كانت المرة الأولى في حياتي التي أذهب فيها إلى مغارة "بني عاد" ببلدة "عين فزة" الصغيرة الواقعة بمحافظة تلمسان الحُدودية وعلى بعد 500 كلم غرب الجزائر العاصمة، في رحلة شهر العسل التي كان لها مذاق من نوع خاص جداً لأنها كانت مليئة بالمغامرات.
عند وصولنا قررنا الاستراحة في منطقة تسمى "الرمشي" إحدى البلدات التابعة لمُحافظة تلمسان الجزائرية المعروفة بـ "لؤلؤة المغرب العربي" و"مدينة المساجد العتيقة"، فالوُصولُ إليها لم يكن بالأمر الهين لأن رحلتنا كانت في يوم صيفي شديد الحرارة.
قضينا الليلة الأولى لوصولنا، في منزل خشبي صغير مصنوع من ألواح مُثبتة بمسامير، أما فناؤه الصغير فيُطلُّ على جزيرة "بربجاني" المُتواجدة عند أقصى يمين شاطئ يُسمى بـ"سيدي يُوشع"، وبهذه الجزيرة يتواجدُ أيضًا شاطئ سحري صغير يبلغُ طوله 90 متراً فقط يقعُ محصُوراً بين جبلين في صُورة طبيعية استثنائية، وحسب المعلومات المُتداولة فإن هذا الشاطئ كان يستعملهُ القراصنة في القديم للاختفاء من أجل مُباغتة العدو، وعلى ضفاف هذه الجزيرة تنتشرُ المئات من المنازل التي تعرض خدماتها للسياح المحليين والأجانب بأثمان جدّ معقولة في ظل انعدام المرافق السياحية.
أيقظني زوجي الساعة الخامسة فجراً، هدوء وسكينة ممتعة كانت تخيم على المكان، تمتزج بزقزقة العصافير التي كانت تغني للصباح وشروق الشمس، والفراشات تتراقص على الأزهار والأشجار التي تغطي السفوح الجبلية المحاذية. بلادنا جميلة حقاً زمنظرها بديع تليق بها ألوان العلم الوطني؛ اللون الأبيض الذي يرمزُ للسلام، واللون الأخضر الذي يرمز للتنمية والازدهار وثروات البلاد أما اللون الأحمر فيرمز إلى الشهداء الذين ضحوا من أجل الوطن.
بعد نصف ساعة من المسير، وصلنا إلى مغارة "بني عاد" التي تُصنف الثانية عالمياً من حيث الجمال والديكور
مغارة بني عاد
بعد أن ارتشفنا قهوة الصباح، اتصل زوجي بصديقه الذي رافقنا في مُغامرتنا "المجنونة"، واتجهنا نحو أعالي بلدة صغيرة تسمى "عين فزة" التي تقعُ في شرق مدينة تلمسان بحوالي 10 كلم، وتنتمي إدارياً لدائرة شتوان. الجولة في هذه البلدة وصولاً إلى أعلى قمة فيها حيث تتواجد مغارة "بني عاد" مشياً على الأقدام، وعلى قدر ما كانت مجهدة مثّلت لنا في الوقت ذاته تجربة رائعة يملؤها الكثير من الفضول، فبين قساوة الصخر وزرقة البحر في هذه المدينة الجميلة الي اختيرت لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية سنة 2011، تصفعنا النسمات الجبلية العليلة بين الحين والآخر وتُنسينا أشعة الشمس الحارقة.
بعد نصف ساعة من المسير، وصلنا إلى مغارة "بني عاد" التي تصنف الثانية عالمياً من حيث الجمال والديكور، فهي تعتبر الأولى في منطقة شمال إفريقيا. الولوج إلى هذه المغارة أمر سهل للغاية على عكس المغارات الأخرى التي يُجبر فيها السيّاح على السير مطأطأين الرؤوس ومقوسين الظهور بسبب تلاقي النوازل والصواعد، ولعلَ أبرز ما يميزها طولها الذي يتجاوز 750 متراً، بعمق 57 متراً، وعرض يتجاوز العشرين متراً.
