بعد مرور عقد على الربيع العربي، لا يزال العالم العربي يناضل ليتوافق مع أعراف الديمقراطية، وحرياتها. يُظهر استطلاع عالمي جديد، يشمل لبنان ومصر وتونس، مدى التناقضات في المواقف تجاه حرية التعبير، مسلطاً الضوء على تجربة الانتقال إلى الديمقراطية، التي تكون، عادةً، تجربة مؤلمة.
وفقًا لاستطلاعٍ بعنوان «من يهتم بحرية التعبير»، الذي أُجري بتكليف من مركز جستسيا الفكري (الذي أديره)، فإن حرية التعبير قيمة يعتز بها الجميع تقريباً، في شتى أنحاء العالم. ففي الواقع، بين سكان 33 دولة، تقدِّر نسبة ضخمة تبلغ نحو 93% منهم، أهمية أن يستطيع الناس قول ما يريدون قوله، من دون رقابة. وتبلغ نسبتا دعم حقوق الإعلام في تقديم ما يراه ملائماً، واستخدام الناس الإنترنت، بلا رقابة، نحو 91% و89%.
لكن، إذا كانت الغالبية العظمى من المجيبين مؤيدة، ومتحمسة لحرية التعبير، فلماذا أضحت هذه الحرية في تدهور، على المستوى العالمي، لأكثر من عقد من الزمن؟
للإجابة على هذا التناقض الظاهري، لا نحتاج إلى أن نسأل عما إذا كان الناس يدعمون حرية التعبير، بل عن كيفية دعمهم لها. ذلك أنه بمجرد أن يُجبَر الناس على قياسٍ مجرد لحرية التعبير، في مواجهة مقايضات، أو قيم متنافسة (فرضياً)، فإن الدعم شبه العالمي يتهاوى. فعلى ما يبدو، كثيرون من الناس يعتزون بالحق في التعبير بحرية عن أنفسهم، لكنهم يولون قيمة أقل، لآراء الآخرين المتعارضة مع قيمهم الخاصة.
التناقض بين المبادئ، والممارسات، صارخٌ، خصوصاً في العالم العربي. فالدول العربية الثلاث التي شملها استطلاعنا، ينتهي بها المطاف قرب النهاية السفلى لمؤشر حرية التعبير الخاص بجستسيا
إن التناقض بين المبادئ، والممارسات، صارخٌ، خصوصاً في العالم العربي. فالدول العربية الثلاث التي شملها استطلاعنا، ينتهي بها المطاف قرب النهاية السفلى لمؤشر حرية التعبير الخاص بجستسيا. فلبنان يأتي في المرتبة الـ23 من أصل 33 دولةً، وتونس في المرتبة الـ29، وتأتي مصر في المرتبة الـ32، ولا تليهم إلا باكستان. (حلّت النرويج في المقدمة).
ومع ذلك، جدير بالملاحظة أنه من حيث المبدأ، هناك دعم كبير لحرية التعبير، في كل من تونس ولبنان ومصر، حيث يرى 91 و90 و80 بالمئة، بالترتيب، من المجيبين، أن من حق الناس التعبير عما يريدون، من دون تدخل من الحكومة. والناس في هذه الدول، شأنهم شأن الناس في شتى الدول، يشددون على الحق في التعبير بحرية عن المسائل العامة المهمة.
لكن الدعم ينخفض بشدة، حين يصبح الموضوع مثاراً للجدل. إذ على سبيل المثال، لا يجيز 27% من التونسيين (و28% من المصريين، و38% من اللبنانيين) التعبير بكلام مسيء إلى دينهم، أو معتقداتهم. و30% فقط من التونسيين يتقبلون الخطاب الداعم للعلاقات المثلية، بينما لم نتمكن من الأساس من طرح هذا السؤال في مصر. وحول هذا الموضوع، يُعدّ لبنان أكثر تسامحاً (بنسبة 59%)، لكنها لا تزال أقل بكثير من المتوسط العالمي البالغ نحو 70%.
لا تتعلق مسألة تحفظات الناس تجاه حرية التعبير في هذه الدول العربية الثلاث -بالاستقراء ربما أيضاً في معظم العالم العربي- بالدين، أو بالنزعة الجنسية. فالاستطلاع يسلط الضوء أيضاً على مسائل الهوية الوطنية، والأمن.
