إثر دخول فيروس كورونا على حياتنا، شعر العديد من الأفراد أن علاقاتهم بوظائفهم تتدهور، حيث أصبحت طبيعة العمل مختلفة بشكل ملحوظ، ففي حين لاحظ البعض أن الشعور السابق بعدم الاهتمام بالعمل بات مضاعفاً، فقد اكتشف البعض الآخر مستوى جديداً من النفور تجاه وظيفتهم.
وعلى الرغم من أنه ليس بالضرورة أن يحب كل شخص عمله لحدّ الشغف، غير أن الحفاظ على العلاقة إيجابية- أو على الأقل محايدة- تجاه الوظيفة، يعد أمراً أساسياً بالنسبة للكثيرين، ليقضوا يومهم بشكل يتيح لهم زيادة الإنتاجية.
واللافت أن الملايين من العمال باتوا اليوم في وضع حرج: فمن جهة من المزعج أن يكون المرء في وظيفة لم يعد يشعر بالاهتمام بها، بخاصة إذا لم يكن لديه بديل يلوح في الأفق، ومن جهة أخرى يبقى من الصعب معرفة ما إذا كان الشخص المعني يمر بمجرد مرحلة من عدم الاهتمام، أو أن شغفه بالعمل والشرارة قد انطفأت بشكل دائم.
تراجع الاهتمام
طوال 20 عاماً قامت سامية بتدريس اللغة الفرنسية في إحدى مدارس بيروت، غير أنه وبسبب فيروس كورونا والإجراءات الوقائية التي حالت دون عودة التلامذة إلى الصفوف، قررت أن تقدم استقالتها وتترك مهنة التعليم لحين أن تعود الأمور إلى طبيعتها.
في حوارها مع رصيف22، أوضحت السيدة الخمسينية أن التعليم بالنسبة لها كان عبارة عن شغف ورسالة، أما اليوم فقد خسر جوهره: "نمرّ في أسوأ أيام حياتنا، لقد أصبح التدريس أونلاين وكله يتم من وراء الشاشة، وكأن هناك جداراً بيننا نحن المعلمين/ات وبين التلاميذ، فلم يعد التواصل سلساً ومثمراً كما كان في السابق، بل أصبح رهن الإنترنت والكهرباء ومزاج أصحاب المولدات".
من المزعج أن يكون المرء في وظيفة لم يعد يشعر بالاهتمام بها، بخاصة إذا لم يكن لديه بديل يلوح في الأفق، ومن جهة أخرى يبقى من الصعب معرفة ما إذا كان الشخص المعني يمر بمجرد مرحلة من عدم الاهتمام، أو أن شغفه بالعمل والشرارة قد انطفأت بشكل دائم
وتابعت بالقول: "التدريس اليوم يتطلب من المرء أن يكون لديه إلمام بالتكنولوجيا، وبالنسبة إليّ، خضعت لتدريب من قبل المدرسة على كيفية التعليم عبر المنصة الإلكترونية، غير أنني وجدت المسألة مرهقة وفيها الكثير من الstress (الإجهاد)"، وختمت بالقول: "لم يكن قرار ترك الوظيفة سهلاً بالنسبة إليّ، بخاصة وأنني لست معتادة على البقاء في المنزل طوال اليوم، إنما بصراحة التدريس أونلاين وجعة راس عالفاضي، مع هيك معاشات ما بقا تشتريلنا دواء هيدا إذا ما كان مقطوع".
من جهته، عمل ربيع (اسم مستعار) لأكثر من 10 سنوات في أحد الفنادق في لبنان، غير أنه في السنة الفائتة، أمضى عدة أشهر متتالية في المنزل في إجازة غير مدفوعة الراتب، إثر أزمة كورونا.