وأهمّ ما يلفت النظر خلال الزيارة هو التجاويف والمنحوتات الطبيعية التي تميز الحجرات، فهي تنافس المنحوتات البشرية المحفورة باليد، وتكتسي باللون الأصفر المائل للحمرة والذي يتحول في العتمة إلى اللون البني. وحسبما كشفه أحمد، الشاب الجزائري في العقد الرابع من العمر، والمشرف على زيارة مجموعة من السياح الأجانب إلى المغارة، فإن تمازج الألوان يعود إلى الرواسب الكلسية التي تتشكل تدريجياً من الهواء الذي تتنفسه المغارات دورياً، وهي نفس الدراسة التي أجراها مجموعة من الباحثين في جامعة فلوريدا الأمريكية إذ أثبتوا من خلال دراسات أجروها أن مُستويات الغاز تكون في حدها الأدني في الشتاء حيث يندفعُ الهواء البارد المُشبع بالرطوبة والضغط العالي إلى داخل الكهف، وهُو ما يتسبب باندفاع الهواء المُخزن الغني بالرادون من الداخل.
ووفق المعلومات التي قدَمها المشرف على الرحلة للسيّاح فإن طول هذه المغارة يبلغ 145 كلم، يمتدّ من مغارة "بومعزة" الواقعة ببلدة "سبدو" جنوب محافظة تلمسان، وتعرف هذه المغارة بصواعدها ونوازلها التي يزداد طُولها بمقدار سنتمتر واحد كل مائة عام، وكذلك منحوتاتها الطبيعية الخلابة، إضافة إلى مياهها العذبة، إلى غاية مغارة "الحوريات" بمدينة وجدة المغربية.
وعن أصل تسميتها كشف أحمد أن إطلاق اسم " بني عاد" على المغارة مستوحى من قوم "عاد"، وهُم قوم سكنوا المغارة، وفي كل مرة يغادرونها ويعودون إليها من جديد، والأمازيغ هم من اكتشفوا المغارة واستقروا فيها.
المغارة جميلة جداً، نشعر فيها وكأننا نسير تحت المطر بسبب قطرات المياه الباردة التي تنزل من صخورها الكلسية العجيبة التي تأخذ شكل أشجار النخيل، فالجو بارد هنا لأن درجة الحرارة ثابتة طوال العام عند 13 درجة مئوية.
أهمّ ما يُلفت النظر خلال الزيارة هو التجاويف والمنحوتات الطبيعية التي تميز الحجرات، فهي تنافس المنحوتات البشرية المحفورة باليد
وبينما نستمر في النزول عبر مسلك ضيق هيأته السلطات المحلية خصيصاً للسياح الراجلين حتى يتم تسهيل عملية اكتشاف هذه المغارة، نستمتع بهديل الحمام الذي يتخذ من زوايا المغارة مسكناً آمناً، فهو يستمر بالهديل لمدة طويلة والدوران حول نفسه ونفخ ريشه الأبيض والأزرق، كاسراً السكون والهدوء الذي يخيم على المكان.
وبمجرد وصولنا إلى أسفل المغارة، تصادفنا قاعة كبيرة يطلق عليها "قاعة السُيوف". سميت كذلك لأنها تضم الآلاف من الصخور النوازل، تشبه إلى حد كبير السيوفَ العربية التي تعتبر تراثاً عربياً وخليجياً، وجزءاً لا يتجزأ من الحضر والبادية. ويطلق على هذه القاعة أيضاً "قاعة المجاهدين" (الثوّار الجزائريون)، حيث اتخذوها مأوى يلجؤون إليه،فكانوا يدخلونها عبر ثقب صغير جداً يربط بين مغارة بني عاد وجبل "عين فزة"، الأمر الذي اكتشفه الاستعمار الفرنسي، وقام بتدمير ذلك الثقب باستعمال الديناميت" ولازالت آثار الجريمة ظاهرة إلى حد اليوم.
