شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عندما أصبحت عجوزاً في الثانية عشرة من عمري

عندما أصبحت عجوزاً في الثانية عشرة من عمري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 21 سبتمبر 202109:44 ص

لا أعرف ما الذي دفعني الآن، للكتابة عن ذلك اليوم، يوم 15 تموز/ يوليو 2012، حين قصفت قوات النظام، شارع دعبول، في حي التضامن، في مخيم فلسطين الواقع جنوب العاصمة دمشق، حيث كنت أسكن.

قبل هذا اليوم، بيومين فقط، انتشرت شائعة بين الناس، مفادها أن ثمّة طائرة هليكوبتر مرّت فوق سماء المخيّم، وألقت منشورات تحذيرية تنذر الأهالي بإخلاء المكان، فخلال أيّام قليلة، سيحدث ما لا يتوقعه أحد، وسيُقصَفُ المُخيّم، "والمخفي أعظم"، كما قالت جارتنا يومها، وهي تتحدث بحذر وخوف شديدين.

كنت في ذلك الوقت، في الثانية عشرة من عمري، ولم أكن أفهم حقيقة ما كان يحدث من حولي. لاحظتُ فقط أنّ حياتنا تبدلت بعد ذلك اليوم الذي شاهدنا فيه على التلفاز، ونحن في زيارة لمنزل جدي في درعا، مظاهرةً وسط دمشق، يردد فيها المتظاهرون كلمة واحدة: "حرية".

تغيّرت حياتنا بعد ذلك اليوم، تغيّراً ملحوظاً، وصار أبي يكتب كثيراً، وسأعرف بعد سنوات من اندلاع الثورة، ومن خروجنا من سوريا، ولجوئنا إلى الأردن، أن أبي كان يكتب حينها مقالات ضدّ النظام باسمه الحقيقيّ، ومن دون خوف. وما لم أكن أفهمه، في ذلك الوقت، هو غضب أعمامي، وحرصهم الشديد على وجود أبي في المنزل. ففي ذلك الوقت، كما سأعرف من أبي لاحقاً، كان يخرج مع أصدقائه، ليشاركوا شباب الميدان، والأحياء القريبة، في المظاهرات، وكان يذهب إلى محال الإنترنت، حيث يمكنه استخدام الحاسوب، ومعرفة المظاهرة القادمة، من خلال منشورات فيسبوك. كان أبي يعمل في الصباح مدرّساً، وكان يعلّم تلاميذه، ما لم يرِد في المنهاج، كلّه، وكان جريئاً مشاكساً، يحكي عن الثورة مع "أصدقائه" التلاميذ، كما كان يُطلق عليهم، وكما يحكي معلمون آخرون، عن الخبز والماء.

استمرّ أبي في كتابة المقالات ليلاً، وتصحيح المنهاج لتلاميذه في الصباح، وكان يشارك في المظاهرات جميعها، ويعمل، هو وأصدقاؤه، في السرّ، واستمر ذلك حتى آخر لحظة له في سوريا، وحتى حين خرجنا، وإلى يومنا هذا.

ذهبنا، وحملنا القليل جداً معنا؛ بيجامات تكفي لليلتين، ومناشف، وشيبس، وبسكويت، وأشياء، على سخافتها وخفّة وزنها، ستكون في ما بعد، ما سنحمله معنا من ذاكرة للمخيّم، كله

في يوم 12 تموز/ يوليو 2012، وبعد أن انتشرت الشائعات، قررت غالبية الناس في مخيّم فلسطين حينها، المغادرة، وترك منازلهم مدة يومين، إذ ورد، حسب المنشورات الموّزعة، أنّه علينا إخلاء المكان يومين، والعودة في اليوم الثالث. وكان أن حدث ذلك. ففي ذلك المساء، اتفقنا، في العائلة، على أن تذهب كل عائلتين، وتجلسان في منزل شخصٍ ثالث من العائلة، يسكن في الشام، أو في ضواحيها.

ذهبنا، وحملنا القليل جداً معنا؛ بيجامات تكفي لليلتين، ومناشف، وشيبس، وبسكويت، وأشياء، على سخافتها وخفّة وزنها، ستكون في ما بعد، ما سنحمله معنا من ذاكرة للمخيّم، كله.

يوم الجمعة، ويوم السبت، يومان عاديان، غيرَ أنّي، وللمرة الأولى في حياتي، أتعرّف إلى مصطلحي: "جثّة، وأمن".

كنت مستيقظةً، في صباح اليوم الأوّل لنا من ذلك النزوح الخفيف المهيأ له بأقل الحمولات، والذي كنّا مبتهجين فيه كأطفال، إذ لا يحدث دائماً، أن نذهب مع بيت خالي إلى منزل خالتي في السبينة الواقعة في ريف دمشق، وننام ليلتين متتاليتين، ونسهر، ونتسلى، ونضحك. هذا الضحك الذي سيصير بعد أقلّ من 48 ساعة، بكاءً محموماً.

في ذلك الصباح من يوم الجمعة، اتصلت أُمّي بوالدي لتطمئن على الوضع، ولتفهم منه هل حدث ما هو غير متوقع، أم لم يحدث بعد؟ وأذكر يومها أن أبي قال شيئاً، فردّت أمي: "ما في أمن يعني؟"، ثم عضّت على شفتيها، وكمشت نفسها حين نكزتها خالتي، فغيّرت الموضوع فوراً. سأفهم في ما بعد، أنه صارت لأمي، مثل السوريين جميعهم، لغة جديدة، تتحدث بها على الهاتف، مع خالاتي، ووالدي، حين يكون بعيداً، وأنّهم سيتفقون على معاني المصطلحات، وأنه سيصير لكلمة عرس، معنى المظاهرة، وأن كلمة مداهمة ستصير علقة، وأنه لا كلمات ستبقى على معناها الأصلي، بعد تلك السنة.

حينَ أغلقت أُمّي الهاتف، أخبرتها زوجة خالي، أنّها هي أيضاً تحدثت مع خالي للتو، وأخبرها أنّ الوضع العام هادئ، لكن شخصاً قُتلَ، ووجدوا جثته التي ساقتهم إليها رائحتها العفنة، بالقرب من منزل جارهم أبي وسيم.

لم يحدث شيء مهم. أشياءٌ بسيطة حدثت، ومرَّ اليومان، عاديّين، ومصطلحات جديدة، وفراخ خالتي في الحوش، وصوتٌ ينذر من بعيد، بهمسٍ لم نسمعه، بأنَّ القادم... القادم سيكون أعظم.

في يوم الأحد صباحاً، عدنا جميعاً من رحلتنا القصيرة، التي ستطول بعد ساعاتٍ من عودتنا، أو أقل... يوم الأحد سبقتنا أمي إلى البيت، وقالت: "على مشية ستك لن ألحق، سأذهب لأضع الطبخة على النار". طبخة البامية التي، ولسخرية الصدف، ستصير الأكلة المشؤومة عند أغلب أفراد العائلة، لأنها كانت طبق غالبيتهم في ذلك اليوم. ذهبت أمي، ومعها إخوتي، وبقيت مع جدتي نمشي على مهلٍ في طريقنا إلى المنزل، وحين اقتربنا من الحارة، فاجأتنا امرأة، لا هي تعرفنا، ولا نحن نعرفها، وقالت، وكان وجهها -لا زلت أذكره إلى الآن- يقطرُ خوفاً: "صاروا بسوق الثلاثاء". قالت تلك الكلمات، ودهشة عينيها ووجهها، في وجهي، وصرتُ خائفةً من دون أن أدري، من هم الذين وصلوا إلى سوق الثلاثاء، وصاروا هناك، وما الرعب في ذلك؟

دخلنا، وقالت جدتي، وهي تلتقط أنفاسها، بعد أن صعدنا إلى الطابق الرابع: "ما في أحلى من البيت، إلا طريق الرجعة عليه". وأكملت: "الله يرضى عليكِ يا ستّي، بعد شوي أصلّي، وتاخذيني على بيتي". وكان منزل جدتي الذي سيصيرُ رماداً في ما بعد، يبعد عن بيتنا، حارتين فقط.