فمثلًا، 19% فقط من التونسيين قد يتقبلون إهانة العلم الوطني، بينما لن يقبل إلا 26% من اللبنانيين، و32% من التونسيين، أن تنشر وسائل الإعلام معلومات حساسة عن الأمن القومي. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن العديد من الدول التي عادةً ما تكابر بمُثُل رفيعة المستوى لحرية التعبير، تكون متشككة تجاه السماح بمثل هذا النوع من الخطاب، إذ تأتي المملكة المتحدة في أسفل الترتيب، بنسبة 22%، وإسرائيل بنسبة أعلى تبلغ 23% فقط.
على الرغم من وجود دعم شعبي كبير لحرية التعبير من حيث المبدأ، إلا أن التحفظات عليها في الواقع العملي، هي ما يجعل الدول العربية الثلاث منخفضة الترتيب، في مؤشر حرية التعبير لجستسيا. بل إن النتائج تظهر أنه حتى بالمقارنة مع دول أخرى لديها معدلات المراعاة الحكومية نفسها لحرية التعبير، فإن التونسيين أقل دعماً لها غير مشروطة. والنقيض من ذلك ينطبق على مصر، حيث يريد العامة حرية تعبير أكبر، مقارنةً بدول أخرى تملك معدلات منخفضة مماثلة للمراعاة الحكومية لها.
على الرغم من وجود دعم شعبي كبير لحرية التعبير من حيث المبدأ، إلا أن التحفظات عليها في الواقع العملي، هي ما يجعل الدول العربية الثلاث منخفضة الترتيب، في مؤشر حرية التعبير لجستسيا
وثمة بصيص أمل في هذا الاستطلاع لعشاق حرية التعبير. إن المسائل المتعلقة بحرية التعبير حساسة تجاه الضغط الاجتماعي، والقيود القانونية على ما هو مسموح به. ففي العديد من الدول العربية، والمسلمة، لا تُثبط الإهانات الدينية وحسب، بل يُعاقب عليها أيضاً بالسجن، أو بما هو أسوأ، الأمر الذي يفسر على الأقل جزءاً من الدعم المنخفض للغاية، للخطاب المسيء إلى الدين.
لكن، حين نسأل التونسيين والمصريين واللبنانيين، عما إذا كانوا سيسمحون بانتقاد دينهم ومعتقداتهم، عبر طريقة "تجربة القائمة" غير المباشرة، تتبدى صورة أكثر تسامحاً.
وفي حين أن 38% فقط من اللبنانيين يتقبلون كلاماً مسيئاً إلى دينهم، أو معتقدهم، عند سؤالهم بطريقة مباشرة، يقفز الرقم 17 نقطة مئوية، إذا وُجه السؤال بطريقة غير مباشرة. والأمر عينه ينطبق على تونس (+14 نقطة) ومصر (+12 نقطة). والتغيرات في المواقف تجاه الإساءة الدينية، تشير إلى حاجة لثقافة أكثر تسامحاً تجاه حرية التعبير عن مسائل دينية في العالم العربي.
لسوء الحظ، تذهب تجربة قائمة أخرى في الاتجاه الآخر. فحين يوجَّه سؤال مباشر حول الخطاب الناقد للحكومة، يصبح المجيبون في البلدان الثلاثة داعمين جداً، لكن حين يوجَّه سؤال بطريقة لها قدرة أكبر على كشف تفضيلاتهم الحقيقية، يجد الناس الحق في انتقاد الحكومة أقل أهمية. والواقع أن تأييد انتقاد الحكومة يتراجع في مصر (-21 نقطة)، وفي لبنان (-22 نقطة)، وفي تونس (-29). ويشير ذلك إلى دعم أقل للخطاب الذي من شأنه تهديد الوحدة القومية، مقارنةً بما قد يتبادر في البداية.
في حين أن التشكك في الحديث الناقد للحكومة يمكن أن يكون مفهوماً في المواقف السياسية غير المستقرة (وهو وضع وثيق الصلة بالدول الثلاث خلال العقد الأخير)، ينبغي أن يكون انتقاد الحكومة حجر الأساس لحرية التعبير في أي مجتمع ديمقراطي.
وحسب تعبير الصحافي السعودي جمال خاشقجي، الذي اغتالته حكومته على خلفية ممارسته حريته في التعبير، فإن «العرب في أمس الحاجة لحرية التعبير». لكن استطلاعنا يظهر أن الأمر لن يتطلب تغييرات سياسية فحسب، بل يحتاج إلى جهود لتعزيز ثقافة حرية تعبير أكثر متانةً وقوةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...