واللافت أن هذه الفترة التي أمضاها في المنزل جعلته يفكر أكثر فأكثر في مسيرته المهنية، فقد لاحظ أن الدافع الذي كان يجذبه إلى العمل لم يعد موجوداً: "الراتب بيخلص قبل حتى ما يفوت عالجيبة والأسعار في البلد نار"، وفق قوله.
لا ينكر هذا الشاب الذي بات على عتبة الأربعين أن الأزمة المعيشية ليست وليدة اليوم، إنما كشف أنه متخوّف من أن يفوته القطار من دون أن يتمكن من تحسين وضعه: "العمر عم بيركض، مش قادر ضلني وبنفس الوقت ما بقدر أترك الوظيفة قبل ما أتوفق بشي ثاني... وعلى الأرجح الفرص ما رح تكون بهالبلد".
اعتبر جون إم جاتشيموفيتش، الأستاذ المساعد في السلوك التنظيمي في كلية هارفارد للأعمال، أن هناك ظاهرة حالية وواضحة جداً بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من تراجع الاهتمام بعملهم: "في بداية كوفيد 19 على وجه الخصوص، بدأ الناس يقضون الكثير من الوقت في المنزل، ما منحهم مزيداً من وقت التوقف عن العمل".
هناك مساحة كبيرة من المنطقة الرمادية بين وظيفة تستحق الاستقالة ووظيفة يمكن أن نقع في حبها مرة أخرى
وأوضح جون لموقع بي بي سي، أنه عندما نكون في المكتب ويكون الجو محموماً، لا يكون لدينا مساحة كبيرة ووقت كاف للتفكير، وبالتالي يصبح من الصعب التفكير في الشهر أو السنة أو الخمس سنوات القادمة من حياتنا، في حين أن البقاء في المنزل يجعلنا نطرح على أنفسنا عدة أسئلة: كيف يمكنني أن أعيش حياتي أو أن يكون لي مهنة تتماشى مع ما أنا مهتم/ة به بالفعل؟
من جهتها، اعتبرت ستايسي لين، مدربة ومستشارة مهنية مقيمة في الولايات المتحدة في ولاية أوريغون، أن انخفاض الاهتمام بالعمل قد يكون بسبب تجريد العديد من الوظائف من مكوناتها الأساسية، ما جعل العديد من العمال الذين أعربوا عن استمتاعهم بوظائفهم في السابق، يدركون بأنه ليس العمل نفسه الذي كان يجذبهم: "فجأة، لم يعد الناس يذهبون إلى مكان العمل، ولم يعد لديهم تلك الروابط الاجتماعية. وبالنسبة لكثير من الأفراد، هذا هو ما يربطهم بوظائفهم، سواء أدركوا ذلك أم لا".
وتابعت ستايسي بالقول: "لم تكن هذه هي الوظيفة الفعلية التي كانوا يقومون بها. لقد كانت الثقافة والناس، ولا يمكنك ترجمة ذلك إلى عمل عن بُعد".
لقد خسر العديد من الأفراد الشغف بالعمل لأن أداء وظائفهم أثناء الوباء أصبح صعباً بشكل غير عادي، بخاصة وأن بعض أصحاب العمل لم يبذلوا ما يكفي للمساعدة، بحسب تأكيد جاتشيموفيتش: "نرى ذلك كثيراً لدى الأشخاص الذين لا يشعرون بالدعم، أو الذين يشعرون بالإرهاق".
وأضاف: "الشيء الأكثر شيوعاً الذي أسمعه هذه الأيام هو أن الموظفين يشعرون بالإرهاق، إما بسبب زيادة عبء العمل أو لأن هذا الشيء الذي نطلق عليه عقداً نفسياً، أي الثقة غير المكتوبة الموجودة بين المؤسسة والموظف/ة، قد تم خرقه".
وأوضح جون أن التمريض والتدريس هما من الوظائف التي شهدت رحيلاً جماعياً للأشخاص المتحمسين سابقاً لوظائفهم: "كان هناك الكثير من حالات التقاعد المبكر من المعلمين/ات. هل كان هذا سيحدث في سنوات ليس فيها كوفيد؟ على الأرجح لا".
