اعتادت والدة ريم أن تعلمها الصلاة والقرآن والأذكار منذ طفولتها المبكرة، ولكن أياً منهن لم تدرك أن أحد أذكارهم سيدمر طفولة الصغيرة ومراهقتها، ويتركها في مواجهة "الشياطين".
بينما تستعد ريم للذهاب إلى المدرسة، وجدت ورقة مكتوبة بقلم أزرق سميك، مُعلَّقة على باب الحمام، تعثرت في قراءتها، فهي لا تزال بصفها الأول، قرأت الأم الذكر عدة مرات لتحفظه الصغيرة: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، تتذكره الآن وتردده دوماً مصحوباً بالفزع.
لكن طفلة الست سنوات لم تتذكره حينما سُئلت عنه في اليوم التالي، كانت تجده صعباً وغير مفهوم، ولتحفزها أمها على ترديده، أخبرتها أنَّ الحمَّام هو بيت الشياطين، وأنَّها إن لم تقل الذكر قبل دخوله فستطلع الشياطين على "عورتها"، وتؤذيها.
"الشيطان يطَّلع على عورتك"
ريم الشابة الثلاثينية، المقيمة بمحافظة المنوفية، تتذكر وقائع طفولتها، تقول لرصيف22: "بقيت لوقت طويل أخشى دخول الحمَّام، وأتجنَّبه قدر استطاعتي، عدت للتبوّل في الفراش، أتذكَّر القشعريرة التي كانت تنتاب جسدي في كل مرَّة أدخله فيها، وكم أجبرتُ أمِّي أن تقف على بابه حتى أخرج، لم أفهم حينها ما يعنيه الاطلاع على عورتي، ولكن كنت أرتعب من الشياطين".
لاحقاً رفضت الأم اصطحاب صغيرتها للحمام، تتذكر ريم: "كنت أشغل كل أنوار الشقة قبل دخول الممر الموصل للحمام والبعيد عن غرف النوم والاستقبال، أسير ببطء، وعلى أطراف أصابعي أثناء الذهاب حتى لا تنتبه الشياطين، أدخل، وأترك الباب مفتوحاً، وبعد الانتهاء أجري في الممر الطويل المرعب، ومنه لفراشي حيث أختبئ تحت الغطاء، كثيراً ما اصطدمت بالجدران، وأُصِبت بجروح وكدمات".
قضت ريم، سنوات طفولتها ومراهقتها تعاني من القلق والتوتر والأعراض النفسية الجسدية، تقول لرصيف22: "كنت أشعر بالذعر، وأشعر كل ليلة أني سأموت، بالإضافة للشعور بالغثيان والآلام الشديدة بالبطن، ويزداد الأمر سوءاً إن احتجت لاستخدام الحمَّام ليلاً، كنت أبكي، وأذهب لوالدي، وأخبره أني مريضة لأنام بجانبه".
ريم الآن ربة منزل وأم لطفلة في الثالثة من عمرها، خوفتها مرة لتنام، ونامت الصغيرة بالفعل، تذكرت حينها قصتها المرعبة فقررت ألا تعيدها، وأيقظت طفلتها لتطمئنها ثم بكت طويلاً.
"أسير إلى الحمام ببطء، وأشعل كل الأنوار، بعد أن قضيت وقتا طويلا أخشى دخول الحمام، وأتجنبه قدر استطاعتي، إلى درجة أني كنت أتبول في الفراش"
حاولت مها، آلاف المرات أن تعتاد النوم على جانبها الأيمن أو حتى الأيسر أو الظهر، المهم ألَّا تنام على بطنها حتى لا يغتصبها الجني
جدات الطفلة وأقاربها ككثيرين، يرون التخويف أمراً عادياً ووسيلة فعالة للتربية، ورفض أمها ليس كافياً لإيقافهم، لذا تسخر من كل شخصية مفزعة يخيفون بها الصغيرة، تتبرم والدة ريم: "ما انتو اتربيتوا كدة حصلكم إيه يعني؟" فتبتسم بأسى وتردد لنفسها: "آه يا ماما لو تعرفي حصللي إيه".
هناك مجموعة من الأعراض المرتبطة بالخوف المرضي عند الأطفال، ومنها أن يكون عصبياً، حاد المزاج، كثير البكاء، لديه صعوبة في النوم، يستيقظ ليلاً، يعاني من كوابيس، التبول اللاإرادي، قلة الثقة بالنفس، عدم القدرة على مواجهة التحديات اليومية، صعوبة في التركيز، صعوبة في تناول الطعام، تكرار نوبات الغضب، لديه أفكار سلبية ويعتقد بحدوث أمور سيئة له.
"جني مغتصب"
كانت مها في السابعة من عمرها حينما أصرت والدتها ألا تنام على بطنها بعد الآن، وأن تنام على جانبها الأيمن تحديداً كسُنّة عن الرسول، وأن نومتها هي نومة أهل النار، لم تفهم الصغيرة لما يجب أن تنام بطريقة لا تريحها، ولم تكن تستطع النوم سوى بالوضعية التي اعتادت عليها.
تتذكر مها تفاصيل يوم آخر، عندما كانت تلعب مع ابنة خالتها ونادتها والدتها بفزع، طلبت من جدتها أن تعيد ما حكته، فأخبرتها الجدة عن جارتهم الشابة التي يضربها الشيخ بالخيزرانة ليخرج الجن من جسدها.
