"وهل سمح لكِ زوجك بذلك؟ والله كتر خيره"؛ تلك الجملة أسمعها كثيراً، من رجال ونساء، أولهما أخي وأمي، في كل مرة أسافر فيها وحدي. منذ أن تزوجت، ينظرون إلى الأمر، وكأنه معجزة صعبة التحقيق، وهي كذلك بالفعل، في مجتمعات تقع تحت أحكام السلطة الأبوية. فدائماً هناك رجل ما، يجب أن تحصلي على موافقته، لممارسة نشاطات أقل من طبيعية، مثل السفر، حتى وإن كانت كلفة السفر من أموالك الخاصة، إذ يجب أن "يسمح" لكِ هذا الرجل "المسؤول" عنك، بالسفر. وتلك -اسمحوا لي بأن أقولها- مأساة، قررت التخلص منها في مراهقتي.
بخمسة جنيهات، وبطيخة، كان يريد هذا الرجل العجوز أن يتحكم بحياتي، كمراهقة في حاجة إلى رعاية، بعد وفاة أبيها. يأتي لزيارة شقيقته، أمي، ويمنحني حضناً زائفاً، ويترك البطيخة في جوار الباب، وكأنها القربان الذي يقدمه ليكون هو رجل البيت، بعد وفاة أبي، هو وأبناؤه الذكور الثلاثة، ثم يمنحني خمسة جنيهات، قبل أن يذهب. كان يقوم بهذا الطقس أسبوعياً، ولكنه يمارس سلطته، هو وأبناؤه، علينا، أنا وأمي، يومياً، بينما أخي يشاركهم تلك السلطة، وفقاً لأهوائه، وإذا اعترضتُ لأمي، تُخرسني بالكلمة المعتادة: "الخال والد".
تدهشني قدرة بعض النساء، على التخلي عن حقوقهن في تدبير شؤون أبنائهن الذين كافحن لتربيتهم، مقابل أن يكون للمنزل "رجل" مسؤول عنه، في حين أنه مع وجود الرجل في كثير من الأحيان، تكون المرأة هي المسؤولة الفعلية عن كل شيء؛ هي من تدبر اقتصاد المنزل، وهي من تعرف ما يدور في حياة أبنائها، وهي من تفعل كل شيء، حرفياً، يفعله الرجل، بالإضافة إلى أشياء لا يستطيع الرجل فعلها. ومع ذلك، بعضهن لا يشعرن بالراحة، إلا لو كان لهذا البيت رجل، و "ظل راجل ولا ظل حيطة". بالنسبة إليّ، كانت "الحيطة" أكثر فائدة.
أمي قررت أن تتخلى عن سلطتها التي اكتسبتها من أبي شخصياً، الذي كان تاركاً لها زمام الأمور، بسبب ظروف سفره المتكرر، ومنحتها لخالي وأولاده، ولكنني أدركت أنني عند مفترق طرق. وتلك اللحظة التي وقفت فيها أمام ابن خالي، الذي يريد أن يعنفني ويضربني، لأنني رفضت تنفيذ تعليماته، أيقنت أنها ستشكل مسار بقية حياتي، وإلى الأبد، ولذلك التقطت سماعة الهاتف، وطلبت الشرطة لأولاد خالي الثلاثة، بعد أن انفعلوا في وجهنا، أنا وأمي، واستخدموا العنف، وقد خُلع كتف أمي في تلك الواقعة، على يد ابن خالي الأصغر... "راجل البيت!".
في تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام ابن خالي، الذي يريد أن يعنفني ويضربني، لأنني رفضت تنفيذ تعليماته، أيقنت أنها ستشكل مسار بقية حياتي، وإلى الأبد، ولذلك التقطت سماعة الهاتف، وطلبت الشرطة لأولاد خالي الثلاثة
دائماً ما كان يدهشني مشهد رأيته أكثر من مرة، في الدراما العربية، والذي من المفترض أنه مؤثر وعاطفي، في حين أنه كان يصيبني بالحنق والغضب... "خد بالك من ماما وإخواتك... أنت المسؤول عن البيت دلوقتي"؛ تلك الجملة التي يقولها الأب، قبل سفره، أو وفاته، لابنه الصغير الذي لم يبلغ بعد، في حين أن والدته، وشقيقته الناضجة، تقفان أمامه، كل واحدة منهن على درجة كافية من النضج، والعقل، لتكون مسؤولة عن المنزل، وعن نفسها، وعن عائلة بأكملها. ولكنه اختار هذا الطفل الذي لم يصبح مراهقاً بعد، ليكون هو المسؤول عن المنزل، لا لسبب، إلا لأنه "ذكر".
