شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أبي الذي قفز من شرفة منزله

أبي الذي قفز من شرفة منزله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 17 ديسمبر 202001:51 م

أذكر وجه أبي عند النظر في مرآة أمي، أرفعها نحو حاجبي لأتيقن تماماً بأنهما مفعمان بعيوب تغريني وتزيدني انعكاساً له، لطالما شبهت عينيّ بعينيه السارحتين. 

بين عيني أمي وعيني أبي، عماد، وجدت عينيّ المتعبتين أحياناً وأغلب الأحيان أراها عيني منتحرة كما فعلها أبي. لكن العمر حالفه ببعض سنين يشتاق إلي فيأتي لزيارتي دون كلام.

أبي الذي لم يكن لديه شيء ليعاقبني عليه، وكان لدي الكثير مما أشتهي من العتاب وإن لم يكن ما أعنيه بعتاب كان عراكاً اتطلع له، إلا أن عناده الثابت جعلني محاصرة ميتمة من الجدالات الطويلة ولعب الورق. 

مات أبي وترك لي سريره الخالي، أنام عليه بعدما بلغت من العمر ثلاثين سنة.

كان ينظر إلي بملامح طيبة غفورة وأنا الآن أكتب له وأعلم بأنه كان العدل بيننا. عدل حين صمت وعدلت حين واجهت موته بصمت.عندما خرج من منزل أمي حدّث جدتي عني، أكثر من المفاخرة بفتاته القاسية. هل أعجبه هدوئي المستفز تجاهه؟ هل هو راض بطفلة لم تصالح أباها طوال حياته؟ هل كان حاضراً في كل هـذه الصفات التي حملتها فكان شاكراً على خلفته المطبعة بشخصيته الغريبة؟

بعد انفصال أمي عن أبي علمت رغم صغري بأنه سيعتاد وحدته ولن ينجب أطفالاً يملأون فراشه ليلاً وذلك ما واساني، لطالما كنت الغيورة على تلك العائلة في مخيلتي فقط "لن تتزوجي رجلاً غير أبي ولن أنعم بإخوة غير أخي". 

مات أبي ليلاً دون صراخ أو طلب النجاة من فتاته التي مرت به سريعاً في المستشفى بعد محاولته الانتحار. وقفت إلى جانبه مع أخي يطمئنه: "غداً سوف تكون بخير" وأنا أراه فارغة من المواساة، فكيف لطفلة أن تساند أباها المرهق من المحاولة؟ كيف لي أنا الطفلة أن أعالج ذلك الجرح وأظهره كأمل كما تجرأ أخي؟

قال لي أحدهم يوماً إنني أهوى الدراما. ضحكت بسخرية حتى أنني أواظب على استهزائي فلا يهم ما يقوله الآخرون حتى الأصدقاء المقربون، اسقاطاتهم الكارهة لذاتهم يجعلون منها حقيقة يصدقونها عنا. أهوى الدراما؟ فليكن. 

بكيت في اليوم التالي أمام وجه عماد مباشرة ولم أكن في حاجة لتفقد عينيه، همست في أذنه كي لا يشاركني أحد سواه وناديته: "بابا" للمرة الأولى وسألته أن يسامحني للمرة الأخيرة

كان أبي من قفز عن شرفته وكنت أنا من نظرت إليه ممدداً على سريره يغطيه شرشف أبيض تكتسحه رائحة المرضى التي جعلت منه بعد خروجه مدمناً للأدوية المهدئة.

مات أبي وترك لي سريره الخالي، أنام عليه بعدما بلغت من العمر ثلاثين سنة. عندما سمعت خالي على الهاتف في منتصف الليل يقول "مات عماد" وهو يرتجف من الخجل أمامي، ابتسمت من الخجل أيضاً من أمي وحاولت تجنبها ولكن لم أستطع، فسمعتها تردد هي الأخرى "مات عماد" وتدمع فتبكي لتتقدم نحوي وتغمرني لكني أبيت الدراما في تلك الخاتمة المشبعة بالقهر. رفضت الاقتراب منهما وطالبتهما: "لا داعي للبكاء". بكيت في اليوم التالي أمام وجه عماد مباشرة ولم أكن في حاجة لتفقد عينيه، همست في أذنه كي لا يشاركني أحد سواه وناديته: "بابا" للمرة الأولى وسألته أن يسامحني للمرة الأخيرة. 

