شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"م الأرض نطلع زي جن… بخ"... عندما تشفي غليلنا أغنية والشتائم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 7 سبتمبر 202105:01 م

استيقظنا،أمس، على خبر مبهج عن فرار ستة أسرى فلسطينيين من سجن "جلبوع". حفروا نفقاً من زنزانتهم حتى العالم الخارجي، على مدار شهور، لتمتلئ الصفحات الإخبارية، ومواقع التواصل، بمنشورات وصور تحكي بهذا الثقب الأسطوري، الذي بات رمزاً لما هو مستحيل وعصيّ على التصديق، كله.

تحدث الكثيرون عن رمزية الثقب، واكتسحت منشورات المقارنة بين واقع الفلسطينيين وأفلام هوليوود، الفضاء الإلكتروني، بفخر غامر، إذ إن الخيالات الجامحة، في الأعمال الغربية كـ"شاوشينك ريديمبشن"، و "بريزون بريك"، والتي تُعدّ أقرب إلى عالم الفانتازيا، ما هي إلا واقع يومي قريب المنال لأسرى فلسطينيين، يهينون به قواعد المنطق كلها، ويمزّقون تعريفات الممكن والعمليّ، مستهزئين بالموت، وممعنين في إذلاله. يصفهم تميم البرغوثي قائلاً:

وَنَحنُ مِنَّا كُلُّ مَعروفِ النَّسَبْ

إذا رَأَى المَوْتَ عَلَى البُعدِ اْقْتَرَبْ

وَجَرَّه مِنَ النَّوَاصِي للرُّكَبْ

وَقَالَ يا هَذَا تَعَلَّمِ الأَدَبْ

وَاْحْفَظْ مَقَامَاتِ الرِّجَالِ وَالرُّتَبْ

ومع موجة الفخر الكاسحة، طفت على السطح، مرة أخرى، أغنية الرابر الفلسطيني، ضبور، "إن أن"، والتي كانت قد صنعت حالة لا تُنسى في فلسطين، والوطن العربي، إبان أحداث حيّ الشيخ جرّاح في القدس، وحرب غزة الأخيرة.

في ظرف شهرين، تخطت الأغنية الستة عشر مليون مشاهدة، مع شهرة واسعة المدى لمقاطع منها، والتي تحولت إلى أمثلة، ومقولات، ولوحات غرافيتي، ملأت الشوارع، ومواقع التواصل الاجتماعي.

عادت سطور ضبور لتصاحب صورة الثقب الذي خرج منه الأسرى إلى النور، وصور جنود الاحتلال العاجزين أمامه، وكأنه تنبأ بالمشهد، عندما قال:

"هتموت م الرعب م الأرض نطلع زي جن…

بخ".


نحن والعالم

تثير الأغنية، بين الشباب العربي، في الحالة الموجودة الآن، التفكير في ثنائيات الدبلوماسية والعنف مع الاحتلال، ولربما في التعبير الواضح المشرعن للعنف لدى شريحة منه، وهذا يظهر أيضاً في أغاني ضبور، و"شب جديد".

في إحدى المقابلات مع الأخير، أجاب على سؤال متعلق بهذه الثنائية، قائلاً:

"إحنا مش مضطرين نعيط سيدي، ما عيطناش، ومشيت معانا".

تأخذني إجابته إلى جدل حاضر في العالم العربي عموماً، وفي القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، حول مدى فاعلية التعاطف العالمي ودعم الأجانب، وأهميتهما؛ هل سنتحرر يوماً، أو سيقلّ انتهاكنا بتعاطفهم؟ هل تتعدى نتائج محاولاتنا للوصول إليهم، مجرد الشجب، والإدانة، والتنديد؟ ما جدوى "العياط"؟

يسلك البعض خيار البعد عن الخطاب العنيف، عبر طريق أكثر دبلوماسية ورسمية، لئلا نفقد تعاطف العالم مع قضايانا، ونبقى محتفظين بقاعدة دعم وتغطية، حول الكوكب، بينما يختار آخرون طريقاً آخر، ويرون أن تعاطف العالم لا قيمة له، وأن التحرر لن يأتي سوى بالمقاومة الفعلية، بالإضافة إلى مسارات أخرى يطول الحديث عنها.

نعيش جدلاً في فلسطين والعالم العربي حول مدى فاعلية التعاطف العالمي ودعم الأجانب، وأهميتهما؛ هل سنتحرر يوماً، أو سيقلّ انتهاكنا بتعاطفهم؟ هل تتعدى نتائج محاولاتنا للوصول إليهم، مجرد الشجب، والإدانة، والتنديد؟ ما جدوى "العياط"؟

لكن، ما لمسناه في كلمات أغنية "ضبور" المقصودة هنا، هو ميل واضح نحو خيار لا ينتظر تعاطف العالم، إذ يرفض ضبور، وشريحة واسعة من الشباب الفلسطينيين والعرب، "أن يُعيّطوا"، حسب تعبير شب جديد، فيقول في أغنيته "إن أن":

"بس شوف تنساش

أنا زي النووي سلاح فتّاك

في بغزة رجال تحفر أنفاق

ترجع بشوال وملان أشلاء"

بالنسبة إلي، أثلجت هذه الكلمات صدور الكثيرين من المظلومين والمقهورين الذين فاض كيلهم، باستجداء العالم، أملاً في ردود أفعال لا تأتي، ودعم أشبه بالسراب.

تنزل الشتائم في أغنية "إن أن"، مصاحبة صورة الثقب، على آذاننا، كشعرٍ جميل يعدّل مزاجنا، فننتشي طرباً بسماعه، وكأن الشتيمة كلما كانت قاسية موجعة، كلما ازدادت جمالاً، وقرعت آذاننا كأعذب ألحان الموسيقى

الشتيمة كمقاومة

لا يحب جزء من الناس السباب، والشتائم، والألفاظ النابية، بينما لدى البعض الآخر تحفظات أخلاقية عليها. وقد يشعر الآخرون بالنفور والأذى منها، لكن بشكل عجيب وساحر، ينزل السباب، واللعنات التي تملأ أغنية "إن أن"، مصاحبة صورة الثقب، على آذاننا، كشعرٍ جميل يعدّل مزاجنا، فننتشي طرباً بسماعه، وكأن الشتيمة كلما كانت قاسية موجعة، كلما ازدادت جمالاً، وقرعت آذاننا كأعذب ألحان الموسيقى. تأملت بانبهار في هذه الظاهرة، وأنا أشاهد الناس من حولي، على مواقع التواصل، يقتبسون المقاطع الممتلئة بالشتائم، بكل أريحية، فيتذوقها الناس بقدر مساوٍ من الاستمتاع، وأنا أعلم يقيناً أنهم بطبيعتهم لا يشعرون إزاء مثيلاتها، إلا بالنفور.

لم أجد أروع، ولا أدق، من مقولة رضوى عاشور، في كتاب "أثقل من رضوى"، وهي تصف ظاهرة شبيهة لشباب الألتراس المصريين، في هتافاتهم وأغانيهم الثورية الممتلئة سباباً، ولعناتٍ، لكل مسؤول وظالم:

"كانت أمي رحمها الله تعتبر عبارات دارجة مثل: ‘اتنيِّل’، أو ‘يلعن أبوك’، أو ‘ابن كلب’، كلمات غير مقبولة، تطالبنا بتجنبها.

نادرًا ما أستخدمُ كلمات نابية، ولا أرتاح حين يستخدمها غيري، ولكنني، إذ أنصت لهتافات الألتراس، أستغرب لارتياحي، بل تقتضي الدقة الإفصاح عن طربٍ أشعر به حتى عندما يهتفون في المدرجات، بهتافات بذيئة مُنَغَّمَة، مُغَنَّاة تقريباً.

أطرب لسماعهم، لا كصغير يثيره الممنوع، بل كراشدة تقرُّ وتعترف أن الصفاقة لا تكمن في هتافهم، بل في الفعل المتجبِّر لسلطة فاجرة في سياساتها وسلوكها".

لربما يقبع السرّ في هذا الظلم الغاشم، والشر المتفجر حقاً، فلا يشفي غليلنا سوى رد فعل على القدر نفسه من الغشم والعنف، ولو بمجرد الكلمات، فيتحول منظورنا السطحي عن البذاءة، إلى رؤية أعمق وأكثر دقة، عن الأبعاد الفلسفية التي تكون البذاءة فيها هي عين الجمال، وتجسيده.

قد يكون عدد من حرروا أنفسهم، بالأمس، شديد الضآلة، مقارنة بمن يقبعون في السجون، ولكن الانتصار المجازي يتخطى حتماً ما تراه أعيننا على عِظَمه؛ فالمؤكد أن ثقب الأسرى الفلسطينيين، لم يكن الثقب الوحيد الذي تم خرقه في كيان الظلم والقهر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image