ما إن يُذكر اسم دير سيدة صيدنايا حتى تسترجع ذاكرتي إحدى الحكايات التي سمعتها طفلاً عن امرأة ذات رحم "مُعَنِّد"، إذ لم يكتمل عندها أي حمل، فنصحها أحدهم بأن تتشفع للعذراء وتزور ديرها في بلدة صيدنايا الواقعة شمال دمشق وعلى بعد ثلاثين كيلومتراً منها، وهذا ما حصل؛ زارت الدَّير وتضرعت لسيدته، ونذرت مع زوجها بأنها إن أنجبت فسيُقدِّمان "تنكة" زيت هديةً لأيتام الدير، وفعلاً ما هي إلا أشهر قليلة حتى وهبهما الله طفلاً جميلاً، وإيفاءً منهما لنذرهما، حمل الزوج تقدمتهما، وبدأ بصعود الدرج الموصل إلى الدير، وبسبب التعب وضع حِمْلَه على إحدى الدرجات، وبسبب نقاء سريرته وصفاء روحه انطبعت مكان موضع "التنكة" أيقونة للعذراء مريم ما زالت موجودة حتى الآن، ويتبارك فيها الزائرون والحجاج، ويربطون على القفص المعدني المحيط بها خيطاناً بيضاء بنيّةِ الشفاء وفكّ الكرب وتحقيق الآمال وغير ذلك.
غزالة النُّور
هذه ليست الأعجوبة الوحيدة الشائعة، بل إن من يدخلون إلى غرفة "الشاغورة"، أهم المعالم الأثرية في الدير، سيصادفون عكاكيز وأجهزة معدنية لشدّ المفاصل تعود إلى مؤمنين دخلوا بقلوب صادقة طالبين المعونة من السيدة العذراء، ولإيمانهم خرجوا مشافين ولم تعد تلك الأجهزة تلزمهم. ونسمع عن كثير من المشلولين دخلوا الدير إما على كراسٍ متحركة أو محمولين من قبل ذويهم، وخرجوا على أرجلهم، والجميل أن قاصدي هذا الدير للصلاة والتبرُّك ليسوا فقط مسيحيين، بل بعضهم مسلمون وحتى من معتنقي الديانة اليهودية في أزمان سابقة.
وببعض البحث والسؤال اكتشفت أنه حتى بناء الدير في عام 547م في هذه المنطقة بالتحديد كان المكان عجائبياً وفيه نفحة من الأسطورة، إذ جاء في كتاب "أديار الكرسي الأنطاكي" (منشورات جامعة البلمند، 2007): "يروي لنا التقليد أنّ الدير بناه الإمبراطور البيزنطي يوستينيانس الأوّل (527-565). ويأتي في الأسطورة أنّ الإمبراطور خرج بجيوشه لمهاجمة الفرس عبر سوريا فعسكر في صحرائها. وخلال الاستراحة خرج الإمبراطور للصيد فوقع ناظراه على غزالة وبعد مطاردتها وقفت على رأس رابية بجوار ينبوع ماء متدفق رقراق. هناك لم تترك الظبية للصياد أي فرصة ليسدد سهامه نحوها، إذ تحولت فجأة لطيفِ السيدة العذراء يشعّ منه نور عظيم، وخاطبت الملك داعيةً إياه لبناء كنيسة لها في الموقع على الصخرة العالية التي كانت تقف عليها. وما لبث أن غاب شبح الغزالة".
كل ذلك أشعرني أنني أمام حفاوة معمارية وتزينية من نوع خاص، زاد من أثرها عمادة أحد الأطفال والصلوات المرافقة
"في اليوم الثاني شاهد الملك الأساسات مخططة بالبياض على الأرض تعيِّن شكل البناء القائم اليوم، فبدأ يوستينيانس العمل على إرساء دعائم بناء الدير. وعندما اكتمل البناء أصبحت ثيودورا، أخت الإمبراطور يوستينيانس، أول رئيسة للدير. لكن لا يوجد أيّ مستند من تلك الحقبة يثبت أنّ يوستينيانس هو الذي بنى الدير. فجدران صيدنايا لا تحمل أيّ أثر من القرن السادس، ولا يذكر بروكوبيوس القيصريّ (ت. 561)، مرافق يوستينيانس ومؤرخّه الرسميّ، أيّ شيء عن تأسيس الدير. كما أنّ المؤرخين المسيحيّين الذين عاشوا في العصر الوسيط، لا يذكرون يوستينيانس، بل يرد في أعمالهم أنّ الدير أسّسته أرملة خلال العصر البيزنطيّ انسحبت من العالم لتعيش حياة النسك في القلمون. هكذا، فبدون أيّ دليل مثبت يربط صيدنايا بالحقبة البيزنطيّة، يكون من المستحيل التحدّث بثقة ويقين عن نشأته الأولى".
العذراء بتصوير لوقا البشير
بعد صعود السلالم، أدخل إلى الدير من بابه الواطئ، ثم بضع درجات، لأصادف عدّة أروقة صغيرة، يقودني أحدها إلى "الشاغورة". أخلع حذائي، وأهم بالدخول، وإذا بغرفة صغيرة ببابٍ سقفه منخفض، ولا نور فيها سوى الشموع التي يشعلها الزوار مع عدة أسرجة للزيت، تحيطها الأيقونات من كل مكان، وتتدلى على الجدران العديد من المصابيح والسلاسل الفضية والمذهّبة، وتتوسطها راهبة تتلو الصلوات باسم طالبيها. وما أن تنهي صلاتها حتى تغمس قطنة ببعض الزيت تمنحها للزائرين بغية التبرُّك، لاسيما أن "الشاغورة" تحوي أيقونة للعذراء مريم هي واحدة من ثلاث أيقونات رسمها لوقا الإنجيلي البشير ظلَّت ترشح زيتاً لسنوات طويلة.
ورغم أن التصوير ممنوع داخل هذه الغرفة التي تفرض جواً خاصاً من الخشوع، إلا أن فضول الصحفي دفعني لاستغلال انشغال الراهبة بالصلاة، والتقاط صورة وحيدة، ثم تشغيل هاتفي لتسجيل صلاتها التي تتكرر مع كل راغب من الزوار، وتقول فيها: "انظري بإشفاق يا والدة الإله الكُليّة التّسبيح إلى شقاء أجسادنا واشفِ أوجاع نفوسنا، ارحمنا يا الله كعظيم رحمتك نطلب منك فاستجب وارحم، يا رب ارحم، يا رب ارحم، يا رب ارحم، وإذ نطلب من أجل الرحمة والحياة وجبران الخاطر والتوفيق والسلام والأمان لعبيد الله المُقدَّمة هذه الدعوات من أجلهم (فلان وفلان وفلان)، وأهلهم وعائلاتهم وإخوتهم وأولادهم وكافة المختصين بهم".
معبد الإله صيدون
أعود إلى التساؤل عن معنى "الشاغورة"، وأجدها كلمة من اللغة السريانية تعني "ذائعة الصيت" أو "اللامعة"، ومن معانيها الأخرى "الينبوع"، وهذه صفة موافقة لمريم أم يسوع، بما أنّ المسيحيّة بلغت إلى البشريّة بواسطتها، أما اسم صيدنايا ففُسِّر بطرائق متعدّدة، فبحسب التراث المحلّيّ، صيدنايا هو "مكان استراحة الغزال". كما يُظنّ أنّه يعني "السيّدة الجديدة" بما أنّ كلمة "نايا" باليونانيّة هي "جديد"، والجزء الآخر من الكلمة هو "سيّدة" بالعربيّة.