وغير بعيد عن هذه القاعة هناك قاعة أخرى تُسمى بـ "قصر الملك" الذي كان يحكم قوم "عاد"، وحسبما هو متداول فقد تم العثور على وثائق تثبت أن الجنس البشري سكن المغارة واستخدم هذا الموقع بشكل ثابت نسبياً، فلا صوت يعلو في هذه القاعات سوى صوت قطرات المياه المُحملة بالكلس وحتى بثنائي أكسيد الكربون، فبفعلها تتشكل ترسبات كلسية، وتحولت بمرور الوقت إلى نوازل صخرية حادة.
وألهمت هذه المشاهد العديد من الشعراء والمُؤرخين الذين زاروا المكان على غرار ابن خلدون وهو أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية والشاعر ابن خميس التلمساني، وكان ملمّاً بالأدب واللغة وأصول الفقه والمذاهب والحكمة والمنطق والطب والتاريخ، إضافة إلى ابن ابي الزرع وهو مؤرخ مغربي في عهد المرنيين صاحب أجمع تاريخ للمغرب منذ قيام الدولة الإدريسية إلى عصره.
كهوف الباز
مغارة أخرى يمكن القول عنها إنها تخبئ الكثير من الحقائق التي تراكمت مع مرور السنين والقرون: "غار الباز"، وهي عبارة عن كهوف مغرية تتواجد خلف أسوار بلدة "زيامة المنصورية" بمحافظة جيجل التي تقع على بعد 400 كلم شرق الجزائر.
في هذه المغارة شعرنا أننا نسير تحت المطر بسبب قطرات المياه الباردة التي تنزل من صخورها الكلسية
واستناداً إلى المعطيات التي تداولها مجموعة من الباحثين فإن المغارة جرى اكتشافها عام 1917 أثناء فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر. وحصل هذا الأمر عن طريق الصدفة، عندما كان عمال إحدى الشركات الفرنسية للإنشاءات العامة بصدد شق نفق يتوسط كورنيش مُحافظة جيجل المُميز بأجراف صخرية مُلامسة للبحر وخضرة غابية كثيفة، أطلق عليه عازف الكمان الشهير أنطونيو لوسيو فيفالدي تسمية "ساحل الياقوت الأزرق"، حيث أدى هذا الثقب إلى التعرف على سلسلة عجيبة ونادرة من الكهوف.
ويصف حسين شاب جزائري في العقد الثالث من عمره وأحد سكان منطقة الزيامة منصورية لرصيف22 المغارةَ بأنها أعجوبة طبيعية لا مثيل لها حتى في القصص والروايات، ويوجد بداخل هذه المغارة قاعة كبيرة طولها 50 متراً وعرضها 60 متراً، تقع بالتحديد في الجهة الجنوبية، فبمجرد دخولنا المغارة تتصادفنا منحوتات رائعة على صخور الكهف على هيئة قصر الكريملين في روسيا وبرج بيزا الإيطالي، إضافة إلى لفظ الجلالة (الله) وتمثال "الحرية" والعديد من التماثيل الرائعة.
وتعتبر كهوف الباز ملجأ للسياح من جميع أنحاء العالم، إذ تستقطب أكثر من 135800 سائح من بينهم 405 أجانب، وذلك في الفترة الممتدة من بداية يوليو/تموز إلى غاية آب/أغسطس حسبما كشفته مسؤولة الحظيرة الوطنية ليليا بودوحان.
وأوضحت ذات المسؤولة بأن ما توفره هذه الكهوف العجيبة من متعة الاكتشاف جعل قرابة 2300 زائر يقصدونها يومياً من مختلف محافظات الوطن وحتى من خارجه، وأضافت ذات المتحدثة أن من بين الأجانب الذين توافدوا على هذه الكهوف إيطاليون وإسبان وفرنسيون إضافة إلى تونسيين وليبيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...