جيل وراء جيل، تُسلَّم السلطة من ذكر لآخر، وتعزيز تلك الروح السلطوية في طفل، تكون نتيجتها النهائية، رجالاً نقابلهم كل يوم في حياتنا، رجالاً لا يقبلون أن تكون رئيستهم في العمل امرأة، حتى لو كانت أكثر كفاءة منهم، ولا يقبلون على أنفسهم نقداً، أو لوماً، من امرأة، وكأنها بهذا تنتهك كيانهم المقدس الذي حصل على السلطة، منذ نعومة أظافره.
أتذكر جيداً حديثاً دار بيني وبين طبيبي النفسي، عندما كنت أحدّثه عن هواجسي بخصوص رغبة الرجال الدائمة في السيطرة والسلطة، وتسيير الأمور وفقاً لأهوائهم، فأخبرني قائلاً: "حتى تفهمي الرجال، والحقوق التي يتخيلون أنهم يمتلكونها، تأملي في فكرة أنهم يتبولون في الشارع". هذا الإنسان -الذكر- يشعر أن هذا الشارع ملكه، إلى الدرجة التي يشعر معها بالراحة الكافية، ليخلع ملابسه، ويفرغ مثانته، في أثناء مرور الآخرين. والذي يتعامل هكذا مع الطريق العام، كيف سيتعامل مع النساء الذين تجمعه بهم علاقات رسمية، أو صلة قرابة.
رحلة تخلصي من السلطة الأبوية، لم تنتهِ عند التخلص من هذا الخال، وأولاده، ولم تبدأ أيضاً بهم. فأمي لديها خمسة إخوة رجال، لديهم أبناء من مختلف الأعمار، كما أن علاقتي بأبي، قبل وفاته، كانت معقدة للغاية، وهي مزيج من الحب، والخوف، والاحترام، وتلك هي المرة الأولى التي أقول فيها ذلك علناً: لو لم يرحل أبي عن عالمنا، لكان من المستحيل أن تبدأ رحلة تحرري من السلطة الأبوية.
كانت علاقتي بأبي، قبل وفاته، كانت معقدة للغاية، وهي مزيج من الحب، والخوف، والاحترام، وتلك هي المرة الأولى التي أقول فيها ذلك علناً: لو لم يرحل أبي عن عالمنا، لكان من المستحيل أن تبدأ رحلة تحرري من السلطة الأبوية
إذ كان لوفاته أثر كبير في نفسي، وحزن عميق، وبكاء متواصل، و"كسرة قلب"، وافتقاد لحنانه، وفي المقابل كان هناك شعور يولد، مثل طائر صغير في صدري؛ شعور الحرية. فقد رحل أبي، وأنا أفتقده، ولكنني الآن حرة من أي سلطة أبوية حقيقية. وإذا كان أبي قد رحل عن الحياة، فلم يكن لدي استعداد لاستبداله بشخص آخر، يسلب حريتي، ويتحكم بأنفاسي، وملابسي، واختياراتي في الحياة.
وما تأكدت منه، في رحلة تخلصي من السلطة الأبوية، والتي لم تكن قصيرة، أو سهلة، هو أن الاستقلال المادي أهم أسلحة تلك الرحلة، شئنا أم أبينا. يجب أن نعترف أن المرأة التي تعتمد على الرجل مادياً، تفقد جزءاً من حريتها، ولذلك أول خطوة خطوتها في طريق تخلصي من السلطة الأبوية، هي البحث عن عمل، وأنا في الـ18 من عمري. ومن وقتها إلى الآن، وأنا في السادسة والثلاثين من عمري، لم يرعَني رجل مادياً، ولو ليوم واحد، ولذلك عندما وصلت إلى مرحلة الزواج في حياتي، وأنا في سن الثلاثين، كنت متحققة مهنياً، ومستقلة، ولم يتسلم زوجي مسؤوليتي من أحد سواي. وبهذا، أصبحت حريتي في اتخاذ قرارات تخصني، ملكي وحدي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...