في قرية نائية تتبع محافظة سليانة شمال غربي تونس، وقبل حوالي 60 عاماً، انتشر نبأ الولية الصالحة 'ركائز القبيلة' في أرجاء القرية، والقرى المجاورة، ووصل صداها إلى المدن، وأشاعوا أنها تصدت لسارق غريب بكل قوة.
وتقول الأسطورة إن القرية داهمتها فيضانات وموجة برد خطيرة سنة 1969، وصادف ذلك مرور رجل غريب عن القرية، أراد أخذ قطعة خشب لإشعالها للتدفئة، فهاجمته، وضربته ضرباً مبرحاً، فنجا من غضبها بأعجوبة، وتحولت منذ تلك اللحظة من قطعة خشب، طولها حوالي نصف متر، إلى "ولية صالحة" يخشاها الجميع، ويطلبون رضاها وعفوها.
وتنتشر ظاهرة الأولياء الصالحين وزيارة الأضرحة بشكل لافت في المجتمعات الإسلامية، إذ تحظى هذه الظاهرة بقداسة هامة في المغرب العربي وتونس، ويقصدها الناس للتقرب من الله، والبحث عن الراحة النفسية والسلام الروحي.
قطعة خشب مقدسة
تقر جميلة، وهي التي تشرف على الولية 'ركائز القبيلة' وتستقبل الزوار بعد وفاة حماتها، في حديثها لرصيف22 بأنهم يتقربون إلى "قطعة خشب"، ويقدسونها منذ عشرات السنوات، وذلك سيراً على منهاج أجدادهم.
وتضيف: "هي ولية صالحة تحمي أرضنا وعرضنا، وتقف في وجه كل من يحاول سرقتنا أو التعدي على ممتلكاتنا، كانت سبباً في زواج الفتيات، وسهلت ولادة نساء القرية، وشفت المرضى ببركتها".
وتتابع: "في تسعينيات القرن الماضي، حاول صبي من القرية التسلل من نافذة منزلنا لسرقة بعض الخبز والحليب، لكنه فوجئ بقوة غريبة تدفعه للخارج كلما حاول الولوج لردهة البيت، فسقط من الأعلى، وكسرت ساقه. هناك قوة غريبة وخارقة تحمي منزلنا منذ أن دخلته 'ركائز القبيلة'".
وفي إجابتها على سؤال حول "طبيعة القوة الخارقة التي يمكن أن تمتلكها قطعة خشب"، أجابت غاضبة: "هناك من يراها قطعة خشب مخضبة بالحناء، لكننا نراها أمناً، وركيزة القرية، كل من يأتي لزيارتها يدرك قوتها وهيبتها وينال بركتها'.
تنظر جميلة إلى 'ركائز القبيلة' بكل امتنان ثم تزم شفتيها بحسرة وعبرات الدموع تخنقها لتقول: "كيف لي أن أنسى عندما سهلت ولادتي لابني الأخير التي كانت صعبة جداً، وكاد ابني يموت داخل بطني".
تغمض عينيها كأنها تسترجع اللحظة، وتضيف: "كان الطقس بارداً جداً والثلوج تهطل، وكنت وحيدة في البيت لأن زوجي يعمل في محافظة أخرى، وهو مطمئن لأنها معي تحرسني من كل الشرور، وفعلاً كانت حاضرة عندما شعرت بآلام المخاض، كنت أصرخ لأن الطفل أبى النزول وخارت قواي، وتعالى صوتي بالنحيب والبكاء وطفلي لم ينزل بعد ولم أسمع صوته، فخفت أن يكون قد مات. حينها تذكرت بركتها، وصرخت بأعلى صوتي مصوبة نظري تجاهها: 'يا ركائز القبيلة أنقذيني في هذه الليلة'. لم أكمل الجملة بعد، وأحسست بقوة خارقة تدفع طفلي خارجاً، ولم أستيقظ إلا على صوت بكائه".