فزعت الطفلة لكنها لم تفهم، فقررت الأم التوضيح: "كانت بتنام على بطنها، والجن اغتصبها ولقوا علامات على جسمها عشان تسمعي الكلام ومتناميش على بطنك تاني".
"كانت بتنام على بطنها، والجن اغتصبها، ولقوا علامات على جسمها".
تحكي مها، المقيمة بمحافظة الفيوم، لرصيف22، أنها لم تنس الحكاية المرعبة التي سمعتها وظلت قلقة تكره وقت النوم، لم تكن تفهم معنى الاغتصاب حينها، ولكنها افترضت أن العلامات على جسدها بسبب ضرب الجن لها، وكانت الخيزرانة ترعبها كذلك، لذا بقيت بضعة أسابيع تنام بجانب والدتها قبل أن تجبرها الأم على العودة لفراشها.
تقول أميرة أحمد، وهي أخصائية نفسية ومدربة تربية للأمهات، لرصيف22، إن إجبار الطفل على التعامل مع مخاوفه ومواجهتها قبل أن يكون مستعداً لذلك من أكثر الأخطاء الشائعة في التعامل مع خوف الأطفال.
حاولت مها آلاف المرات أن تعتاد النوم على جانبها الأيمن أو حتى الأيسر أو الظهر المهم ألا تنام على بطنها حتى لا يغتصبها الجني، تذهب الطفلة المنهكة من السهر والمراقبة في النوم، ويتحرك جسدها للوضع الذي يريحه، فتصحو لتجد نفسها على بطنها، وينتابها الرعب عما حدث وما قد يحدث، وتفتش في جسدها عن العلامات.
شاهدت مها في مراهقتها فيلم "الإنس والجن" لعادل إمام ويسرا، ويحكي عن علاقة إنسية بجني، كانت تدرك حينها ما يعنيه الاغتصاب، لذا كبرت القصة في عقلها، الذي بات مقتنعاً حتى الآن أن الخطر محتمل ووشيك.
تقترب مها الآن من نهاية العشرينيات، وهي مدرسة وأم لطفل في الخامسة، ولكنها لاتزال تحاول النوم على جانبها الأيمن، وتنام بجسد مغطى بالكامل حتى الرأس صيفا وشتاء، ولكن أزمتها المرعبة لم تمنعها من تخويف طفلها، تقول: "باخوفه بس بحاجات عادية زي العو والغولة".
"أمنا الغولة" في عيون طفل
"العو"، "أمنا الغولة"، "أبو رجل مسلوخة"، وغيرهم من الشخصيات المخيفة التي يستخدمها البعض لتخويف أطفالهم، قد تبدو كرتونية وفكاهية مقارنة بالقصص المرعبة لفتاة تخاف شياطين الحمام، وأخرى تخشى اغتصاب الجن، ولكن للخبراء رأي آخر.
تقول أميرة أحمد الأخصائية النفسية، إن بعض الآباء يلجؤون إلى تخويف الأطفال للضغط عليهم لسماع بعض الأوامر، وما يحدث لاحقاً هو أن عبارات التخويف تتردد في عقل الطفل، وتعزز وجود الخيالات المخيفة في ذهنه.
وقد جسد مجموعة من طلبة المعهد العالي للفنون التطبيقية تلك الخيالات في مشروع تخرج باسم "روح شريرة"، جسدوا من خلاله صور الشخصيات المرعبة كما يتخيلها الأطفال، ورسم الأطفال صوراً مفزعة لأمنا الغولة و"العو" و"أبو رجل مسلوخة" و"المهرج القاتل" و"البعبع" و"السفاح".
دقت رسوم الأطفال جرس الإنذار من الاستهانة بتخويفهم، حيث رسمت طفلة في السادسة صورة مرعبة لـ"أمنا الغولة" تحمل سكيناً، وقالت: "بتقف لي كل يوم قدام السرير عشان مبتغطاش وأنا نايمة، وماما بتزعقلي وتقولي أمنا الغولة هتيجي تقطع رجلك بالسكينة"، أما "العو" فرسمته طفلة 5 سنوات، وقالت عنه: "بيبقى واقف ورا ستارة البانيو عشان أنا باحب ألعب بالمية وأملى البانيو عالآخر فبابا بيقول لو فتحت المية كتير العو هيجيلي".
التعامل مع خوف الأطفال
اضطراب القلق الناتج عن الشعور بالخوف الشديد يؤدي إلى مجموعة من المضاعفات ومنها الاكتئاب، الأرق، اضطرابات نفسية، مشكلات هضمية أو بالأمعاء، زيادة معدل ضربات القلب، زيادة معدل التنفس، الارتجاف، التعرق، الصداع، الألم المزمن، الذعر، العزلة الاجتماعية، تدني نوعية الحياة، وقد يدفع للانتحار.
أشارت الخبيرة النفسية ومدربة التربية، إلى الخطوات الأولى للتعامل مع فزع الطفل الناتج عن تخويفه، وفي مقدمتها عدم السخرية من مشاعره أو الاستهانة بها، لأن ذلك يجعله في وضع الدفاع عنها، وقد يقرر ألا يفصح عن مخاوفه مرة أخرى.
تابعت أميرة: "احتضنه وأخبره أنك تقدر مشاعره وخوفه، استبدل بجملة "مفيش حاجه تخوف أنت كبير متخافش" جملة "أنا فاهم إنك خايف"، إن لم تفلح محاولات استيعاب طفلك وتهدئته فيجب طلب المساعدة المتخصصة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...