هل من الضروري إعادة إشعال شعلة الشغف؟
من الصعب البقاء في وظيفة بينما يتضاءل اهتمامنا بالعمل، بخاصة إذا ظهر هذا الشعور باللامبالاة فجأة.
إن الحل الأكثر وضوحاً بالنسبة للبعض هو ترك الوظيفة، وهو الأمر الذي رأته ستايسي لين يحدث على نطاق واسع، بحيث لاحظت أن الكثير من الأفراد الذين لديهم علاقات مضطربة بوظائفهم قرروا الاستقالة في الأشهر العديدة الماضية، بما في ذلك العملاء الذين "كرهوا وظائفهم قبل الوباء، ولكن لسبب أو لآخر لم يستقيلوا".
بمعنى آخر، لقد فتح "الاضطراب الكبير" للوباء، باباً للتغيير بالنسبة للعديد من العمال الذين قرروا ترك وظائفهم والمضي قدماً في حياتهم.
غير أن لين أضافت أن فقدان الاهتمام بالوظيفة هو رد فعل طبيعي للصدمة التي أحدثها الوباء.
لا يعني ذلك بالضرورة أننا بحاجة إلى ترك المهنة أو تغييرها، إنما قد تكون هناك طرق لبناء علاقة إيجابية مع وظيفتنا، حتى لو كان ذلك يعني ببساطة جعلها أكثر قبولاً في الوقت الحالي، بينما نبحث عن بديل.
عندما نكون في المكتب، لا يكون لدينا مساحة كبيرة ووقت كاف للتفكير، وبالتالي يصبح من الصعب التفكير في الشهر أو السنة أو الخمس سنوات القادمة من حياتنا، في حين أن البقاء في المنزل يجعلنا نطرح على أنفسنا عدة أسئلة: كيف يمكنني أن أعيش حياتي أو أن يكون لي مهنة تتماشى مع ما أنا مهتم/ة به بالفعل؟
وعليه، اقترحت لين تقييم الأشياء التي نحبها أكثر في عملنا، وتذكير أنفسنا بالأمور التي جذبت اهتمامنا بالمقام الأول، إذ إن ذلك من شأنه تحفيزنا على إعادة اكتشاف تلك الأشياء في وظيفتنا.
قد تتطلب إعادة إشعال الشرارة أيضاً تغيير روتيننا والعثور على شيء يثير الحماس. قد يأخذ ذلك شكل مشروع جانبي أو جهد تعاوني جديد مع الزملاء، وفق ما أكدت لين: "إن العمل نحو رؤية وهدف مشتركين هو أمر محفز حقاً. المشاريع الممتدة والمبادرات الجديدة هي المكان الذي أعتقد أن معظم الناس يجدون فيه أكبر قدر من الاهتمام لكونه يحدث الابتكار".
في الختام، لا شك أن هناك مساحة كبيرة من المنطقة الرمادية بين وظيفة تستحق الاستقالة ووظيفة يمكن أن نقع في حبها مرة أخرى.
من الناحية الواقعية، سيبقى بعض العمال الذين أصبحوا غير مهتمين بوظائفهم على هذا النحو، ويستمروا في وظائفهم. وهذا ليس بالضرورة أمراً سيئاً، بحسب ما أكد جاتشيموفيتش: "هل من الجيّد أن يكون الناس شغوفين بعملهم؟ بالطبع نعم. ولكن هل هو أمر ضروري؟ بالطبع لا. بعض الناس لا يريدون متابعة شغفهم في العمل. هذا وقد لا تتاح الفرصة للآخرين".
وختم بالقول: "لنكن واقعيين: هناك الكثير من الأشياء التي يمكن للأشخاص أن يكونوا شغوفين بها بمعزل عن العمل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...