وتضيف متحدثة عن طقوس التقرب من الولية الصالحة: "في العادة يأتي الزوار لزيارتها كل يوم جمعة، ويجلبون معهم البخور والشمع وأغطية رأس ملونة، ثم يقومون بدهنها بالحناء المعجونة بماء الزهر، وبعد ذلك يبدؤون في التضرع لها والتبرك بها لتحقيق أمنياتهم، مثل الزواج، والنجاح، فهي توصل أدعيتهم إلى السماء، ويقبلها الله".
صندوق مبارك
يشرف العم سعيد شلبي (65 عاماً) على الولي الصالح 'جدي سعيد بوغربال'، يخصص له غرفة داخل منزله المتواضع، الذي يقع في منطقة الجلاب من محافظة سليانة، ويستقبل الزوار الذين يأتون لزيارة الولي للتبرك والدعاء لقضاء حاجياتهم، وتسهيل أمورهم.
يمشي العم سعيد بتؤدة، والصمت يخيم على المكان، كأنك به في حضرة روح مقدسة، تهيمن طاقتها وموجاتها السحرية على المكان، منطلقة من ذلك الصندوق الخشبي القابع في ركن مظلم في آخر الغرفة، ثم يجلس أمامه متمتماً بكلمات غير مفهومة، وينفخ على غبار تراكم على صندوق الخشب ليتناثر متعامداً مع أشعة الشمس، التي تسللت عبر ثقب الباب، وكأنها تتزاوج مع هالات سحرية في الغرفة.
"في تسعينيات القرن الماضي، حاول صبي من القرية التسلل من نافذة منزلنا لسرقة بعض الخبز والحليب، لكنه فوجئ بقوة غريبة تدفعه للخارج كلما حاول الولوج لردهة البيت، فسقط من الأعلى، وكسرت ساقه. هناك قوة غريبة وخارقة تحمي منزلنا"
يفتح سعيد الصندوق بحذر بالغ، خشية كسر بابه الخشبي، الذي أكلته السنون، وتباعد خشبه، وانتفخ بفعل الرطوبة، فتنبعث رائحة غريبة متناغمة تماماً مع المكان السحري، فهي مزيج من رائحة كافور، وملابس، وأعلام، وكتب قديمة، وعطر تغيرت تركيبته بفعل القدم.
يخرج عمامة خضراء حريرية، يشمها بعمق، ويتنهد تنهيدة تشق الأنفاس، ويقول والدموع تملأ عينيه: "هذه عمامة جدي سعيد رحمه الله، أحرص دوماً على لمسها، وتمريرها على جسدي قبل كل مهمة أقوم بها، وهي جد مجدية، وفعالة، فبينما كنت في العشرين من العمر كنت ذاهباً إلى ليبيا للبحث عن عمل، ونسيت أن أتبرك بالعمامة فاعترضتني صعوبات جمة، حينها تذكرت أنه سخط جدي سعيد، ومنذ ذلك اليوم لم أترك تلك العادة يوماً، والحمد لله كل أموري صارت ميسرة".
ويضيف: "إنها فعلاً خارقة، وبركتها منتشرة في كامل الغرفة، مما جعل لها مكانة خاصة عند كل الأهالي الذين يأتون للزيارة والدعاء، وللبحث عن السعادة والراحة النفسية'.
ويتابع: "عاش 'جدي سعيد' في عهد البايات، كان شيخا أعمى لكنه نّيّر البصيرة، وهو مبارك زهد في الدنيا، وأحبه الجميع، ولديه منزلة رفيعة عند الله، وبعد وفاته جلبنا مقتنياته للتبرك بها، ويأتينا الزوار من كل مكان للدعاء والتقرب من الله".
يصف محدثنا الولي الصالح بـ"صاحب القداسة" ويروي لنا نقلاً عن أجداده أنه لم يكن يأكل مثل الناس العاديين، وكان يشرب الحليب فقط منذ ولادته حتى وفاته.