كانت جدتي تركض معي، وفي لحظةٍ، توقّف العالم من حولي. وبينما تحاول جدتي الركض، توقفت فجأة، وقالت: "إنتِ روحي يا ستّي، روحي حبيبتي، أنا سأبقى هنا". صرختُ، وقلت: "أمانة يا ستّي لاء"

أصوات صراخ على وسع الفضاء، وصوت النظرات المرتعبة يُسمع في ذلك اليوم، على أنّه صراخٌ زائد عن حدّه، وحنين التي ستموت بعد قليل، تطلُّ من شرفتها، وتسألني: "شوفي يا رب شوفي!!!". والصوت الذي همسَ همساً: "القادم أعظم"، يدوي صداه في أذني، فأصعد الدرج عشرات المرات، وأنظر إلى النافذة؛ دخانٌ من مكان قريب، والناس يركضون بلا هوادة، والصمت صار بقِدم الأزمان، وصار الصراخ يقترب أكثر، ونزلت، وكانت أمي تحاول أن تلملم الأوراق المهمّة. رجوتها، أنا وأخي الأكبر، أن تترك كل شيء، وأن نهرب كما يفعل الباقون. صراخ، وصراخ، ونافذة سأطلُّ منها للمرة الأولى بهذا الشكل، وللمرّة الأخيرة أيضاً، حتى آخر الأبد البعيد. أمي تحمل شنطةً صغيرة. وإخوتي معي، وجدتي مصرّة على أن تكمل الصلاة. نزلنا وركضنا مع الباقين، وكانت جدتي تركض معي، وفي لحظةٍ، توقّف العالم من حولي. وبينما تحاول جدتي الركض، توقفت فجأة، وقالت: "إنتِ روحي يا ستّي، روحي حبيبتي، أنا سأبقى هنا". صرختُ، وقلت: "أمانة يا ستّي لاء". وجاءَ رجلٌ من خلفي، وحملها، وصرت أبكي، وأصرخ، وانتبهت، أني وجدّتي، قد أضعنا أمي والباقين، وسط الزحام الهستيري.

ركضنا حينها، من دون أن نعرفَ وجهتنا اللاحقة. نركض من دون توقف، وننظر إلى بعضنا البعض بهلعٍ شديد، لا أحدَ يفهم ما حدث. وثمّةَ رجالٌ يؤمّنون للناس الطريق.

ركضنا باتجاهٍ واحد، كان الرجال الذين يساعدون الناس على سلك الطريق، يقولون: "اذهبوا إلى مدارس الفلسطينيّة، روحوا على مخيّم اليرموك". وركبنا كما ركب الناس، ركبنا، جدتي وأنا، في "الهوندا" الكبيرة التي حملت أناساً آخرين، لا نعرفهم، ورأيت أمي حينها تصرخ، وتركض باتجاهنا، سعيدة للحظةٍ، لأنّها وجدتنا، حزينة بقية اللحظات.

في ذلك اليوم، عَبرتُ الجسر الواصل بين الطفولة والهَرَم، تلك الحالة الفيزيولوجيّة التي تعبرُ المرء بعدَ كَبَر. في ذلك اليوم، عبرتُ الجسر، وبعدَ حينٍ سيحرق النظام منزل جدتي، وستصاب جدتي بعيارٍ ناريّ، وستصرخ مثلما تعوي ذئبةٌ ضارية عند غياب أحد ذئاب القطيع، وستبكي جدتي غياب أبنائها الذين سيبكونها بعد حين... سيَمرُّ ما سيَمرُّ، وسيظلُّ عالقاً من ذلك اليوم، صوت جدتي الذي أسكت بكاء العالم، وطبطبَ على أذنيّ: "روحي يا حبيبتي إنتِ"، ويداها تشيران إلى ما لستُ أعرف... "روحي أنتِ، وأنا بَظلّ هون.".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image