط مع مأساتها؛ فهي في النهاية أم وحيدة هجرها الزوج.

يحاول خال البطل في الوقت الحالي أن يبيّض وجه الأم أمام أشرف، بقراءة بعض من أجزاء مذكراتها التي تعترف فيها بإثمها وتقصيرها تجاهه. في لحظة معينة، يكشف الشاب الغطاء عن وجه والدته، ويقترب منها كأنما يريد أن يستنطقها، لتقول أي شيء، أي شيء يخفف عذابه. ومعه يقترب أفراد من الجمهور... لكني أخفي وجهي بيدي ولا أغادر مكاني، تكفيني الكثافة الشعورية والسمعية للمشهد.

"عكّت"... العنف في صورته الصافية

ربما تعتبر هذه القصة الأكثر إثارة لصدمة المتفرجين. تبدأ بشتيمة توجهها البطلة إلى رفيقها بينما تضع المكياج على وجهها أمام المرآة، قرب السرير: "يا وسخ"، تتبعها بشتائم أخرى عديدة مثل "يا خول". لكن هذا ليس موطن الصدمة بكل تأكيد. يؤدي الممثلان سارة خليل وعبد الله نحاس، مشهداً من علاقة يتبادل فيها الطرفان السلوكيات النرجسية والكراهية والرغبة، ويخفيان عن الآخرين العنف اللفظي والجسدي والمعنوي الذي يمارسانه باستمرار أحدهما ضد الآخر.

لأن البطلة مذيعة راديو، تهتم كثيراً بصورتها أمام الناس. ولا أظن أن شيئاً في عرض "أوضة نومي" قد أربك المشاهدين أكثر من مشهد الضرب الذي تتعرض له، حين يدفعها البطل على الباب، لتصفعه هي، ويرتفع صوت الصراخ والخبط المؤلم على الخشب.

صرخت فتيات بيننا، وهّبت أخريات واقفات مستعدات للتدخل وإنقاذ البطلة. العنف هو أيضاً تفصيل يومي، لا تستطيع أن تتجاهله المرأة المصرية، وإذا تجاهلته في الحياة الحقيقية، تجده في مسلسلات التلفزيون التي يعتقد أصحابها أنهم يعيدون تمثيل الواقع ولا يساهمون في إنتاجه. الفارق هنا أن العنف متبادل، والغريب أنه كما سيبدو لنا في النهاية يكون مقبولاً من طرفي العلاقة.

"اللستة"... هل نشفى مما فعله بنا أبوانا؟

تعود القصة الرابعة والأخيرة إلى ثيمة الأهل مرة ثانية. حين يعاتب الرسّام الشاب ( إيهاب منير) صورة أبيه على رحيله من الحياة وتركه وحيداً. يعاني البطل من نوبة قلق ليلية تمنع عنه النوم، وتفتح في وجهه باب الأسئلة. يغيّر ثيابه أمامنا عدة مرات، يربك جلوس القاعدين على الأرض في نهاية الصالة ويضحكهم وهو يبحث بلا جدوى عن ثوب لا يُظهِر امتلاء جسده.

في نهاية الحديث يكشف الممثل ناجي شحاتة عن مفاجأة مثيرة: "إلى جانب استئناف العروض، نفكر في عمل جزء ثان من أوضة النوم، بلا شك هناك أشياء حميمية أخرى مسكوت عنها، وحان الوقت كي نقولها"

يذكرنا بشيء اختبرناه من قبل وهو يسجل للطبيب النفسي عبر الواتس آب، ثم يدعونا خفية إلى التسلل لسريره، وقراءة مذكراته الشخصية، ولا نعرف ما الذي يمثله بالضبط في حياة بطلنا المجروح من فقد أمه "أشرف" الذي يتسلل إليه في السرير، ليحيط بجسده الخائف. أو كأنهما جسدان خائفان يتعانقان إلى ما لا نهاية.

دفعة جديدة للمسرحية

بدا الممثل ناجي شحاتة سعيداً بردود الأفعال المرحبة بالعرض، وبالدفعة التي قدمها الجمهور للمسرحية، هذه المرة. وقد عمل شحاته لأكثر من خمسة وعشرين عاماً معلماً للغة الفرنسية، تخلل هذه السنوات نشاطه المسرحي ليلاً، وتفرّغ منذ عامين ونصف فقط للمسرح، وبدأ يشارك الفرق المستقلة في مصر عملها الدؤوب الذي يسعى إلى التجديد والابتكار.

يقول لرصيف 22: "تعرّف المخرج محمود سيد على المسرح التفاعلي أثناء إقامته في لندن، وأحب أن ينقل هذه التجربة إلى مصر، حين عاد للاستقرار فيها، تعارفنا أثناء تمثيلي في مسرحية (لا مفر) للمخرج عمر المعتز بالله، وكان هو مساعد مخرج لها. عندما حضرت المسرح التفاعلي صرت كالموهوم، اعتقدت أنه من الصعب أن أركز في أدائي وهناك جمهور حولي لا أستطيع التنبؤ بتصرفاته أو حركاته، خشبة المسرح تحميني، أما المسرح التفاعلي فيلقيني تماماً وسط الجمهور، لكن مع طول التدريب والاندماج تعودت على هذا التفاعل وصرت أستمتع به".

إذن لم تكن هذه المدرسة المسرحية مريحة للممثلين، أولاً لأن الجمهور غير معتاد عليها، ولأنه أحياناً لا يستجيب للإرشادات، وقد يجلس مثلاً في مكان على الممثل أن يتواجد فيه، أو ربما يعلّق بكلمة قد تخرِج الممثل عن تركيزه، فهناك صعوبة أخرى تتمثل في إيجاد مكان ملائم لطبيعة العرض، يواصل شحاتة:

"نود أن نقدم المسرحية كل يوم، لكن تواجهنا مشكلة المكان، نريد غرفة نوم بمواصفات معينة، تسمح للجمهور أيضاً بالتواجد، نحن ننفق على العروض من جيبنا، مثل كل فرق المسرح المستقل في مصر، نعمل في الصباح لننفق على فننا في الليل، أحياناً يكون هناك تمويل أو دعوة للمشاركة في مهرجان، وهذا يسهل أمامنا الطريق بكل تأكيد".

ما النصوص التي تقدمها المسرحية، فهي أيضاً عنصر يتفاعل مع بقية العناصر، يقول لرصيف 22: "هناك حالة بين الارتجال والاتفاق، مع كل عرض نخرج باقتراحات معينة بشأن تطوير جزء من الحوار أو حركة معينة، لننفذها في العرض التالي، يصبّ كل ذلك في مصلحة العمل".

يطمح فريق "أوضة نومي" للاستمرار في تقديم العروض في ظروف مناسبة، لتعويض فترة الانقطاع بسبب انتشار فيروس كورونا، وفي نهاية الحديث يكشف ناجي شحاتة عن مفاجأة مثيرة: "إلى جانب استئناف العروض، نفكر في عمل جزء ثان من أوضة النوم، بلا شك هناك أشياء حميمية أخرى مسكوت عنها، وحان الوقت كي نقولها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image