ويروي أيضاً أنه "ذات يوم جاء لصوص، وسرقوا بقراته فتضرع إلى الله وبكى، وعندما أنهى دعاءه وجد البقرات بجانبه".
طلب البركة والتقرب من الله
يأتي الزوار لزيارة "جدي سعيد"، أو بالأحرى للدعاء والتضرع إلى الله أمام صندوق قديم يحتوي على بعض الملابس والوثائق والأعلام القديمة، وبين هؤلاء الزوار الشابة التونسية سمر (اسم مستعار)، تعمل ممرضة بأحد المستشفيات العمومية.
تقول لرصيف22: 'أصدق روايات أجدادي حول بركة الولي الصالح 'جدي سعيد'، وأنا أزوره باستمرار للتبرك به وطلب المغفرة من الله، أشعر أنه وسيط مبارك بيني وبين الله، وأشعر بالراحة النفسية، والسلام الداخلي عندما أزوره".
وتواصل: "كانت أمي رحمها الله تحب زيارة الأولياء الصالحين، فكانت تعيش حياة روحية هادئة، ولم تعترضها صعوبات أو عراقيل في حياتها، تعلمت منها احترام الأولياء الصالحين، والتقرب منهم ليكونوا وسطاء بيننا وبين الله'.
"قول البعض إننا نقدس ونصلي أمام مجرد صندوق خشبي قديم ومتآكل غير صحيح، والجميع هنا يعرفون بركة ولينا الصالح، وقوته، وقداسته رغم أنه مدفون في منطقة بعيدة"
وتقول الفتاة الشابة: "أسير على منهاج أجدادي، ولا علاقة للمستوى التعليمي أو الثقافي بما أقوم به، نحن في دول المغرب العربي عموماً لدينا علاقة خاصة جداً مع الأولياء الصالحين".
تدافع سمر بشدة عن "بركة" الأولياء: "قول البعض إننا نقدس ونصلي أمام مجرد صندوق خشبي قديم ومتآكل غير صحيح، والجميع هنا يعرفون بركة ولينا الصالح، وقوته، وقداسته رغم أنه مدفون في منطقة بعيدة".
حجر وشجر وأساطير
تعلق الباحثة في الشؤون الثقافية والاجتماعية حياة الزواغي، قائلة إن الأولياء الصالحين لديهم مكانتهم الخاصة في دول المغرب العربي، وإن هناك تصنيفات عدة لهم، منهم من يحظى بتقدير وقداسة بسبب زهده في الدنيا وتكريس حياته في تعليم القرآن ونشر الفقه.
وتضيف الزواغي لرصيف22: "الصنف الثاني من الأولياء في تونس هم أولئك الذين يصنعهم المجتمع، فتجد من يتبرك بشجرة أو حجر عملاق ويعتبره ولياً يحمي القرية أو المكان الذي يوجد فيه، وكل هذا يكون استناداً إلى أساطير وحكايات تُخلق وتتناقل من جيل إلى آخر، وتجد حاضنة شعبية، خصوصاً في الأرياف البعيدة والقرى".
وتواصل: "رغم تراجع هذه العادات بسبب ارتفاع نسبة التعليم فإنها لم تندثر كلياً من مجتمعاتنا، ولا تزال متوارثة حتى لدى الأجيال الجديدة، الذين يشعرون بأنه لا يمكنهم التخلي عن أوليائهم الصالحين، ويعتقدون أن التفريط فيهم خيانة للآباء والأجداد".
وتشدد الزواغي على دور الخوف في تغذية تلك العادات، تقول: "كما أن الأجيال عادة تتربى على الخوف من غضب الولي الصالح، وهو ما يجعلها تسعى لنيل رضاه من خلال التبرك به، وزيارته لطلب العفو والشفاعة، والتقرب من الله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت