شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ليلة لا نهار لها... نهار بلا أجنحة

ليلة لا نهار لها... نهار بلا أجنحة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

الاثنين 16 أغسطس 202112:02 م

مجاز الحواس


تتآكل رغبتي إليك كل يوم. تتضاءل مع كل احتدام وشهوة، تضمر مع كل احتقان داخل رَحمي، هذه الرغبة التي تدفعني للبقاء لا تزال حبيسة ذاكرتي المسلسلة بتفاصيلك اللّا متناهية، فأنا أسيرة تلك الليلة الأخيرة، محصورة المثانة، محسورة بالألم فيك، كقطرةٍ بين قطرات كثيرة في زجاجةٍ محكمة الغطاء بين يديك.

 سئمت اجترار صوتك المجون الصادح في الفراغ، مللت لزوجة لسانك اللاذعة التي تشبه سائلك المنوي. لست عاهرة، لم أمنحك جسدي المتعفن، ولا أعضائي التالفة التي تعاقب عليها الحرمان أربعة عقودٍ من الصبر والفقر والبؤس، منحتكَ روحي التي لم يمسّها العشق على موائد العابرين، ولم يطأها عضوٌ قبل عضوك ولا حتى بعدك أنت.

 خِلت أن المنح لك وحدك يخلّدني، خِلتك رجلاً حُراً، مقاتلاً، طاهراً، عادلاً، يكيل الحق بالميزان، لا يغدر ولا يخون، ولا يلتهم الجيف وإن جاع، رجل لا يرضخ للمسلمات ولا يقبل الهزيمة، رجل يمتلك العالم ويصنع المعجزات.

 أعي أنني امرأة ملطخة بالماضي، موسومة بالعار، سيئة السمعة، أعي أن قلمي قوّاد وعاهر، وأن محبرتي سافرة، سافلة، انتهكها القراء ليل نهار، فنزحت من عالمي إلى عالمكَ عاريةً منّي، لأكون امرأتكَ وعالمكَ ولو لساعة واحدة. قتلت الأنا فيّ وأحييتكَ، خرجت من مستنقعي إلى مقبرةٍ، دُفنت وأنا أتنفسك، رُدمت معبأةً بك تنبض داخلي أشياؤك الكثيرة.

وعندما رحلت بكامل وجودك حاولت الخروج مراراً وتكراراً، تباً لهذا العجْز، تباً لكل محاولاتي الفاشلة. كلما فاح ريحك ولوّح صوتك، انغرست وتمددت جذوري لأنبتُّ كالجثث في طُهرك الذي تشربته خليةً خليةً كورقةٍ جافةٍ لم تحتمل غزارة سائلك الوفير فتمزقت... هل تتذكر؟!

أعي أنني امرأة ملطخة بالماضي، موسومة بالعار، سيئة السمعة، أعي أن قلمي قوّاد وعاهر، وأن محبرتي سافرة، سافلة، انتهكها القراء ليل نهار... مجاز في رصيف22

عندما جئتني بكامل رجولتك ورعونتكَ وغروركَ، جئت بلحيتك المطعّمة بالشيب، جئت بعكازتك ومسبحتك الصفراء وخاتمك ذي الحجر الأخضر، مرتدياً قميصك الأبيض، مرتدياً وقاركَ، منتصباً كالسيف في بنطالك الضيق، فخلت حينها بكامل حماقتي أني عروسك وحوريّتك التي تربعت على قمة عرشك الشاهقة، خلت بكل قباحة جسدي وترهلاته وبقعه الداكنة أنّي معبدكَ الجميل، خِلت بكل جفافي واقحلال فرجي أنّي منهلك الذي لن ينضب.

ركّعتني عشقاً على ركبتيّ ألعق ملوحة عرق ما بين ساقيكَ، أحتسيك حتى ثملت... غلفتني بالقُبل من رأسي حتى أخمص قدميّ، حفرت ظهري فقرةً فقرة، نزعت عني خجل أربعين عاماً وخوف سبعين خريفاً وبرد ثمانين شتاءً. ضاجعتني مرة كألف مضاجعة، بكل عنفٍ رقيق ولجت فيّ، بكل كبرياءٍ فاجر سكبتَ سائلك بين نهديّ وعلى شفتيّ وفي سرّتي الغائرة، بكل فُحش شراستك التهمت كينونتي، سخياً كنت وكثيراً كأنك جميعهم وجميعهم لا شيء.

 مضت ساعة تجر في ذيلها ساعة، حتى تلاشى وجودي في حضورك الطاغي وجبروتك... لو أنك قلت لي منذ البداية: أنت مجرد عاهرة، أنت مجرد نزوةٍ حقيرة!، لو أنك حذّرتني مع أول قُبلةٍ أنّ دمائك سامّة، لو أنك عاملتني معاملة بائعات الهوى الرخيصات ولم تجلسني على ساقيكَ كطفلةٍ يتيمة، لو أنك لم تحنّ عليّ وتصطحبني مجاهراً بوجودي كملكة، معتدّاً بي كامرأةٍ طاغية الأنوثة.

لو أنّك لم تشهّد عليّ هذا العالم وأنت تسير بي في الشوارع كأني حليلتكَ وخليلة روحكَ، كانت تلتف يدك حول خصري تكاد ترفعني عن الواقع اللعين، ليتك لم تحط عليّ بجناحيكَ كأنني جزء منك لا يتجزأ. ليتكَ لم تداعب جلدي بيديك الدافئتين، ليتك لم تعبث بخصلات شعري ونحن نحتسي قهوتنا كعاشقٍ مجنون، ليتكَ لم تبنِ لي منزلاً من الرمل مع ثالث موجةٍ اختفى... اختفى وأنا بكاملي داخله أتأمل الوقت الذي تسرب مني قبل أن أجمعه، تسرب كالدخان، فلم أدرك متى اختفيت أنا وكيف تطاير رمادي وإلى أين آل وجودي!

اختفى كل شيء إلّا صوتك ونكهة سائلك الساخن بين شفتي وساقيّ، اغتسلت سبعين اغتسالاً ولا تزال تلك الرائحة تعبث فيّ كأصابع، تلجني وتعرج منّي… من معدتي، من رحمي، من مجرى دموعي، من مسامات عرقي، مع بصيلات شعري، مع الأصوات البعيدة ومع أنفاسي القريبة التي باتت ثقيلةً جداً، أثقلها عشقك الذي لا يتوقف عن النمو كورمٍ تفحّش ولم يعد يجدي فيه الاستئصال.

وعندما تنفد رغبتي، أكون قد انتهيت تماماً، وانتهى وجودك وتبدد صوتك وتلاشى طعمك، لتبدأ أنت بكاملك بالتآكل حدّ الموت، بالتآكل البطيء، التآكل المخيف الموجع الشّره… هكذا ينتهي كل من يصاب بي... مجاز في رصيف22

لولا تلك الرغبة العارمة والشهوة الغريزية والاحتياج المُميت إليك لما كنت أنا هنا، أنا يا سيدي بقايا أثر، آثار نزوة على إسفلتٍ لا يحفظ الدعَسات، أنا مجرد ظل في عتمتكَ لا يُرى ولا يُسمع، أنا النزوة العابرة بين آلاف نزواتكَ، بينما أنت الجرن الثقيل الكبير، الضوء الذي ينبعث من الشقوق مهما كانت ضيقة، الصوت الحاد الذي يجلد السكوت ولا يصمت، الرائحة التي تلغم بها كل الهواء من حولي، أنت واحدٌ لا يشبه أحد، موجود ووجودك طاغٍ، مربك، فوضويُّ، دكتاتوريٌّ، أزليٌّ، سرمديٌّ، عبثيٌّ، لا نهاية له.

بينما أنا امرأة ستتآكل وتبتلعني المُدّة، سأختفي، سأنمحي محواً كالغلطة، سأُنسى بين طيات الشراشف، تُطوى صفحتي بين صفحاتك المزدحمة بالقصص والبدايات، امرأة تعرف مصيرها قبل أن تبدأ وإن أخفق صوتي أو أخفقت يداي وأخفقت كلماتي وتوسلاتي، وأخفق العشق لن تُخفِق عيناي؛ ستلاحقك نظراتي كلما وقفت تتأمل وجهك في المرآة، ستلاحقك في منامك ويقظتك، تبصر ابتسامتها عندما تسير في ذلك الشارع غير المرصوف المتعرج، تبصر غرغرة دموعها وأنت تقبّل امرأة تتأوّه وتضحك، يقف عتابها في بلعومك فجأة وأنت تتجرع الشراب، تُحدث غصّة في صدرك وأنت تحتضن فرحكَ، تجلدكَ كلما خلعت ثيابك وتتساقط على رأسك كاللعنات كلما غسلت رأسك تحت صنبور ماء بارد… تطعنك في حزنك، تنتابك في فراشك، تنزع كبرياءك كلما أوشكت على مضاجعة أنثى.

وعندما تنفد رغبتي، أكون قد انتهيت تماماً، وانتهى وجودك وتبدد صوتك وتلاشى طعمك، لتبدأ أنت بكاملك بالتآكل حدّ الموت، بالتآكل البطيء، التآكل المخيف الموجع الشّره… هكذا ينتهي كل من يصاب بي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image