كنت أمشي في ذلك اليوم بين الجنود المنتشرين في طرقات الجامعة، غير مبالٍ بشيء، ومدفوعاً بشعور من الأمان الخليق بمواطن الدولة الحديثة، ما دام لم يرتكب جرماً. غير أنني، وقبل بلوغي المدرج، استوقفني مشهد على بعد خطوات: رأيت ضابطاً في زي مدني يمارس العنف على طالبة، ويضربها إلى حد السحل. لم أعرف ما هو الجُرم الذي قد تكون هذه الفتاة قد ارتكبته، لينكّل بها بهذه الطريقة. ولم يسبق لي أن رأيتها في حياتي. بعد تردد قصير، اتخذت قراراً بالتدخل، وكان تدخلي كلامياً فحسب. حاولت إقحام بعض المعاني الاجتماعية في حديثي إلى الضابط، فقلت له: "اعتبرها أختك يا سيدي". وبعد حديث قصير، لم يخلُ من كلمات بوليسية بذيئة، كانت النتيجة وخيمة، ولا تُصدق؛ تحول الضابط عن الفتاة، واتجه نحوي، وانتهى المشهد بأن توقف عن ضربها، وضرب هو وجنوده "كلبشاً" في يدي.
طقس العبور، الكلبشات كمساحة بينية
منذ تلك اللحظة، بدأت تمتد أمامي فترة مجهولة في عالم جديد وغريب ابتلعني بسرعة البرق. وإذا كان صحيحاً أن تلك الفترة كلها التي قضيتها، أو أن الزمن عموماً، يتجمد داخل السجن، فإني واثق من أن أكثر اللحظات تجمداً على الإطلاق، كانت تلك التي صفدوا فيها يدي، للمرة الأولى، بالكلبشات. أعتقد أنني اختُطفتُ في تلك اللحظة تحديداً، وما تبع ذلك كان امتداداً لتقييد يدي. إن معنى أن توثّق يدك في لحظة، هو أن تُمنع من زمن كامل. عندما ضرب الشرطي الكلبشات في يدي بسرعة، توقف جريان كل شيء في الحياة العادية، وأصبحت في حيازة المجهول، لا أستطيع المشي خطوة واحدة، ولا أعرف شيئاً حقيقياً عن طبيعة الحياة التي تنتظرني.
إن ما حدث حينها كان أكثر من مجرد تقييد جسدي عن الحركة، وأيضاً، كان أكثر من مجرد انتقال.
إن لحظة "الكلبش" الأولى، لا تنتمي إلى حياة الحرية، ولا أعتقد أنها تنتمي إلى حياة السجن. إنها تبقى دائماً هناك، معلقةً في مكان ما، بينهما، وشاهدة على التحول الكبير، وشبيهة بعالم البرزخ
إن الانتقال في اللغة، معناه تحول الشخص إلى مكان آخر. بيد أن التحول في هذه الحالة، كان يعني تحول المكان إلى مكان آخر، لأنني لم أكن فاعلاً، ولم أكن أمتلك قدرة على الفعل. لقد تم تجريدي من حياة الواقع الطبيعية، وفصلي كلياً عن الشارع، والأشخاص من حولي، وكذلك جُرّدت من فاعليتي وشخصيتي. إن المسمى الأنسب لمثل هذه اللحظة/ الحالة/ المساحة -إذا جازت تسميتها- هو طقس العبور، الذي يُعرف بين علماء الأنثروبولوجيا باللحظة الفارقة التي تقع بين التحولات والانتقالات الكبيرة كلها، كالحياة والموت. إن لحظة الكلبش الأولى لا تنتمي إلى حياة الحرية، ولا أعتقد أنها تنتمي إلى حياة السجن. إنها تبقى دائماً هناك معلقة في مكان ما، بينهما، شاهدة على التحول الكبير، وشبيهة بعالم البرزخ.
لقد عرّف فيكتور تيرنر طبيعة طقس العبور، أو المساحة البينية (Liminal space)، على أنها اللحظة التي تقف بين انتهاء ما هو عادي، وبدء ما هو حدّي (Liminal). وقد اكتشفتُ بعد ذلك، أن ثمة مساحات أخرى كثيرة تُعد طقوس عبور داخل السجن، يجتازها السجناء على امتداد رحلتهم، مثل ممارسات العنف التي تقع عليهم عند عتبات الأقسام، وما يعرف بالتشريفة، وحفلات الاستقبال. تلك تعدّ طقوساً ولحظات بينية تستخدم وسائل التعذيب الجسدي، لترسّخ في هذا الجسد العابر لحدود السجن، طبيعةَ قوانين هذه الأرض الجديدة. وكذلك عملية نزع الاسم عن المسجون، وتحويله إلى مجرد رقم. هذه الممارسات كلها التي تتسم بطبيعة بينية، هدفها، فصل الإنسان عن حياته السابقة، وتجريده من نفسه، وأحلامه، وشخصيته.
غير أن أكثر اللحظات تجريداً من العادي، كما سبق وقلت، هي لحظة توثيق اليد بالكلبشات للمرة الأولى، وتظل المفارقة أن هذه اللحظة الكبيرة والرهيبة أقصر من اللحظات البينية الأخرى كلها، فهي لا تتساوى زمنياً -على سبيل المثال- مع طقوس الضرب، وتعليق الأجساد على "الفلقة"، في طرقات التشريفة، أو على أبواب السجون في أثناء حفلاتها الاستقبالية. نعم، لم يستغرق الأمر أكثر من ثوانٍ عدة. وكانت تكة إغلاق الكلبش الحديدي، وسماع صوت تروسه تتعشّق فوق معصمي، كافيتين تماماً لعبور مساحة شاسعة بين عالمين مختلفين، والفصل كلياً بينهما.
بعد ذلك، انتهت لحظة الكلبشات الرهيبة التي تستمد رهبتها من سرعتها، وواجهت البطء الكامل. اقتادوني مع الطلاب الآخرين المقبوض عليهم بطرق مختلفة، إلى قسم في أول مدينة المنصورة. وبمجرد اجتيازنا بوابة "الاستيفا" المؤدية إلى الزنازين، أقاموا لنا طقس عبور آخر. أخذت الأيدي تتهاوى فوق رؤوسنا، ووجوهنا، ثم بعد أن كلّت الأيدي، استبدلوا بها العصي، والأحزمة الجلدية. استغرق هذا الطقس وقتاً بدا طويلاً جداً. ثم تركونا نتألم في بداية اكتشافنا لهذا العالم الجديد. إن الحظة الأولى لدخول أي جسد إلى عالم الزنزانة الجديد، محملة بآلام جسدية لا تكون من قبيل الصدفة. فالألم الجسدي يجعل عملية اكتشاف هذا العالم القاسي أكثر قسوة مما هو عليه. كما أنه -أي الألم الجسدي- في أي مكان، يكبح حركة جريان الزمن الطبيعية. إذاً، "التشريفة"، طقس التعذيب المروري على عتبات أبواب الأقسام، تهيئ السجناء إلى زمن آخر، وحياة أخرى، تختلف كثيراً عن الزمن، والحياة العادية.
إن الحظة الأولى لدخول أي جسد إلى عالم الزنزانة الجديد، محملة بآلام جسدية، لا تكون من قبيل الصدفة. فالألم الجسدي يجعل عملية اكتشاف هذا العالم القاسي أكثر قسوة مما هو عليه. كما أنه -أي الألم الجسدي- في أي مكان، يكبح حركة جريان الزمن الطبيعية
الزمن في الزنزانة... عدّ تصاعدي وعدٌ تنازلي
إن أول شيء يمكنك رؤيته في الزنزانة، بمجرد دخولها، ليس أشخاصاً نائمين فوق بعضهم، ولا حبالاً مثبتة بمسامير صلبة على الحائط، ولا حقائب منتفخة ومتناثرة تتدلى من هذه الحبال في كل مكان. لا ترى القمامة والصراصير، ولا تشم رائحة عفنة. إن الصدمة تأتي من رؤيتك البصرية للزمن المتجسّد في هذه الأشياء كلها، وفي الكتابات العتيقة على الحائط بأيدي سجناء لا أعرف من أي حقبة؛ شخبطات، وتدوينات، وتواريخ، تجعلك تشم رائحة الزمن، وتلمسه بيديك.
مرت الأيام الأولى ببطء وتثاقل لا مثيل لهما، وكأنها تنحت نفسها بمشقة بالغة في الجبل، أو كأن هناك قوة جبارة تصد الأيام بيدها. وارتبط دائماً مع هذا البطء الهائل، توقٌ لا نهاية له للحرية، وكلما ازداد التوق، والتعلق بالحرية، قلّتْ وتباطأت سرعة الزمن.
كنت أبحث في كل ما هو داخل جدران الزنزانة، ولا أجد لنفسي مهرباً غير النوم. كنت أنام، علّني أحلم بأي شيء طبيعي يأخذني إلى خارج أعتاب هذه الأرض المستحيلة. لا أدري في أي كتاب قرأت أن الحلم من زاوية التحليل النفسي، ليس إلا تحقيقاً لرغبة، أو إنكاراً لواقع. إنه نوع من صياغة رد فعل في مواجهة الزمن. لكنه يظل رد فعل خارج الزمن. إن هذا صحيح، ولكن في حالتي، كان الحلم في السجن هو الزمن، وهو الطبيعي، فتحول من كونه وسيلة لصياغة الواقع، وأصبح في حد ذاته هدفاً.
في إحدى الليالي، ولم تكن قد انقضت على حبسي فترة طويلة، قال لي أحد السجناء القدامى: "إن أسرع الأشياء في حياة السجن حقاً هي الأيام". صمتّ من دون أن أبدي اندهاشي بما قال، لأنني ظننت أنه نطق بعكس ما أراد، وأنه يناقض ما هو واقع، ليسخر من مرارة واقعه. لكنني صُدمت عندما بدأ يشرح لي نظريته، وقال إنه لم يعد يجد وقتاً في يومه لتضييعه، وأنه يشغل حتى ساعة التريض بعمل شيء مفيد، كقراءة كتاب، أو تعلم لغة جديدة، أو حتى صناعة عقد من الخرز. أما في بداية حبسه، فقد كان مرور اللحظة يجعله يتلوى، وكأنه على نار. ثم أخذ يشرح لي طبيعة الزمن في السجن، كخبير قديم في هذا الشأن: "في البداية كنت أحسب، وأعد فترة اعتقالي، بالساعة، ثم باليوم، ثم بعد ذلك بالموعد الدوري لجلسات التجديد؛ كل خمسة عشر يوماً، ثم كل خمسة وأربعين يوماً. ثم تحولَ هذا المعيار الحسابي للزمن، من مواعيد الزيارات الثابتة أسبوعياً، إلى المناسبات السنوية والأعياد. إن الحلقة دائماً ما كانت تتسع منتقلةً من الوحدات الزمنية الصغرى، إلى الوحدات الأكبر". ثم أوضح، كيف أن هذه الحالة من التلوّي، ورفض زمن السجن، ما هي إلا بقايا روح الحرية المتلبسة أرواح السجناء الجدد، وأن السجن يشبه البحر، في كون أصعب لحظة للإبحار فيه، تكون على الشاطئ. أما عندما تأخذنا الأمواج بعيداً، نحو العمق، فسنشعر بالركود التام، والتناغم المطلق، وكذلك سوف تخمد حواسنا الملتهبة تجاه الزمن، وتنطفئ مع الأيام. شعرت أن اختلاطي بهذا الشخص، ربما ينقل إلي العدوى. كيف يتأقلم الإنسان على وضع غير طبيعي، وغير سوي؟
على النقيض تماماً، كان معي شخص آخر في الزنزانة، زميل لي في القضية، كان واعياً بشكل مؤلم بالزمن، من فرط تعلقه بالحياة في الخارج. وكنت إذا سألته في أي لحظة: "إحنا بقى لنا قد إيه في السجن؟" نظر إلى ساعته، وأجاب بسرعة مذهلة: "بقالنا 150 يوماً و13 ساعة".
ثمة سجناء يعدون فترة سجنهم بشكل تصاعدي، وهؤلاء هم الذين لا يعرفون تلك الفترة، ولا يعرفون مدة حكمهم القضائي، أما الذين يعرفونها، فيعدونه عداً تنازلياً
إن المشكلة هنا، تكمن في طبيعة التفاعل مع زمن السجن. هل هذا التسكين لحاسة الزمن، والاعتياد على السجن، يعدّ شيئاً سلبياً، أم إيجابياً؟ مَن مِن هذين الشخصين يُحسد على تعاطيه مع زمن الزنزانة؟ هنا تكمن المفارقة، والمأزق الوجودي في طبيعة الزمن في السجن. ويبقى هذا السؤال معلقاً.
إن التأقلم على السجن، ربما يعني في الأغلب الاستسلام، أو فقدان الأمل، أو على الأقل فقدان شيء طبيعي في تعلق الإنسان بالحياة العادية. ومع ذلك، البكاء على اللبن المسكوب لا يفيد في أي مكان. إن مصطلح "ترويض الزمن"، الذي اخترعه الكاتب ياسين الحاج صالح في كتابه عن السجن: "بالخلاص يا شباب"، هو مصطلح مفيد وفعال داخل السجن، لكنه على أي حال لا يحل مشكلة الخضوع لسلطة الزمن، وقوانينه فيه، ولا يحل مشكلة التأقلم على وضع غير طبيعي، وغير سوي، لا سيما ارتباطها بفقدان المشاعر الطبيعية نحو ما هو طبيعي وعادي.
لقد كتبتُ في مقال سابق، أنه ربما كان المتأقلمون على السجن كلهم، قد تأقلموا على عدم التأقلم. إن الطبيعة "الليمينالية"، أو البينية للزمن، في السجن، تجعل الإدراك الحسي له مائلاً، بمعنى أن شعور السجناء نحو إدراك الزمن غير طبيعي، في الأحوال كلها.
كما أن الزمن في السجن تحكمه قوانين أخرى. لقد قال فيكتور فرانكل، عالم النفس الشهير الذي اعتُقل في معكسرات أوشفيتز، في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى": "إن اليوم في السجن، يبدو أطول من الأسبوع في السجن". وسبقه في قول المعنى نفسه، دوستويفسكي، الذي سُجن خمسة أعوام في معسكرات سيبيريا. ومعنى ذلك، إذا استعنّا بما وضّحه توماس مان عن طبيعة الزمن، فإن اليوم هو وحدة زمنية صغرى، أما الأسبوع، والشهر، والسنة، فوحدات أكبر. وإن الفراغ، والرتابة، لهما في الواقع سمة جعل اللحظة والساعة تتباطأان أكثر مما ينبغي، وجعلهما مملتين. لكنهما قادرتان على تقصير الوحدات الزمنية الأكبر.
والسجن رتيب كالصحراء، ساكن كأنما هو خارج الزمن، يتفرج عليه من بعيد، ويعدّه.
ثمة سجناء يعدون فترة سجنهم بشكل تصاعدي، وهؤلاء هم الذين لا يعرفون تلك الفترة، ولا يعرفون مدة حكمهم القضائي، أما الذين يعرفونها، فيعدونه عداً تنازلياً، ما يعني امتلاكهم نوعاً من السلطة الرمزية على الزمن في السجن. فالمعرفة هنا سلطة لتسمية الضياع، وتعليم المتاهة.
وأياً كانت الفترة التي سوف تمضي في هذا المكان، فإن المعرفة المسبقة للزمن، من شأنها إحداث تغيير، على الأقل من ناحية العدد والحساب. فأن تعرف، يعني أن تمتلك حق العد التنازلي للزمن، بدلاً من العدّ التصاعدي، الذي يطبع زمنك، وأيامك، ومصيرك المجهول، بالفوضى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين