تحضر عدن، المدينة اليمنية التي احتضنت رامبو قديماً، ماثلة اليوم في حالة من تداعي الوجود والهوية بفعل الحرب القائمة. وهي في حاضرها تحاكي كثيراً حال شاعر فرنسا المعذب الذي قدِم إليها قبل أكثر من قرن ناشداً خلاصاً مبهماً، فلا هو عثر على خلاصه المنشود فيها ولا هي نجت من مخاطر التموضع الجيوسياسي الحساس. كان آرثر رامبو الذي سيغدو في ما بعد أحد أبرز شعراء عصره، قد حلّ في عدن في 7 آب/أغسطس 1880، ليعمل في تجارة القهوة والتوابل والسلاح، نافضاً يديه من الشعر ومن وطنه الأم فرنسا.
قصد صاحب "المركب الهائم" عدن بغية إعتاق نفسه من بؤس العيش في مكان واحد وجفاف الحياة الغربية وفق زعمه، لكنه لم يجنِ سوى المتاعب والضياع والخسارات في الشرق، ليكتشف بعد عناء مضن أن العالم الذي نشده في شبابه كان مستحيلاً.
رامبو المولود في شارلفيل 1854، كتب الشعرَ في سن الـ15، وبعد ثلاث سنوات فقط نضب نبع إلهامه فهرع صوب خلاصٍ غامض اتخذ شكل الحاجة الملحة إلى تأمين المال. وقد أنهك حياته في سبيل ذلك في "هرر" و"عدن" في العمل بتجارة القهوة والأسلحة والجلود والتوابل، مواجهاً مصاعب جمّة تسببت في إنهاء حياته بنهاية المطاف، وكل ذلك بغية الحصول على المال الذي سيمكنه من تطواف العالم كما كان يأمل.
أَمِن أجل النجاح الأرضي وحسب تحمل رامبو كلُّ تلك المصاحب في الشرق؟ يتساءل الكاتب الأمريكي هنري ميللر في كتابه "رامبو وزمن القتلة"، ويقول إن الشيطان نفسه لم يكن قادراً على تدبير عقوبة أكثر قسوةً مما فعله رامبو لنفسه: "لقد ضحى بعبقريته في أوج العطاء من أجل غايات غامضة".
سنوات الكفاح
فور وصوله عدن، انخرط رامبو في وظيفة مملة لدى شركة فرنسية متخصصة في تصدير البُن إلى مرسيليا، لكنه أبدى تذمراً تجاه العمل والمدينة منذ البداية، ولم يستمر فيها أكثر من شهرين حتى غادر إلى هرر بـ"أثيوبيا" للعمل هناك بأجرٍ أعلى من الذي كان يتقاضاه في عدن، والذي لم يكن يتجاوز الستة فرنكات في الشهر.
سُرّ بانتقاله إلى هرر بدءاً، لأنه غادر عدن، المدينة الحارة التي لم ترُق له، والتي وصفها حينذاك بـ"أسوأ مكان في العالم بعد مدينته شارلفيل"، قبل أن تصير مدينته المفضلة في نهاية المطاف.
قصد صاحب "المركب الهائم" عدن بغية إعتاق نفسه من بؤس العيش في مكان واحد وجفاف الحياة الغربية وفق زعمه، لكنه لم يجنِ سوى المتاعب والضياع والخسارات في الشرق
عمل رامبو لأكثر من عام في الحبشة، منهكاً نفسه في مهمة تسيير القوافل التجارية من وإلى الموانئ الأفريقية، قبل أن تدهمه الكآبة ويشعر بالسأم من العمل الذي وجده مملاً، ليعود إلى عدن في 1882، ويقضي عاماً كاملا فيها في الشكوى والاشتغال "مثل الحمار" كما يصف نفسه.
لكنه لا يمضي أكثر من عام حتى يغادر مرة أخرى إلى هرر، للانخراط في التجارة هناك قبل أن تُفلس الشركة التي كان يعمل لصالحها، فيشد الرحال إلى عدن للمرة الثانية في 1884برفقة امرأة حبشية كان قد جلبها من "شوا"، وارتبط بها بعلاقة حميمة قبل أن يتخلى عنها في 1886، لينخرط مجدداً في مغامرة جنونية لاستيراد الأسلحة إلى الملك "منيليك" في "شوا"، وتخفق آماله في الصفقة بعد استغناء "منيليك" عن الأسلحة واضطرار رامبو لبيعها بسعر زهيد، بحسب ما ذكر بيير بتفيز في كتابه "رامبو الشاعر والإنسان",
واصل رامبو التنقل بين عدن وهرر وجيبوتي ضمن مهام تجارية، لكن إحباطه كان يتضاعف كلما توغل في التجارة، وتخيب آماله في النهاية فيكتب في مطلع سبتمبر 1884: "إن التجارة رديئة. أنا أشيخ بسرعة في هذه الأعمال السخيفة برفقة أناس متوحشين أو أغبياء... الآن. أغلب الظن أني لن أحصل على ما يكفي من العمر لأعيش بهدوء"، وفق المصدر سابق الذكر.
ومن خلال رسائله نلحظ أن رامبو لم يعثر على خلاصه المنشود، لا في الحبشة ولا في عدن، ويكتب لأهله بعد 11 عاماً من السعي المحموم: "لم أجد ما كنت أتوقعه هنا وحياتي شديدة الملل ومزعجة"، وذلك وفق ما ذكر بيير بتفيز في كتابه آنف الذكر.
ارتاع رامبو حينما علم أنه قد بلغ منتصف العمر وطاف بلدان عديدة وهو يعمل في ظروف قاسية وطقس لا يطاق دون أن يصل إلى أي نتيجة. فأيقن حينذاك أن الشقاء هو مصيره الحتمي على الأرض، ودفعه الضياعُ الذي كان يشعر به إلى تفضيل البقاء في عدن على العودة إلى فرنسا، لأن التعاسة موجودة في كل مكان بحسب اعتقاده، ولأنه يشعر على الأقل بأنه مجهول ومنسي في هذه المدينة التي عاد ليقول إنها "أفضل مكان في العالم بالنسبة له"، وفق ما ذكر سمير الحاج شاهين في كتاب "رامبو".
لكنه ظل طوال 11 عاماً، وهي مدة إقامته ومغامراته في اليمن والحبشة، وحتى بعد حصوله على المال، ذلك التائهَ الغريبَ، غير المتكيّف مع الحياة، الباحث دون جدوى عن فردوس مفقود. يقول هنري ميللر: "إن أحداً لم يتحرق للحرية والانطلاق كما فعل رامبو. ورغم ذلك، وحتى لو نجح في شراء حريته بالحياة، فإننا نعرف أنه لن يشعر بها أبداً. لقد كان ملعوناً، وكانت الحرية بالنسبة له هي الموت".
دفعه الضياعُ الذي كان يشعر به إلى تفضيل البقاء في عدن على العودة إلى فرنسا، لأن التعاسة موجودة في كل مكان بحسب اعتقاده، ولأنه يشعر على الأقل بأنه مجهول ومنسي في هذه المدينة
في 1891 أصيب رامبو بالسرطان وهو في حمى انهماكه التجاري بأفريقيا، واضطر للعودة إلى باريس، فقرر الأطباء بترَ ساقه اليُمنى التي أصيبت بسرطان العظم الناتج عن جرثومة "السفلس" التي التقطها في الحبشة وهو يعمل بضراوة دون أن يرحم جسده، لينهار حينها بالبكاء، متسائلاً بيأس عن مبرر لهذه الحياة الشقية التي يعيشها الإنسان ويتمسك بها مهما كانت باطلة وأليمة.
قضى رامبو نحبه في العاشر من تشرين الثاني 1891، في مستشفى بمرسيليا موصياً بدفنه في عدن، لكن أسرته قررت مواراته في مسقط رأسه "شارلفيل".
التعلق بين جنونين
قبل ذلك كان "منتعل الريح" بحسب توصيف صديقه الشاعر بول فيرلين، قد جاب أصقاعاً كثيرة في أوروبا، وتعلّم اثنتي عشرة لغة، منها، الإنكليزية والروسية والعربية، وكتب الشِّعر وعاش حياة بوهيمية في باريس، قبل أن يتخلى عن الشعر ويهرب إلى الشرق مغيراً هويته كلياً.
طبقاً لهنري ميللر فإن هروب رامبو إلى الشرق كان آخر طريقة يائسة له للتحايل على الجنون، فقد كان يسعى لإنقاذ نفسه من مصير مشؤوم كان ينتظره في أوروبا، لكنه وقع ضحية جنون آخر في اليمن والحبشة.
وقد علق رامبو بين المتطلبات المادية للحياة وتوقه اللامحدود للحرية. لم يشفع له الشِّعرُ في تأمين حياة مالية مستقرة، فألقى به خلف ظهره، وراح يبحث عن عمل متلهفاً لتحصيل ثروة كافية لتأمين حياة لنفسه، لكنه أدرك بعد سعي طويل أنه كان متورطاً في ما يجهل بأكثر مما أراد، مدركاً حقيقة أنه كان يركض دون هدف.
يقول هنري ميللر: "من أكثر المشاهد حزناً في الحياة، مشهد عبقريّ يبحث عن عمل"؛ إذ يبدو منبوذاً وغير ملائم في كلّ مكان، ولا أحد يريده، ويُتّهم بالعجز عن التكييف مع الحياة، فيُرمى إلى الهامش، وبهذا الشكل تحديداً وجد رامبو نفسه مهجوراً وكادحاً في موانئ أفريقيا القائظة، ضمن كفاح كان يخفي صراعاً ضارياً في نفس رامبو وفكره. لم يشعر بالانتماء لأي مكان، وكان غريباً في كل شيء، في الشّعر وفي الحياة، غير مدرك تماماً لدوافع أفعاله.
في الشعر وجد "الرائي" نفسه مصفداً، بسبب عدم نضوج عصره لمجيئه، بحسب هنري ميللر، الذي يرجح أيضاً أن رامبو كان قد نفض يديه من الشّعر لأنه لم يكن متهيئاً لتحمل مسؤولية كلماته، عارفاً أنه لن يقبل بقيمة سطحية.
الصمت كموقف احتجاج
يعدّ ميلر مسألة تخلي رامبو عن الشعر، تحذيراً عملياً للعصر الحديث الذي نخره المرض؛ فقد كان قدره أن يغدو الشاعر الصادم للقرن التاسع عشر الذي كان يمور بالقلق والاضطراب. ويرى أن جواب الفنان سيكون الصمت المطبق، إذا كان المجتمع مغلقاً عن رؤيته. ويغدو الصمت في هكذا مواقف أكثر فاعلية من إطلاق المدافع. وقد كان رامبو أول من صمت؛ لقد اختار بملء إرادته أن يتخلى، وكانت تلك طريقته الأكيدة لجعل تأثيره محسوساً.
هروب رامبو إلى الشرق كان آخر طريقة يائسة له للتحايل على الجنون
على أن ذلك لم يكن كل شيء في صمت رامبو، فقد كان صمته ذاك أيضاً تقديساً للكلمة بعد نضوب نبع إلهامه وعجزه عن بلوغ ذلك المطلق في التعبير والإحساس الذي تتطلبه نفسه في كل عطاء شعري. كان يرى أن الشعر كلّ شيء أو لا شيء على الإطلاق، كما ذكر سمير الحاج شاهين في كتابه سابق الذكر، وكان صمته هو طريقته الوحيدة كي يمجد الجمال ويخط احتجاجا ضد أشكال الزيف في عصره.
في "رسالة الرائي"، التي كتبها في السابعة عشرة من عمره، وهي قصيدة نثرية تضمنت وصايا للشعراء القادمين، نعثر على ما يؤكد ذلك التقدير الجليل للكلمة الشعرية؛ إذ يقول: "إن اتباع المبدأ يستلزم من الشاعر (عذاباً أليماً) يحتم عليه اختبار كافة أشكال الحبّ والمعاناة والجنون في الحياة. ويلزمه لذلك، الإيمان كله والقوة كلها، لكي يبلغ المجهول". فقد كان الشعر والحياة بالنسبة له كلاً واحداً، كما ذكر كاظم جهاد في كتابه "آرتور رامبو الأثار الشعرية".
امتزاج الشعر بالحياة
كان يرى رامبو أنه على الشاعر الإخلاص للمبدأ إذا ما أراد بلوغ المجهول. لكن ما الذي يحدث حين يبلغ الشاعر المجهول؟ يقول رامبو: "ينتهي بفقد كل فهم لرؤاه". وهذا تحديداً ما آل إليه وقد غدت حياته دوامة التباس.
حين كتب رامبو "فصل في الجحيم"، وهو الكتاب الوحيد الذي نشره، كان قد رهن حياته عليه. وما ثبت في ما بعد أن كل ما تنبأ به لنفسه في سنوات الشعر، تحقق في سنوات التطواف، وفق هنري ميللر.
لقد كان إذاً، عراك رامبو المحموم في الشرق، محاولة للمزج بين جانبي حياته، الشعري والعملي، وكانت عذاباته في عدن والحبشة التزاماً لاواعياً بمبدئه الشعري الذي اختطه.
وأراد بالانهماك في الحياة العملية، أن يحقق نفسه تماماً بوصل شق حياته الشعري بالعملي، مقارباً الشعر بما هو مشروع حياة، والحياة بما هي صنيع شعري، بالغاً أعلى مراتب الإخلاص للمبدأ.
في كتاب "رامبو وزمن القتلة" يؤكد هنري ميللر أن رامبو عنى كل ما كتب "حرفياً وبكل معنى"، وما بات واضحاً بعد كل هذا، أن تنكر رامبو للشعر وانخراطه المحموم في الحياة العملية كان أعظم من كونه مجرد نضوب إلهام لدى شاعر؛ لقد كان إشارة إلى طريقة وجود جديدة يتّحدُ فيها الفن بالحياة. ولأنها لم تكن واضحة تماماً في وعي رامبو ذاته، شابها كل ذلك الالتباس والغموض، لكنها أفصحت عن نفسها بشكل ضمني في حياته، لنكتشف في النهاية أن ما بدا تنصلاً شعرياً، كان إيماناً بالشّعر بالمقلوب. لقد اتبع رامبو النفي كطريقة عكسية لإثبات مالم يعد مجدياً إثباته، وبذلك استحق صفة "الملعون العظيم" وفق ما أراد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com