اكتشفت أنه حتى بناء الدير في عام 547م في هذه المنطقة بالتحديد كان المكان عجائبياً وفيه نفحة من الأسطورة
لكنّ لفظ "صيد" مرتبط بشكل عامّ بمعنى الاصطياد، و"نايا" باللغة السريانيّة لاحقة شائعة خاصّة بالمكان. لذلك فعلى الأرجح أنّ اسم صيدنايا هو "مكان الصيد". كما تشير بعض الدراسات التاريخية أنه في هذا المكان من ريف دمشق كان ثمّة معبد للإله صيدون، إله الصيد الفينيقيّ، ينتصب في ذلك المكان الذي كان في الماضي السحيق غنيّاً بالغابات. ولكن بفعل التأثيرين المسيحيّ والعربيّ اللاحقين، ربّما شاع أنّ الاسم يعني "مكان السيّدة"، وفي أحد الأبحاث التاريخية ذكر هذا الموقع تحت اسم "صادمنايا"، إلاّ أنّ المخطوطات اللاحقة تقدّم أسماء أخرى. ففي العصر الصليبيّ كان المكان يُعرف بدير سيّدة صرديناي أو سيّدة الصخرة، وفي القرن الخامس عشر يظهر اسم صردينايره، أمّا في القرن السابع عشر فصيدينايا إلى أن أصبح أخيراً صيدنايا.
أيقونات وأشعار
أمشي في رواق آخر وأتأمل جمالية العمارة بحجارتها البيضاء الناصعة أو المائلة إلى اللون الأصفر في أماكن أخرى، فتلفتني لوحة فسيفسائية في جوف أحد الجدران للإمبراطور جوستينيانوس وأخته ثيودوره تتوسطهما العذراء مريم، كما انتبهت إلى اللوحات الشعرية في أكثر من مكان، وأغلبها بلغة زجلية جميلة؛ فعلى جدار الكنيسة عُلِّقت لوحة من أشعار كرم نصّور جاء فيها: "صيدنايا الشامخة بعمارها/ التاريخ وزّع ع الدني أخبارها/ مَرّ جستنيان صدفة زارها/ لحق الغزالة بَعَّدت مشوارها/ عَيَّن بسهمو يصيدها بديارها/ طلّت صبية وأشرقت أنوارها/ قالت: أنا العدرا، الله اختارها/ ابني مسح كل الخطيّة وعارها/ فرضت على صيادها إقرارها/ وعمّر الدير وشيدوا بجوارها".
أدلف بعدها إلى كنيسة الدير حيث التوليفة الجمالية بين الخشب البني لحامل الأيقونات "الأيقونسطانس" والرخام الأبيض للأعمدة، فضلاً عن قبة الكنيسة المرسومة بعناية والمزخرفة بطريقة العجمي، ويتوسطها مجموعة من النجوم وصليب في المنتصف، وحول تلك القبة تتدلى عشرات الثريات الكريستالية.
كل ذلك أشعرني أنني أمام حفاوة معمارية وتزينية من نوع خاص، زاد من أثرها عمادة أحد الأطفال والصلوات المرافقة، ولطف أهله الذين طلبوا مشاركتي مع ولديّ تلك المراسم، وبعد الانتهاء والمباركة لذلك الطفل وذويه، تابعت استكشاف معالم ذاك الدير، وإذا بمكتبة ضخمة يُمنع على الزوار الدخول إليها، لاحتوائها على مخطوطات نادرة وتحف يعود بعضها إلى أكثر من ألف عام، كما أخبرتنا إحدى الراهبات، وإلى جانبها هناك مكان سكن الراهبات، أو صوامعهن، وغرف مخصصة للأيتام، والمطبخ ومجموعة أقبية، وغرف قديمة مقببة مخصصة للمؤن، كلها مبنية مباشرة فوق الصخر الذي يمكن رؤيته في الممرّ المؤدّي إلى "الشاغورة".
وعبر درج نصل إلى السطح الذي يُطل على البلدة التي باتت بيوتها ملاصقة للدير، هناك تصبح بالقرب من أبراج الكنيسة وأجراسها النحاسية التي تملأ الدنيا فرحاً في عيد ميلاد السيدة العذراء وهو ذاته عيد الدير الموافق للثامن من أيلول/سبتمبر في كل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...