بكيت عند وجه "بابا" للمرة الأولى، أسرق حضوره كما لم أربحه فى المستشفى، بكيت لأن الوقت انتهى كما كل شيء، وكما عودني هو ودربني مع بيضة الكيندر: "كليها ولا تكترثي لطعمها في اليوم التالي".

كان الأساتذة في المدرسة يواصلون التحقيق مع تلامذتهم بالإكراه معظم الوقت، معلومات شخصية عن التلميذ لا دخل لها إذا كانت الكرة الأرضية مسطحة أو دائرية، لا دخل لها بجدول الضرب ولا حتى بتركيب جملة إنشائية غبية. 

يصل دوري بالإجابة عن السؤال: "شو بيشتغل بيك؟" أكتفي بـ: "ما بعرف"، لم يكن لدي ما أعطيه لهؤلاء الغرباء تحديداً، كنت أستمتع في مضايقتهم عند الخوض في خصوصية والدي. حشريتهم واسترسالهم في معرفة المزيد عن سبب "ما بعرف" يزيدانني اقتناعاً بأنهم حمقى يريدون المماطلة كي تمضي الحصة ولطالما أردت الهرب من الصف والمدرسة. 

كنت أعود الى المنزل وأفكر، ألا يكفيهم المال الذي يصلهم؟ ما شأنهم بعمل والدي وما ذنبي إن كان عماد بعيداً كل تلك المسافة التي تربكني أمام أي استفسار عنه؟

في هذا المجتمع البائس من حاكم والدي على علته ولم يرأف به مترفعاً عن الثرثرة، هذا المجتمع الذي دفع بأمي الى مجاراة قواعده العقيمة خوفاً عليها وعلينا وعلى عماد، زوجها السابق، فعزلت نفسها حرصاً على شقاء عمرها؛ "صيتها الحسن".

 كانت المطلقة الجميلة التي عانت الأمرين من نساء يظنن بها لربما تسلبهن رجالهن رغم حشمتها واتزانها ورصانة عقلها، ورجال يرون فيها طيب المعشر والجسد. نساء قبيحات ورجال بقبح نسائهم وعماد هذا العاشق المنتحر عن شرفة منزله.

في هذا المجتمع البائس من حاكم والدي على علته ولم يرأف به مترفعاً عن الثرثرة، هذا المجتمع الذي دفع بأمي الى مجاراة قواعده العقيمة خوفاً عليها وعلينا وعلى عماد، زوجها السابق، فعزلت نفسها حرصاً على شقاء عمرها؛ "صيتها الحسن"

هو هذا المجتمع الذي وفر محاسن والدي واستبعدها، ففضل الغوص في الحديث عن انفصامه والتباهي بمواقف توجع والدي في عليائه وكأن العيب في مرض عماد وليس العاهة في من يستبيح ضرر غيره وألمه.

"عصبية متل بيك الله يرحمه"، نعم، الرحمة لأبي ولا يجوز سواها ونعم لي منه غضبه وكرم مزاجه المتقلب. لي من عماد نصف ذاكرة والباقي منها رحلة اخترتها بعينيه فلا أحتاجه رفيق درب معي. 

أكتب اليوم لهم يا أبي، من صنفوا مرضك بالجنون وأشاروا علي كما لو استهواهم إحياء هذا الجنون من خلالي. أرقد بسلام لأنني أحبك ولو هويت مثل انتحارك لأكون ممتنة لعينيك فقط. 

سامحهم يا أبي لأن عيونهم فاجرة تختار أكثر المشاهد قسوة لتهزأ بها، لذلك لن أسامحهم يا عماد فأنا حية أرزق وبكل خصالي السيئة منك سأحمي عينيك بعد هذا الفراق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard