عندما اقتحم تنظيم الدولة الإسلامي مدينة الميادين في ريف دير الزور الشرقي قبل سنوات، نزل رجاله إلى الشوارع بحثاً ليس عن عناصر الجيش أو العلمانيين والمثقفين، بل عن المشايخ أتباع الطرق الصوفية.
وكانت التعليمات التي وصلتهم من أبى بكر البغدادي واضحة: إما أن يُقتلوا ويُسحلوا أو يسجنوا فوراً، لأن في الصوفية خطراً كبيراً على تنظيم الدولة الإسلامية، أكبر من أي قنابل ذكية قد تمطره بها قوات التحالف الأمريكي، أو أي أفكار علمانية قد تقذف باتجاهه من الغرب.
لقد حكمت الصوفية بشكل غير رسمي في عدة مدن عربية، وكادت أن تُعلَن مذهباً رسمياً ومرجعية للناس من قبل الدولة العثمانية في زمن السلطان عبد الحميد الثاني. علّمت الصوفية أهالي سورية بالعموم، ودمشق بالخصوص، أنّ الله موجود في كل مكان، وأن على المؤمنين أن يحبوه أكثر من أن يخافوا منه.
كانت تستمد أصولها من القرآن الكريم والسنة النبوية واجتهاد العلماء في ما لم يرد فيه نص. بسبب الإرث الصوفي لكل من دمشق وبغداد، لم تنجبا شخصيات أصولية متطرفة في العصر الحديث. دمشق مثلاً كانت موطناً لنقيضين، الشيخ محي الدين بن عربي وابن تيمية، وهما عاشا ودُفنا في عاصمة الأمويين، أحدهما رمز للسلفية المتشددة والآخر منبر للصوفية المتنورة.
عندما اقتحم تنظيم الدولة الإسلامي ريف دير الزور الشرقي قبل سنوات، نزل رجاله إلى الشوارع بحثاً ليس عن عناصر الجيش أو العلمانيين ، بل عن المشايخ أتباع الطرق الصوفية. وكانت التعليمات التي وصلتهم من أبى بكر البغدادي واضحة: إما أن يُقتلوا ويُسحلوا أو يسجنوا فوراً
"المعلم الأكبر" ابن عربي (1124 ـ 1165) ترك أثراً كبيراً في نفوس الدمشقيين، بسبب إسلامه المعتدل الروحاني البعيد عن العنف. احتضنته دمشق وتبارك الناس باسمه وعلمه ومقامه وجواره، حتى أنهم سمّوا حياً كاملاً بحي الشيخ محي الدين، وبنوا له جامعاً ودُفن بجواره العديد من المحبين، وعلى رأسهم الأمير عبد القادر الجزائري، سنة 1883.
وكان ذلك على عكس "شيخ الإسلام" ابن تيمية (1263 ــ 1328) الذي رفضت دمشق أفكاره القاسية، فصدّرت نفسها الى الصحراء العربية حيث لاقت رواجاً واسعاً هناك، لأنها تشبه الصحراء بقسوتها وشدتها. أما دمشق فهي تشبه أفكار ابن عربي، والصوفية تشبه دمشق، فهي منفتحة على الآخر ومرنة وقابلة للتعايش مع الحداثة والمتغيرات.
نقيض للتطرف
في الصوفية خطر كبير على تنظيم الدولة الإسلامية، أكبر من أي قنابل ذكية قد تمطره بها قوات التحالف الأمريكي، أو أي أفكار علمانية قد تقذف باتجاهه من الغرب
يُمنع عليهم بحزم أن يقتلوا كل من نطق بشهادة "لا إله الا الله"، لأنه "من أهل الكتاب"، والجهاد عندهم في تربية النفس وتهذيبها، أما الحرب لديهم فهي مسألة معقدة، لا يحق لأي شخص أن يدعو إليها إلا في ظروف معينة ودقيقة للغاية. أما الخلافة، أو حجر الأساس الذي بنى عليه البغدادي شرعيته، فهي مطلبهم، ولكن الخليفة عندهم يحكم بمحبة الناس وخفق قلوبهم إليه، لا بقطع الرؤوس وإرهاب الناس.
الخليفة، وبحسب تعبيرهم، "يُبعث بعثاً من الله" ولا يتولّى الحكم بنفسه، كما فعل البغدادي الذي أطلق على نفسه اسم "الخليفة إبراهيم"، وأعلن نفسه أميراً للمؤمنين وخليفة على المسلمين.
ترك ابن عربي أثراً كبيراً في نفوس الدمشقيين، بسبب إسلامه المعتدل الروحاني البعيد عن العنف. احتضنته دمشق وتبارك الناس باسمه وعلمه ومقامه وجواره، على عكس "شيخ الإسلام" ابن تيمية الذي رفضت المدينة أفكاره
أما المتصوّف الشهير الآخر فهو صلاح الدين الأيوبي، الذي دخل القدس ولم يهدم كنيسة واحدة ولا أمر بقتل مسيحي واحد. والمتصوّف الثالث هو السلطان عبد الحميد، الذي كان "شيخه" الدمشقي محمود أبو الشامت، يشور عليه بشتى أمور الحكم والفقه والحياة.
والقائمة تطول، وفيها المتصوف الأكبر عبد القادر الجيلاني في بغداد، العلامة جلال الدين الرومي، الشاعر الفارسي شمس الدين التبريزي والمجاهد الليبي عمر المختار، وفي دمشق كل من محي الدين بن عربي وأتباعه، محمد سعيد رمضان البوطي، مفتي سورية أحمد كفتارو والأمير عبد القادر الجزائري.
خلال الأحداث الدموية التي شهدها جبل لبنان العام 1860، هاجمت مجموعة من المرتزقة الهائجين أحياء دمشق المسيحية، وقامت بذبح المسيحيين على مدى سبعة أيام بلياليها. انتصب أهالي المدينة المتشربين بالفكر الصوفي وراء الأمير عبد القادر الجزائري للدفاع عنها وعن أهلها المسيحيين، وحموا أكثر من ستة عشر ألف شخص، من أطفال ونساء وشيوخ، في بيوتهم.
وجد معظم هؤلاء الأمان في قصر الأمير عبد القادر، في زقاق النقيب خلف الجامع الأموي، الذي جمعهم مطمئناً إياهم أن لا أحد سوف يمسهم بمكروه بوجوده. وقد ظهر الجزائري على جواده أمام الناس في مدخل حيّ العمارة، وصاح بأعلى صوت: "أهكذا ترضون نبيكم محمد؟".
كثير من عظماء القوم عند المسلمين كانوا من أتباع الطريقة الصوفية، أبرزهم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. فبعد توليه عرش الخلافة في دمشق، قام الأمير الأموي الشاب بسحب الجيوش من فتوحاتها وإعادتها إلى حدود الدولة الأموية، مكتفياً بما للدولة الإسلامية من أراضٍ وممتلكات
بعد سنوات قام الأمير سعيد الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر، بتأسيس جمعية الخلافة في دمشق، للبحث عن خليفة وسد الفراغ الشاغر بعد إلغاء كمال أتاتورك لمنصب الخلافة العثمانية العام 1924.
جمع الأمير سعيد أعيان القوم حوله لهذه الغاية، مثل رئيس مجلس الشورى بديع مؤيد العظم، القاضي راشد باشا مردم بك ومفتي الديار الشامية الشيخ عطا الله الكسم، وتوافقوا على إيجاد خليفة قبل أن يؤتى لهم برجل ناقص علماً وخُلقاً ليتولى الخلافة بنفسه، مستغلاً ضعف الأمة وتشرذمها.
لم يعلم المتصوفون الدمشقيون يومها أن هذا ما سيحدث بعد تسعين عاماً، عندما ظهر إثرها مدّعٍ في أحد مساجد الموصل في صيف العام 2014، ليعلن نفسه خليفة للمسلمين وأميراً للمؤمنين.
هؤلاء جميعاً ماتوا من زمان، ولكننا ولو عدنا إلى فكرهم وانفتاحهم، قد نستطيع تهذيب التكفيريين والمتطرفين، وأن نرشدهم إلى إسلام معتدل، لأن أي محاولة للقضاء على الفكر الإسلامي عبر نظيره العلماني سوف تؤدي إلى فشل ذريع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Emad Abu Esamen -
منذ 9 ساعاتلقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ يومهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ يوممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ يومجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...
Mazen Marraj -
منذ يومينإبدااااع?شرح دقيق وحلول لكل المشاكل الزوجية?ياريت لو الكل يفكر بنفس الطريقة..
بالتوفيق ان شاء الله في حياتكما الزوجية ?
Nawar Almaghout -
منذ يومينرداً على ما ورد من الصحفية زيزي شوشة في موقعكم
الذي أوقع محمد الماغوط وشقيقه عيسى بين براثن الآنسة زيزي وأشباهها
يبدو أن الصحفية ثقافتها لم تسمح لها بالغوص أعمق، و يدل عن بعدها كل البعد عن فهم ما يجري. وهي بسلوكها هذا، على أقل تقدير، تمثل المستنقع الفكري الضحل الذي تعيش فيه
رابط ردي في موقع العربي القديم
https://alarabialqadeem.com/mohmaghbor